2013/08/03

"ملك الموت يطوف" بقلم: هشام جلال أبو سعدة



ملك الموت يطوف
هشام جلال أبو سعدة
نصف نائم أمام جهاز البث الفضائي قديم الطراز في غرفة نومه في الفندق، مُتعجبًا من أنهم ما زالوا يستعملون تلك الأجهزة البدائية، مُلتفتًا لحاسوبه، واضعه في حضنه كعادته، يفتحه، معاودًا قراءة  ما دونه آدم في المخطوط الأول.
في العام (2036م) الهبة الخامسة لوباء إنفلونزا الحمير. صارت جائحة، عمت لتنتشر في أنحاء البلاد، لحد ما باتت مُنذرة بدمارٍ شاملٍ للجنس البشري في هذه المنطقة من العالم. تحديدًا لتجيء متوافقة مع الرجفة الأرضية السابعة، فائقة الشدة، البالغة (12 رختر). تمزقت الأرضيات وانهارات الكباري المُتهالكة، ليتغير المناخ، فيفيض المحيط الهندي، لتختفي الدلتات عند المنابع، فتُلغى هيئة الأرصاد الجوية. ليأتي هذا العام ليكون من أشد الأعوام هولًا وتحولًا تجاه القولان (= القيل والقال)، الغيت فيه وزارة الأوبئة والفيروسات لعدم توافر الطعوم، وإن كانت متوفرة فهي فاسدة بمعنى الكلمة، كما هاجر العلماء الثلاثة المتبقين المختصين في تلك العلوم خارج البلاد، فحصلوا على جوائز في بلاد الغربة الفاهمة. تبعهم العلماء الآخرون المتبقون ممن كانوا لم يغادروا، يعني هيفضلوا في البلد يعملوا إيه؟
.. فشلت الدولة بالكلية في تكوين كوادر علمية مُختصة أخرى، لتفرغها بكاملِ طاقتها في وسائل الإعلام والإعلان لإعداد وتقديم البرامج الحوارية الملهية للشعب، مع التركيز على الأقوال المأثورة المتكررة للنُخبة الحاكمة. فلما فشلوا في كافة شيء، ركزوا على الكلام. حَتَّى أن مفكرًا كبيرًا خرج في برنامجٍ حواري، لتكون مقولته المآثورة، "أرض الوطن لن تمر بفترة أسوأ مما هي عليه الآن أبدًا". ليخرج واحد من التابعين، ليفرد برنامج كامل مدته سبع ساعات متواصلة في محاولة لتحميل مسؤولية الفشل العام نتيجة زيادة السكان، يعني نتيجة الإنجاب، فكان محل استياء شعب أكثر من نصفه من غيرِّ المتزوجين وليس لديهم أطفال، يعني هيجيبوا أطفال من غيرِّ زواج إزاي، عرف المؤلف أن عددًا كبيرًا جدًا، أجل كبيرًا جدًا، من البنات بينتحروا في كُل عام هربًا من العنوسة، نفسهم يمارسوا الجنس ولو لمرّة واحدة، فماتوا كفارًا، ارحمنا يا رّب. لينهمك المسؤولون الكبار في إعداد المسلسلات التليفزيونية، أجزاء ورا أجزاء لمزيد من الإلهاء، بلغت في هذا العام ثمانون مسلسلًا غالبها من (الست. كوم)، ضحك خائب وهبل وعبط وختل، المهم الناس تمثل والإعلانات تزيد. كما تخللها ما يناهز الستون برنامجًا حواريًا ملأنة بإعلاناتٍ فجة مُقززة مُملة. في ذلك التاريخ ألغيت معاهدة تداول الأدوية بين دول الشمال الغنية ودولة أرض الحكائين الفقيرة نسبيًا (ليس في الأموال إنما في العقول)، فحلت مآساة الطعوم الفاسدة لتُصبح في أوجها في العام الستة والثلاثون اشترك فيها النخبة الطبية، تُساندها البرامج الحوارية ذات المصلحة العليا، فما كان من البعض (لم يعرفوا من لحَتَّى تاريخه) إلّا أن قاموا بحريق هائل طال أنحاء الدولة الإعلامية: أب الدنيا". استمر الحال على ما هو عليه محسوبية وفتنة ولهيب كلمات ولقاءات وحوارات من دون داع، لحَتَّى اشرآبت أعناق المواطنين من كثرة اللغط الدائر وحُمى لجاجة الحوار.. فكان العام (2037م) أول إحساس بخطر فناء الجنس البشري.
-                      خطر فناء الجنس البشري!! .. آلهذا الحد؟
مُرددا حكيم بصوتٍ عالٍ مُنزعجًا ينتفض في غرفة نومه في فندقه المطل على شاطئ بحر الإسكندرية، المدينة العتيقة، لتعود إليه الحالة التي تنتابه كلما جاء ذكر انتهاء الحياة، فيحس بوجود ملك الموت عليه السلام يطوف. لم يكد يتناول الحبات التي وصفها له الطبيب إلّا بان له الملاك عزرائيل قابض الأرواح، يتبين له في شبه إحاطة رغوية من الدخان خليط بين الأزرق والأبيض، لم ير ألوانًا أخرى غيرهما في الحقيقة، خُيل له أنه يتحدث إليه في شجاعة نادرة:
-                      آبالفعل حانت لحظة المغادرة؟
-                      لم تأت اللحظة.
-                      حضرت لتأخذني؟
-                      أنتَ في كُلِّ مرّة تدعونا، .. فترانا.
-                      أنا؟ .. أبدًا... لم أفعل!..  فكلما جاء ذكر الموت أمامي تذكرتك.
ضاحكًا ملك الموت بهدوئه المعتاد:
-                      مما تخاف؟
-                      لا أعرف ؛ .. لعله ما في الجانب الآخر.
-                      بالفعل هو الجانب الآخر.. مم تخاف؟
-                      أخاف من المجهول.
-                      أيّ مجهول؟
-                      لا نعرف ما ينتظرنا هناك!
-                      بل تعرفون.. منذ  عرض عليكم الرَّب الأمانة فقبلتم بحملها.
-                      تقصد الجنة والنار.
-                      إنما تلك فمعنويات لتقريب الفهم عليكم أنتم البشر.
-                      ماذا تقصد؟
-                      ستجدون ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشر.
-                      سبحان الله العظيم،
-                      حياة أخرى يا بني..
-                      مرددًا بوجل:.. سبحان الله العظيم.
-                      صدقت. هو الله العظيم.
-                      زدت خوفي.. بل ملئت قلبي رعبًا.
-                      أتفعل ما يخيفك من لقاء المولى عز وجل؟
-                      أفعل قطعًا، .. فمثلي مثل البشريين، ..خطائين.
-                      إنما خير الخطائين التوابون، .. قل ليَّ مما تخاف؟
-                      تأتِ في كُلِّ لحظة لتذكرني، تدعني لتذهب، أتجيء بالفعل لكُلِّ البشر؟
-                      ....
-                      آهناك بالفعل حياة بعد الموت؟
-                      ....
-                      خوفي دائمًا من صمتك هذا.
-                      ....
-                      إن كنت تظهر للبشر وإن كان فيه حياة بعد الموت لماذا لا يتقي البشر الله في أنفسهم فيما يفعلون؟
-                      .....
-                      لماذا تلك التجاوزات بين البشر؟
-                      ....
-                      حقدٌ وغلٌ وخصومةٌ وملاسناتٌ فاقت الحدود، تعبت، أعني على نفسي، أجبني أرجوك...
ليظل يطرح تساؤلاته بسرعة واندفاع لا ينتظر الجواب فلا يجيبه عليها أحد قط. تنفتح عينيه بهدوء، ترتعش لتنغلق لتنفتح، يتلاشى من أمام عينيه الضوء المبهر ليُصبح في حالة فاترة من الخيالات المتحركة  المهتزة. مُغادرًا "ملك الموت" بهدوء كما جاء، ينساب الدخان من حوله، يملأ الغرفة الغمام، أو لعلها آخيلة، ليتهيء لحكيم مُمددًا أنه مُرتفعًا عن الأرض مسافة، ثم طائرًا مُنسحبًا في وداعة يُصاحبه عدد أربعة ملائكة، في كُلِّ جانب ملكين، أو لعلها تزيد؛ يسمع ترديدًا:
-                      أتركوه، .. فلم تأت ساعته بعد.
تمت

ليست هناك تعليقات: