كادر خارج المشهد
أحمد طوسون
لم يكن يعرف أن قدميه ستقودانه إلى تلك الأصقاع الباردة مع اقتراب الرحلة من نهايتها.. هبت ريح خريفية، فتطايرت حوله أوراق صفراء ذابلة شعر بها تلامس قلبه.
عاد يجر خطواته على أرض باردة ومبتلة.
ترددت في أذنيه كلمات الزملاء فلفحه صقيع، ظل يستمع ويلعق شفتيه دون أن يقول شيئا.. بدوا كأنهم رأوا الموت يلامسه بجناحيه.
" إن كان لابد من البتر.. يحسن إحكام حد السكين دون استخدام أي مخدر "
يده اليمنى خرجت تحمل ساعة الحائط ومصحف كتب بماء الذهب، جمعوا ثمنهما من العاملين والزملاء على وعد أن ينالوا نفس المعاملة والتقدير مستقبلا.
عند الباب لم يستخدم مفتاحه.. بقبضة كفه الشمال دق دقات خفيفة على الشراعة الزجاجية.
كان الباب ثقيلا وهو يدفعه.
زحزحه شيئا فشيئا.
لم ينشغل بتدافع ولديه إلى حضنه أو بالقبلة التي طبعتها ابنته فوق جبينه.
زوجته قالت وهي تنظر نحوه بابتسامة مواسية:
- مبروك يا سعد
لا يعرف لم استعاد في هذه اللحظة مشهد عودته من الجبهة.. وشيش صوت قادم من الذاكرة يطن في أذنيه:
- سعد رجع.. سعد رجع
- ...................
- البطل عاد بالسلامة
دوت الزغاريد في الحارة.. رقصت النوافذ والشرفات.. تلقفته أحضان الأهل والأصحاب والجيران.
زجاجات الشربات مرت على الحلوق وروتها بالفرحة.
من بين كل العيون التي احتضنته بحث عن عيني هنـد..
ما الذي أخرها عنه ؟
لم يجد أباه فوق مقعده أمام الباب ينتظره كعادته!
- أبى..
- أين أبى يا عاصم ؟
خطفه أخوه من بين ذراعيه إلى الراقد في صمت يكابد قهر المرض وحيدا بجوف الدار.. ألقى جسده الذي يفوح برائحة الرمل والبارود وفرحة الانتصار في حضن أبيه ومسح دمعتين ثقيلتين عن عينيه.
.......................
- الله يرحمك يا أبى.
تهاوى فوق كرسي خيزران يحتل واجهة الصالة.
شعر بقلبه يكبر و يرتجف داخله وهو يتأمل - في صمت - الساعة تحتل مكانها وتتأرجح على مسمار الحائط إلى جوار صورة أبيه.
طوال عمره يسخر من إسراف الناس في استخدام الساعات.
قال لنفسه:
- ليتنا نعرف قيمة الزمن؟!
الوقت هو الشيء الوحيد الذي لا تصل إليه يده.
ابنه أشار ناحية ساعة الحائط وقال بثقة:
- هنا تستطيع أن تراها من أي مكان بالصالة
" لو فكر الزملاء لتراجعوا عن فكرة تقديم راصد الزمن كهدية.. بالأخص عند الخروج إلى المعاش.. قيمة الوقت تتجلى عندما تصبح اللحظة حاسمة في حياة الرجال ومصيرهم "
يشعر بأزيز الماضي يطن في أذنيه بلا هوادة.
من قاع سحيق في الذاكرة تعاود كلمات الرائد جمال رنينها في أذنيه.
( الجندي بعد أداء مهمته لا ينتظر الشكر من أحد.. عليه أن يجلس إلى نفسه.. يفكر ويتأمل ويستعد لمعركة جديدة.. معركة كل لحظة فيها تعني حياته وحياة أمته).
كلمات اعتاد وأصحابه سماعها بعد كل عملية تقوم بها الكتيبة حتى حفظوها.
" ترى أين أنت الآن أيها الرفيق.. وأين الأصحاب البواسل؟! "
- قم لنتغدى.
الأولاد أصروا أن نذبح بطة
احتفالا بخروجك إلى المعاش.
قالت الزوجة كلماتها وربتت على رأسه الأشيب.
نهض من على كرسيه كمن يحمل أثقال الدنيا فوق كتفيه.. حاول أن يتحاشى النظر إلى عيون أولاده وقال:
- كلوا أنتم
لم يقصد أن يلقي بمسحة من حزنه ونشيجه في وجوههم.. كان يريد أن يدفع الكلمات التي تختنق بين شفتيه دون أن يشعر أحد بالغصة التي في قلبه أو يشاركه أحد المرارة التي تعتمل في حلقه.
لكن كلماته خرجت حادة وقوية كدانة مدفع.
- لكن يا بابا..
سحب قدميه بصعوبة وجرهما إلى حجرته وأغلقها عليه.. فتح ضلفتي دولابه ووضع المصحف فوق أوراقه التي يظنها مهمة.
من بينها أطلت برأسها عشرات الأعوام المركونة.
شهادة الميلاد، استمارات النجاح في الابتدائية والإعدادية والبكالوريا، شهادات التقدير وأنواط الشجاعة.
بقايا أسلحة تخص العدو احتفظ بها.
قسيمة زواج وشهادات ميلاد الأولاد.. دفتر قديم قيد فيه أسماء وعناوين الرفاق الذين خاضوا الحرب معه.
تأمل سترة الميدان، الأفرول الذي مسح الزمن لونه رغم كل المحاولات التي بذلها للحفاظ عليه.
- لا شيء يبقى على حاله!
هكذا قال الرائد جمال حين زاره سعد بعد تسريحه من الخدمة.
" في الإجازات المتعاقبة لم يستطع أن يزوره بالمستشفى.. لم يستطع أن يتخيله بغير الصورة التي أعتادها عليه.
يتقدم الكتيبة في الميدان.. يجمع ما تيسر من أرواح الشهداء، يشتم أنفاسهم فتهبه قوة وقدرة على فعل أي شيء.
يصول يجول ولا يكل.
حتى أصابته تلك الدانة اللعينة في إحدى العمليات."
لم يعرف بأي كلمات سيتفوه وكيف سيحجب الدمع في مقلتيه حين يراه مقيدا فوق كرسيه المتحرك؟
لكنه وجده كعادته لم يتغير فيه شيء.
نفس الصلابة والبريق الذي لا ينطفئ في عينيه.
كان الأقوى والأكثر تماسكا والمدرك لحقيقة ما تحمله الأيام القادمة في جعبتها.
تعانقا طويلا.
مسح بأنامله دمعتين سقطتا من عيني سعد وتطلع من خصاص النافذة إلى ظلال الأشجار التي حركتها الريح.
سأله عن أحواله.
سأله عن صاحبة الصورة التي يحتفظ بها في حافظته وهل تزوجا؟
" إذا كان الرائد جمال مازال يذكر هند، هل أستطيع أن أنساها! "
تعجب أن قائده مازال يتذكر كل صغيرة وكبيرة عن جنوده.
صمت سعد صمتا أقرب إلى النحيب.. ربت الرائد جمال على قدميه الملاصقتين لكرسيه المتحرك وقال:
- لاشيء يبقى على حاله
- حتى المشاعر تتبدل
.................................
نطق سعد بغصة في الروح والقلب:
- وأحيانا الظروف!
" لم يكن بإمكانها الانتظار كل هذه السنين.. الحرب انتظار في انتظار.. لا أحد يعرف تاريخ البداية ولا تاريخ النهاية.. من الذي سيعود ومتى وبأي صورة سيعود "
سأله الرائد جمال عن باقي أفراد الكتيبة وأخبار الأيام التي قضوها بعد إصابته.
سنوات مرت منذ انتهاء الحرب.. كثير من جنود الكتيبة وضباطها زاروه وحكوا عن أيام الحرب وما بعدها.
لكنه شعر بسعادة وهو يعيد على مسامعه التفاصيل الصغيرة.
- وأخبارك يا سعد..
- اشتغلت ؟!
لم ينطق سعد.
ماذا عساه أن يقول ؟
حين رأى الفرحة في عيون الناس ظن أن كل شيء سيتغير.. كثيرون شككوا في قدرتنا بعد الهزيمة، لكننا فعلناها وانتصرنا.
بمرور الشهور والسنوات نسى الناس الحرب ورجالها.
تعـلم في الجيـش أن العطاء بقـدر العمل، لكنـه لا يعرف إن كان يعـمل أم لا؟!
- أذهب في الصباح لأوقع في دفتر الحضور
- وآخر الشهر أقبض راتبي !
ضحك الرائد جمال حتى بانت أسنانه، ثم للحظات ساد صمت حزين.
...............................
- تخيل يا سعد عرضوا علىّ العمل بجمعية زراعية!
- أنت يا فندم؟!
- قالوا: عليك أن تسلم سلاحك وسيصلك المعاش أول كل شهر
- ...........................
- حين قلت لهم إن ذلك معناه أن أسلم روحي لهم..
- قالوا أنني أديت وأجبى بشرف!!
- ............................
- تأملوا قدميّ المبتورتين وقالوا إن الحرب انتهت!
- لكنني لم أمت بعد؟!
- قالوا يمكنك أن تختار أي عمل تريده
- في جمعية زراعية.. وحدة محلية.. أو مركز شباب!
"دانة مدفع أو طلقة رصاصة أو شظية قنبلة يمكنها أن تبعدك عن الميدان إلى الأبد"
زفر سعد بحرقة وهو يتأمل التراب ينتشر ويغطى أشياءه الحميمة بغلاله ناعمة.
لم يصدق وهو يتأمل نتيجة الحائط أن ثلاثين عاما مرت على الحرب، أيام لم يبق منها إلا رمادها.
لا يعرف لم طاردته صورة أحد رجال المقاومة وهو يستعرض على شاشة التلفزيون الأسلحة التي يحتفظ بها منذ الحرب.
قال: إن الرئيس السادات وقف في مجلس الشعب وقال إننا لن ننسى أبطال المقاومة الشعبية وما فعلوه في السويس وسنكرمهم التكريم اللائق.
بعدها أرسلوا إلينا.
حملنا فرحتنا وزهونا وذهبنا إلى الاحتفال، جلسنا في مقاعدنا خلف الصفوف، نشد على أيدي بعضنا البعض.
لم ينتبه أحد لوجودنا إلا عندما نادوا على أسمائنا وصعدنا إلى خشبة المسرح.
مدت السيدة "جيهان" يدها وأعطتنا شهادات التقدير وشهادات استثمار بعشرة جنيهات وضوى فلاش كاميرات كثيرة فلم نستطع أن نفتح عيوننا.
قال مقدم البرنامج متعجبا:
- عشرة جنيها...ت؟!
...................................
شج قلبه ألم قديم.
حارب وفقد حبيبته وأباه وبعد كل السنوات التي قضاها في وظيفته أعطوه ساعة حائط!!
" ستون عاما كفيلة بأن تجعلك تجلس في بيتك ترقب عقارب الزمن وتنتظر نهايتك المحتومة"
أغلق ضلفتى الذاكرة.. طفا في داخله حزن ثقيل مباغت.
لم يكن يعرف ماذا ينوي في هذه اللحظات.
شعر بنفاذ الهواء من حجرته.
وهو يعبر الصالة إلى باب الشقة بالكاد لمح أشباح لأولاده وزوجته.
سمع وهو ينزل درجات السلم فئران تصيء وقطط تموء وكلابًا تنبح.
من بعيد شاهد شبحا مهولا يفرش الأرض بظلام كثيف.
في الشوارع لمح وجوها لغرباء كثيرين!.
على المقاهي ألتف الناس حول الفضائيات يتتبعون الأخبار في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان.
واجهات المحلات تتلألأ بأنوار ملونة وأسماء غريبة لكنها لا تزيح الظلام الجاثم.
أسرع الخطى دون هدف.
ظلت قدماه تحملاه وتسير حتى وصل إلى النهر.
تلمس سياج الكورنيش وسار معه.
سرى إلى سمعه لحن مألوف.. أصغى السمع وسط ضجيج المارة وصافرات السيارات وأغاني الكاسيت الهابطة التي تنبعث من كل مكان.
واصل السير ناحية اللحن الشجي.
"عبرنا الهزيمة.. يا مصر يا عظيمة"
يملأ الهواء صدره.
زحفت إلى جسده ذكريات جميلة.. شعر بجسده خفيفا، يكاد يطير ويلامس السماء.
عندما وصل إلى الصفوف المزدحمة على ضفة النهر نقر على كتف أحدهم بإصبعه وسأله عن السبب في التفافهم حول النهر؟
أشار له ناحية القوارب التي تقدم استعراضاتها والمسرح المعد للاحتفال ورجال المظلات الذين يقفزون إلى النهر:
- اليوم يحتفلون بذكرى النصر.
تأمل وجه الشاب الذي سأله وملامحه، وجده في عمر ابنه محمود ويشبهه.. نظر إليه بدهشة وقال:
- والله يا ابني حاجة جميلة إنهم فاكرين أبطالنا!
نظر إليه الشاب باستغراب وقال:
- طبعا!!
- طيب يا ابنى تعرف مصطفى هاشم؟
- مصطفى هاشم مين؟
- مصطفى هاشم وغريب محمد على ومحمد عبد ربه وعم غزالي*
- ودول يطلعوا مين يا عم
بيغنوا ولا ناس من أيام (أبو الهول)؟!
- ..........................
- مش مهم يا ابني
- لا تؤاخذني!!..
- لا تؤاخذني!!
ظل لسانه يردد "لا تؤاخذني" كتسبيح بين شفتيه وقدماه تنسحبان من وسط الزحام.
دون أن يشعر أحس بالدوار يلف رأسه.
جمع ما تبقى من رذاذ الصبر المتساقط من السماء في جيوبه وسار حتى وجد مقعدا خاليا على النهر.
تابع السماء التي انقشعت سحاباتها وضوت بها نجمات وحيدة.. نقر بأصابعه على المقعد الذي جلس فوقه ودندن بصوت مسموع رغم الصقيع.
"وعضم ولادنا.. نلمه نلمه
ونعمل منه مدافع"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق