بقلم: د.صديق الحكيم
(1)
منذ مدة والعبد الضعيف يريد أن يكتب عن أدب الرحلات مجموعة من المقالات إحياءا لهذا النوع من الأدب الذي تراجع في الآونة الأخيرة لكن الظروف السياسية الحاصلة في المحروسة تؤجل الكتابة يوم بعد يوم  لكن اليوم عزمت وتوكلت علي الله والغريب أنني وجدت علاقة ما بين أدب الرحلات أو السفرنامة بالفارسية وبين السياسة نامه  وبالبحث عرفت أن كلمة ( نامه ) الفارسية تعريبها هو كتاب ووجدت أيضا أن السفر نامه والسياسة نامه هما كتابين للرحالة الفارسي الشهير ناصر خسرو وكانت أول معرفتي بهذا الرحالة العظيم هو مقال لأستاذنا الكبير فهمي هويدي  بعنوان سفرنامه في مصر نشر بصحيفة الرؤية الكويتية بتاريخ 18 أبريل 2009 وقد نقل فيه الأستاذ هويدي عن د.محمد السعيد جمال الدين الأستاذ بقسم الدراسات الشرقية في جامعة عين شمس، الذي خصص فصلا لناصر خسرو في كتاب جميل له بعنوان «جمع ما تعرف»، وللقارئ حرية الاختيار بين الاستمتاع بقراءة موجز للسفرنامة لناصر خسرو أو يربط بين هذه السطور وبين مايمكن أن يسطر في مصرنامه هذه الأيام  إذن علي الكاتب السطور وللقارئ مايريد فهو دائما علي حق
(2)
ما تحدث به ناصرخسرو قبل ألف عام عن مصر يبدو في أعين أهل زماننا من الغرائب التي ترشح للنشر تحت عنوان «صدق أو لا تصدق». فقد اعتبرها نموذجا للمدينة الفاضلة هكذا قال التي يرأسها حاكم عادل لا حدود لشفقته ورأفته بالناس. لا يظلم أحدا ولا يطمع في مال أحد. لذلك لم يكن أحد يخفي شيئا من أمواله. بل إن الأغنياء كانوا يعرضون أموالهم على الخليفة في أيام الشدة حين يتناقص النيل للوفاء بأرزاق الناس. لأن الخليفة لم يكن يأخذ الخراج عند انخفاض النيل، وذات مرة جاء أحد أغنياء النصارى بما عنده من غلة تبرعا للناس، فكفتهم الغلة زمنا طويلا.
(3)
أما الوزير في مصر فقد رآه يمتاز عن الجميع بالزهد والورع والعقل. ويتقاضى القضاة رواتب عالية لكي لا يطمعوا في أموال الناس ولا يحيدوا عن الحق. أما أهل مصر فيعيشون في بحبوبة من العيش وغنى عظيم. حتى قال إنه يخشى أن يذكر بعض الأرقام التي يملكها بعض المصريين من مال فلا يصدقه أحد في فارس. وقد انعكس الرغد على أخلاق الناس، فاتصفوا بالأمانة والشهامة والمروءة الجامعة لخصال الخير كلها.
(4)
وصف خسرو في كتابه أول مدينة للتجارة الحرة في العالم، كانت تسمى «تنيس» قريبة من دمياط، حيث تفد إليها السفن محملة بالبضائع من جميع أنحاء العالم، ولا تجبى فيها أي ضرائب. وتحدث عن وفرة السلع في البلاد وكثرة الأسواق التي تجلب إليها البضائع من أنحاء العالم. وعن الصدق في التجارة وعن المصانع التي تتميز بها مصر التي تنتج السكر والمنسوجات..وعلى عكس ما رآه في بلاد فارس، فقد وجد في مصر أمانا أثار انتباهه، حتى لاحظ أن تجار المجوهرات والصيارفة لا يغلقون أبواب دكاكينهم بل يسدلون عليها الستائر.
(5)
تحدث ناصر خسرو عن النيل وقارنه بنهر جيحون في بلاده، واعتبر أن المقارنة تظلم النيل. كما تحدث عن المباني شاهقة الارتفاع التي تبلغ 14 طابقا، وعن المساجد عظيمة الاتساع كمسجد عمرو بن العاص الذي كان يرتاده كل يوم 5 آلاف من طلاب العلم والغرباء. ووصف الحدائق التي أقيمت فوق أسطح المنازل، والحدائق العامة الأخرى التي انتشرت في أنحاء المدينة.
(6)
أهم ما وجده ناصر خسرو في مصر قبل ألف عام وحرص على وصفه بكل دقة وإعجاب هو العلم والتعليم. فالإمام معلم وقصره مدرسة. وقاضي القضاة معلم والوزير معلم والمسجد للصلاة والتعليم. ودور الحكمة بها قاعات للاطلاع وقاعات للدرس. وأبواب الأزهر مفتوحة للجميع، حيث دأب الناس على الإقبال عليه في كل مكان، ومنهم أبناء الملوك والأمراء من المغرب واليمن والروم والصقالبة والهند وجورجيا وتركستان وغيرها. كان الأزهر وقتذاك يدرس المذهب الفاطمي. وقد درسه ناصر خسرو وتمكن منه، حتى عاد إلى بلاده إنسانا مختلفا تماما، عالما وفيلسوفا، بارعا في المحاجة والجدل، وداعية لا يشق له غبار.
وفي الختام
والسؤال ماذا لوعاد صاحب السفرنامه اليوم  إلي مصر ماذا سيكتب عنها؟
أعتقد أنه كان سيموت كمدا مماسيري اليوم بعد كل ماسطر من أوصاف المحروسة في كتابه الشائق ... حفظ الله مصر وشعبها وأسبغ علينا نعمه