سيغماتا الحنين والوفاء
الدكتور يوسف عيد
دار نعمان للثَّقافة
أنيس مسلِّم، كاهن الزواج، يكتبُ بماء الورد، بماء الزهر، بماء الوجد،
بماء الوفاء. يؤكِّدُ أنَّ الزواجَ وساطة بين الأرض والسماء، آن فقدَ زوجَه
"جاكلين"*. بماء الحب كتب، بماء الشمس يكتب. لذلك، أوتاره لم تكن إلاَّ
ذبيحة كهنوت كرَّسها الله بهذا السرّ العجيب، حين جعلَ الجسدَين جسدًا واحدًا
والروحين روحًا واحدة.
ولماذا أكتبُ عن الأنيس في أوتاره؟ لأنَّه صديقي، وهو صديق صاحب الدار
الذي أهداني الكتاب، ناجي نعمان، الدار التي كرَّمت الأنيس لِسنوات خلت. ولأنَّه
أب الوليد الزميل في كليَّة الآداب – الفنار، ولأنَّني ارتشفته ذات صباح فعطَّر
حبري وملأ أوراقي بالشجن، بالحب، بالوفاء، بالعزاء. ولأنَّ مصابه ليس له وحده، بل
هو مصابنا، ولأن... لذلك أكتب.
أوتاره وردة حمراء حملها بخشوع الروح إلى الزوج "جاكلين" التي
كانت تعشق احمرار الورد، وهو يعرفُ أنَّ الورد يعشق الورد. إذًا، بماء الحياة،
بحبر البقاء، بعصب الانفعال بعد رحيل الوردة يكتب. بماء الشكر لتبقى الخميرة،
لتبقى شمس البيت مشرقة، يكتب.
لقد فهم الأنيس وأفهمنا، أنَّ الزواج خدمة ورسالة وعبادة، وليس حرفة أو
مهنة أو نزوة أو وظيفة أو كما يحب أهل الهوى والمشتهى. لذلك يشدّد على رسوليَّة
الزواج وسرّه، والزوج كالكاهن الذي يقيم ذبيحة الجسد كلّ يوم، لا ليقضي على مبدإ
الخطيئة، بل ليتناول السرّ إكسير الحياة الزوجيَّة. خمسون سنة أمضاها الأنيس برفقة
أنيسه انطوت كلُحيظة، وما أقواه الزمن السائر، والذي نحسبه في برق الرجاء أنَّه
توقَّف عند فقدنا مَن نحب. الموت دعوة إلى التأمّل في معارج الأبديَّة، وحالة
الأسى العميقة لا توازيها كلمات. الوفاء أعجوبة مذهلة، لا يعلوها إلاَّ الله، إذ
لا خلاص إلاَّ به. الوفاء ليس حبرًا يُدلق على وريقات، إنَّما هو ذبيحة كهنوتيَّة
زواجيَّة، تحاول إنقاذ الأبديَّة من ظلمات الواقع. أمَّا إذا كان التعويض بالأولاد
والأحفاد، فالذبيحة تتواصل، لأنَّ عدَّة القداس دائمة؛ وإن غابت الخمرة الأرضيَّة
فخمرة المحبَّة، شراب الملائكة، وريق الله ما زالا مؤهَّلَين في قلب الأنيس
لديمومة الكهنوت.
بماء الروح من أجل الخلود، بماء الرجاء من أجل العيش غدًا، يكتب الأنيس.
***
"على أوتار الحنين" ليس كتابًا يقرأ وحسب، إنَّه درسٌ في
التعافي، درس في الرجاء، درس في الإيمان، درس في الأخلاق الإنسانيَّة، درس في
الطيبة والوداعة والتواضع وحب الحياة. درس في الأبوَّة الصالحة، والبنوَّة
المثاليَّة: فرحيل "جاكي" أعاد إلى الوجود "رحيل الأم" وقد
تلاقيتا في القيامة الموعودة وفي قلب الزوج والابن. رحيلها هو لقاء الملكوت
بالملكوت، ولقاء الناسوت بالناسوت. فالملكوت يملؤه الروح، أمّا الناسوت ففيه فجوة
الزمن حيث لا تملؤها جمرات الحَطَبة التي اشتعلت في موقد الزواج، لتدفئ الأركان.
الملكوت أمر مُضمَرٌ والناسوت أمرٌ مُقْهَر. هناك لا حزن ولا فرح، لا غضب ولا
سلام، هناك في وجه الله. وهنا حزن وغضب وفرح وتعاسة، وهواجس ومخاوف، لأنَّنا في
وجه الزوال.
يا صديقنا الأنيس، ويا صديق الدار وصاحبها: إن بقيت أكتب عن الحزن الذي
نشَّف ريق قلبك على رحيل الزوج، من الآن وإلى الأبد، فلن يجفّ حبري، ولن أرضى
عمَّا أكتب، لأنَّكَ بهذه الباقة الوتريَّة أرَّجت الفضائل، وأنبعت الحنين الذي
يتفجَّر، عند القراءة، في قلب كلّ مُلتاع. الفرح، يا صديقنا، زوَّادة اللحظة،
أمَّا الحزن فهو زوَّادة الدهر. باسم الإنسان كتبتَ، باسم الحريَّة والحق، باسم
الجمال، بماء الخاطرة الذي رسم ردبًا ووشمًا، كتبت. إخلعْ عنكَ الرَّدبَ وابقِ
الوشمَ دربًا.
***
أيُّها الكاهنُ، يا أبا الوليد الذي يواظبُ على ذبيحته، لكَ السلام.
مذبحك، بيتك، أولادك، أحفادك، محبّوك لا يزالون بحاجة ماسَّة إلى كهنوتك.
من الطبيعي عندك أن تتفجَّرَ الأوتار؛ إذ ما جمعه الله لا يفرِّقه إنسان، لكن من
غير الطبيعي ألاَّ تهيِّئَ للوليد سيمفونيَّة الحنين يعزفُها، كما يعزف الكاروبيم
أناشيدهم على مسمَع الله. بماء الشكر لقسيمتك أمام الله والقربان المقدَّس، تكتبُ
الردَّ على الزمن وتتغلَّبُ عليه.
بماء المشيئة، لا يكتبُ الحنينَ أو عنه أو فيه أنيس مسلِّم، إنَّما يكتبُ
سيغماتا الحنين ومنها، والحنين يكتبُه وقد كتبَه لنا.
يا وترًا من أوتار الحنين، لكَ منَّا المحبَّة والسلام.
*
أنيس مسلِّم، على أوتار الحنين، التعاونيَّة اللبنانيَّة للتأليف والنشر، دار
نعمان للثَّقافة، 2013.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق