بقلم: عبد القادر صيد
أصاب سيارته عطب ، فخُيل إليه أن الدنيا توقفت،
ما كان ليبتئس إلى هذه الدرجة لو كسرت رجل أمه ، و انزوت في ركن من المنزل ، متحير فيما سيفعل و كأنه خرج من بطن أمه بسيارته
، لم يستسغ تصور نفسه و هو يزاحم الناس و يزاحمونه ، إنه رجوع لسنوات البؤس و المعاناة..
اتفق مع صديقه أن يأتيه إلى المنزل ليوصله إلى مقر عمله الذي هو في بلدية قريبة . في
الطريق رآه يتوقف لأناس لا يعرفهم ، يركبون، و ينزلون كأنها ملك آبائهم، اندهش من هذا السذاجة
، و قال :
ـ أنا لا أثق فيمن
لا أعرفهم..
ـ لم يسبق لك و
أن صعد سيارتك أحد في الطريق ؟!
ـ أبدا.. يستحيل!
ـ أنا أتوقف فقط
لمن أتفرس في وجهه الطيبة ، و أرى أنه ابن ناس..
ـ سيأتي يوم و
تندم على ما تفعله ، فأنت تجازف بحياتك و بسيارتك..
ـ ليكن ذلك ،فالدنيا من غير مجازفة كيف سيكون طعمها؟ثم
هؤلاء لا أوصلهم بغير مقابل ، فأنا أستأنس بحديثهم ، و أتعلم منهم أمورا عن مناطقهم
و أعراشهم ، و أستمع إلى شكواهم فأنسى أنيني ..
و كم من مرة ركب معي أشخاص و اكتشفت أن بيني و بينهم قرابة من بعيد ..
ـ من بعيد ..من
بعيد ..
غناها صاحبه بلهجة
استهزاء مقززة..
لم تكن مشكلته في واقع الأمر قضية ثقة أو أمن
، و إنما مشكلته عدم استيعابه إمكانية سماح شخص مثله من
نسل الشرفاء القائدين للسيارات الفاخرة للحثالة بتدنيس سيارته ، فكان يحدث نفسه :
ـ كيف أُصعد
أناسا صعاليك إلى سيارتي ؟ يمكنهم ركوب
سيارة أجرة أو انتظار أي حافلة ستمر بعد قليل .. قليل من الصبر لم يقتل أحدا ..أضف
إلى ذلك فالناس درجات ، و هؤلاء ليسوا من درجتي..
بعد أن صلّح سيارته بأيام، راودته فكرة التوقف
لأحدهم ، ليس بنية فعل الخير ، و لا من منطلق
الشفقة و التعاطف بقدر ما كانت تجربة إحساس
جديد ، نوع من الفضول يزاحم به صديقه في شعوره ، و تنازل من علياء الراكبين إلى عالم
الراجلين.. مرت أيام و هو لا يجد من يناسبه أو يرضى عنه ، وأخيرا رأى عجوزا تجاوزت
الثمانين ،توقف لها ، ركبت دعت له في الطريق دعوات تكفيه و تكفي أحفاده، و عندما نزلت ، أغلقت الباب على
أصابعها .. صاحت ألما،لم يعرف ما دهاها .. صرخت في وجهه :
ـ افتح الباب فورا
..أصابعي أصابعي..
فهم أخيرا الأمر ، فسارع إلى فتح الباب ، لعنته في قلبها لعنات وصلت أسماع أجداده ، لكنها ابتسمت على مرارة في
وجهه :
ـ رب يبارك فيك
يا بني ، و يعطيك قدّ قلبك..
جالت في نفسه خواطر مختلفة و متناقضة ..ترى هل هي محظ الصدفة
؟ أم هي رسالة تحذير؟
قرر أن يعيد الكرة متى سنحت الفرصة ،فالرسالة بالنسبة
إليه لم تكن واضحة .. يمر الآن على شخص يبدو بائسا ، حدثته نفسه :
ـ هيا نجرب الفكرة
من جديد ..فلعله و عسى ..
ما كاد الشخص البائس يركب حتى رفع في وجهه سكينا و سلبه كل ما يحمل من النقود ، حتى مذياع السيارة
انتزعه من مكانه ..بالكاد التقط أنفاسه .. حمد الله على أنه لم يترك له علامة في وجهه توثق الحادثة، أو يسرق منه السيارة ..
صعب أن يفكر في إعادة التجربة ، لكنه قرر أن يعيدها
، و بنفس النية ، لتكن المحاولة الثالثة ،فلقد اصطلح الناس ضمنيا على أن يأخذوا العبرة من الثالثة ..
توقف لشخص آخر، إنه شاب مهذب هذه المرة ، أنيق
اللباس لا شبهة فيه ،فلا هو عجوز و لا بائس..ما
كاد الشاب يدخل حتى دخل معه شخص آخر ، و دفعه بعنف ، و قال :
ـ هيا أخي ارجع
مباشرة إلى الشرطة ، فإن هذا الشاب
سرق مني هاتفي النقال ..
ـ انزله ، و تفاهما
خارج السيارة ..
ـ لا يمكنني ذلك
، سيهرب مني ..
ـ لا يهمني الأمر..هيا
انزلا أنتما الاثنان..
ـ أنت إذن شريكه
..
عندما سمع هذا الاتهام ، تنازل عن مضض ، و رجع أدراجه
إلى أقرب مركز للشرطة ، حيث لم ينقذه إلا تصريح الشاب السارق بأنه لا علاقة له به ،
و إنما هو مجرد فاعل خير.. سمع في مقر الشرطة من اللوم و النصح و التحذير ما جعله موسوعة في الاحتياطات الأمنية
..
قرر أخيرا عدم التوقف لأي شخص مهما كان ،أما صديقه
فإلى غاية الساعة ما زال يتوقف لأناس لا يعرفهم ، فلا يرفعون في وجهه سكينا ، و لا
يصيبون أصابعهم ، و لا يلاحقهم أحد بتهمة السرقة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق