"أبحث
عن نفسي" تحت هذا العنوان الكلاسيكي، للرواية الصادرة عن المؤسسة العربية
للدراسات والنشر 2012 للمؤلفة البحرينية "فتحية ناصر" نجد رواية كلاسيكية
بامتياز، السرد الموغل بالتفاصيل الحركية والحسّية، التركيز على المُثل
والمبادئ الأخلاقية الثابتة كالحق و الخير والحرية، بالإضافة للكم الهائل
من الأحداث التي تنمو تصاعدياً، اعتماد الراوي على الصوت الأحادي في السرد،
والمثير أن تكون الثلاثية التي تقارب الـ 900 صفحة مجتمعة هي في الأصل
عبارة عن رسالة وخطاب موجه من البطلة "أمل" لعشقها وحبها الأوحد.
الرواية اشتبكت بالكثير من الأحداث و القضايا الحسّاسة اجتماعيا ودينيا وسياسياً، وهي تعطي تواريخ حقيقية وأماكن واقعية معروفة لدى المجتمع البحريني بشكل دقيق جداً، وتورطت في إطلاق الأحكام على مكونات و شخصيات لها مكانتها الدينية والاجتماعية، - رغم محاولة الحياد- التي تجاهر بها الشخصية في أكثر من منعطف.
لن يكون الوصول للهاجس الرئيس في الرواية صعباً لأن القارئ سيجد نفسه يقرأ ذلك مراراً، فإن لم يتوقظ له منذ البداية سيجده مكتوباً بشكل مباشر وهو هاجس ايديولوجي بل يمتدّ ليدخل في تعدد المعتقدات والأعراق أيضاً، في بلد كسائر البلدان العربية تثيره النعرة الطائفية بكل سهولة، ونستطيع القول بأن الروائية في هذه الثلاثية كانت بمثابة باحثة في مجال الإثنوغرافي* ويتضح ذلك للقارئ من خلال الشخصيات التي تمثل أدوارا حياتية فيما تذهب الروائية لكتابة المشهد المجتمعي من خلال تتبع المهن والناس والأصدقاء بالمقاربة أحياناً و بالتخفي خلف الورق والأسئلة أحايين أخرى، في بحث عن الذات التي دائما ما يتم العثور عليها عبر سبر ذوات الآخرين.
القصة:
تبدأ الرواية بكتابة خطاب موجة لشخص ما، " أمل" البطلة والساردة لكل الأحداث والماسكة بزمام إدارة الشخصيات، التي نشهد بترا لبعضها وتنامياً للبعض الأخر. تسرد أمل تفاصيل حياتها وعلاقاتها وصراعها الداخلي والخارجي في محيط الأسرة والعمل و الأصدقاء، منذ الطفولة حين انتقلت مع أهلها الأثرياء من مدينة "المحرق" إلى قرية "كرانة" حيث التقت بصديقتها "رباب" التي صادقتها وقادتها لعوالم القرى المفتوحة وحيوات أهلها، في مقارنات واضحة بين القرية والمدينة، إضافة لمفارقات المذاهب واختلافها، ومحاولة لفهم الحساسية بين المذاهب حين غضب والد أمل من مصاحبة ابنته الثرية _ السنية، الهولية_ إلى أبناء الشيعة الفقراء والمهمشين، إلا أن أمل تنطلق في استكشافها وتدخل المآتم والبيوت وتصر على صداقة رباب. تنتهي هذه الفترة بموت أم أمل، وتغادر إلى لندن مع والدها، ليظهر حبيبها وهو صديق والدها، وقد أحبته منذ أن أهدى والدها لوحة رسمها لأمها، ثم غاب زمناً عنها، في حين تعرفت على صديقتها "لورا" المسيحية التي تموت بمرض اللوكيميا بعد أن تكون علاقتهما قد اشتدّت وتوطدت، تعود أمل للبحرين بعد المرحلة الثانوية بجنسية بريطانية لتقرر أن تدرس تمريض في كلية الخليج وسط رفض من الأب، إلا أنها تصر وتتخذ موقفا عدائيا من والدها، في الكلية تقع المفاجأة بأن حبها الطفولي قد ظهر وهو دكتور بالجامعة ومثار إعجاب كل الطالبات، ينبض قلبها له من جديد يتقربان، يمنحها مفتاح شقته، تعتاد زيارته يتناقشان في أمور عدّة، حتى يصل الأمر لفض بكارتها برغبة منها، وحين يطلب الدكتور منها الزواج تنزعج، وتطلب منه أن يصالحها جنسياً، تستمر في علاقتها مع الدكتور وعلى وشك أن تقبل بالزواج -وكادت أن تفعل- لولا ظهور سلمان زميلها بالكلية الذي كان ينبذ سفورها ولبسها الفاضح، لتصل الأمور للإعجاب ثم تقرر الزواج به لأنها تكتشف امتلاكها لكل شيء، المال، السيارة الفارهة، القصر الفخم، لكنها لا تملك الأحلام التي يمتلكها سلمان أو صديقتها عصمت، أحلام صغيرة، مثل أن تكون لهما سيارة و بيت و أبناء. ترتبط أمل بسلمان " الشيعي" رغماً عن والدها، وتصدم حبيبها وتسبب له خيبة كبيرة.
هناك في بيت سلمان "أم عامر" التي تمثل الهالة الدينية والتي تعطي الدروس الفقهية، حتى تتمكن من جعل أمل تغير معتقدها لتتشيع. تنفق أمل كل مالها وجهدها في خدمة سلمان و عائلته بعد أن تمكنت من إخفاء حقيقة أنها ليست بكرا، لكن سلمان يختفي فجأة بعد أن تكلم عن عشقه لفلسطين وأمنيته في تحريرها، دون أن يظهر مرة أخرى، تستقل أمل شقة مع ابنتها نرجس، وتحاول ترميم نفسها بعد أن مرت بمراحل وصلت بها لدرجة الأولياء بحيث تُطوى لها الأرض و ترى ما سيحدث في المنام و تزيد أموالها بالبركة الإلهية، لكنها تقرر العودة شيئا فشيء لحياتها الطبيعية دون الالتزام الفعلي، فتقرر السفر، فيعاود حبيبها الظهور مجددا في المطار، ويتفقان على اللقاء مجددا، لكن أمرهما لم يسير كما ينبغي، فتواصل أمل حياتها ومحاولة العودة لاستكمال دراستها على أمل عودته وأمنية تجدد لقائهما، وتظل رحلة البحث مستمرة وسط سؤالها لنفسها:" هل أنا اثنتان تظهر كل واحدة في حين لتختفي الأخرى حتى يحين دورها الثاني، لتظهر؟ سؤال قضيت عمري أبحث له عن إجابة..صــــ227ــــ جـ3ــ
......
الأديان والأعراق
لم تكتفي الروائية بالنبش في قضايا المعتقدات الدينية وما تخلّفه من نزاعات مجتمعية بل سعت بجد لفضح آخر وهو التكتلات العرقية التي رغم كل هذه السنوات من التعايش تظل في دوائرها وتتعامل بحذر و ازدراء مع الأعراق الأخرى، كانت الجرأة في التحدّث عن هذه الأعراق التي نصادفها في العمل و تشاركنا القرى والمدن التي نقطنها، وتحاول أن تتلمس الدوافع فبعضها بأثر التجنيس السياسي و لكن في الأصل تبقى المكونات المجتمعية ضحية لسياسة دولة في تفتيت وخلق هذه الدوائر المغلقة كل حسب طائفته، طائفة مهمشة وأخرى بين البينين وثالثة مقربة وتعتلي أغلب المناصب.
" لم أكن أعرف أن في البحرين أعراقاً مختلفة.لم أدر أن هناك العرب و البحارنة و الأعاجم والهولة والميناويين والبلوش بل حتى اليهود! وأن كل جماعة تكاد تتقوقع على نفسها، فأصدقاء الأعجميات الأعاجم فقط، وكذلك البحارنة." صــ40ـــ جــ2ـــ
وبطبيعة الحال تبقى المقارنة في أشدها بين المكونين الرئيسيين في البحرين (السني، الشيعي) فالشخصية الرئيسية "أمل" تتحول من السنية الهولية إلى الشيعية الإمامية، وهذا في حد ذاته مثار سخط لفئة ومبهج لفئة أخرى، خاصة عندما تبرر :
" وقدري..أن أولد سنية وأحب عادات الشيعة، وطقوس الشيعة، وحلقات عزاء الشيعة، وقصص الأنبياء التي يختلفون عنا في تفسيرها، وقصص الأئمة..
وكيف عساني ألوم والدي .. وأنا أعرف أنه نال من الأحزان ما يكفيه.. ويغنيه عن إتعاسي له بلوم..
فهمت فروق مذهبينا .. كيف يصومون بعدنا بيوم، ويفطرون بعدنا بيوم"صــ81ــ ج1ــ
" أعطتني قبل مدة كتاباً اسمه " ثم اهتديت" لشخص كان على المذهب السني ثم تشيّع، وقالت حافظي عليه فهو مصادر. بعدما انتهيت منه سألتني: هل اقتنعت؟ " اجبت : نعم".. فأعلنت في تلك الليلة أمام الحاضرات في درسها أني ( ببركة الله) تشيّعت، فعلت الأصوات بالصلوات وسلمت عليّ الحاضرات وهنّأنني..."صـــ26ـــ جــ3ــ
تتطرق الرواية لفروقات مذهبية كثيرة، لكنها تخلص أن كل هذه المكونات سبباً للتآخي والتلاحم والتطور، لا للأحقاد والنزعات والتخلف، وأن ذريعة الدين في توحيد المذاهب أو تكفيرها هي ذريعة يجب أن لا تنطلي على العقول الراجحة،وإن الهوية يجب تقوم على المواطنة لا على الأعراق والمذاهب. لكن الجدير بالذكر أن الهامش الأكبر من الانتقادات والمواضيع المذهبية جاء مختص بالمذهب الشيعي ربما بذريعة التصاقها وحبها لهذا المذهب التي اعتنقته بشكل أو بآخر، بل والتي أجزمت بأن هذا المذهب قد أوصلها – كما تصف- لمراتب الأولياء الصالحين حين التزمت به.
الشخصيات وأدوارها المحورية..
في رواية البحث عن النفس تجد كل الشخصيات معدّة سلفاً لقضية ما، تنجزها وتمضي في حال سبيلها، لتظل الشخصية المحورية " أمل" حتى الخاتمة توزّع ما تبقى لديها من ملامح على وجوه شخصياتها. سنحاول إيجاز بعض الشخصيات التي أخذت مكانتها بشكل عابر..
رباب: صديقة الطفولة التي تأخذ أمل معها لحياة القرى والمآتم "الشيعية"، هذه الشخصية ينحصر دورها في بنت الريف القروية المؤدبة لكنها منطلقة في البراري، التي لا تخشى منها لأنها تجد أن كل القرية أهلها، تدخل أي بيت، وتلعب مع الجميع، وتمثل المجتمع المهمش والفقير والراضي بقدره بطيب خاطر.
لورا: هذه الصديقة المسيحية، التي تترك الأثر الطيب في نفس أمل، وتتخذها بعد ذلك مثالاً صارخا على الذين يتمنون السوء للبلاد الغربية، متناسين أن بها أشخاصاً طيبين، يحبون الإسلام وتعاليمه، وسوّقت المؤلفة للدين الإسلامي كثيرا من خلال هذه الشخصية، التي كانت باحثة عن ملامح الإسلام من خلال القرآن وغيره من الحوارات التي دارت بينهما في هذا السياق.
أم عامر: لهذه الشخصية أبعاد كثيرة جداً وهي قد تنحصر في شخصية أم عامر لكن أبعادها تمتد طويلاً لتلامس كل من يمثل الهالة الدينية كـ المشايخ وعلماء الدين، تتناول من خلال هذه الشخصية الانقياد الأعمى من قبل الناس البسطاء الذين يصدقون كل كلمة ينطق بها عالم دين، مهما كانت طريقة تعامله معهم استعلائية.."أي دعوة إلي الدين هذه التي تتزعمها امرأة لا تبتسم! وتحرج الحضور، وتضع قوانين صارمة لمن يرغي في الاستماع لدرسها المديد..
أليس الأحرى بها الترغيب في دين الله، لا الترهيب؟"صـــ290ــ جـ2ـــ
وتختتم السيرة مع شخصية أم عامر بفضحها من خلال أختها بتول التي عانت من رفض أم عامر التي تدّعي ما تدعيه بشأن الدين والقيم والمبادئ القائمة على التسامح والتقارب في حين يكمن في داخلها الغرور والتباهي والرفض القاطع للآخر.
سلمان: بعيدا عن تمثيل هذه الشخصية لزوج أمل، فإنه يمثل في الرواية الصوت العروبيّ، المتألم على وضع فلسطين وما آلت إليه ويؤجج بكل ما يستطيع لاستنهاض الحلم العربي والبحث عن الهوية من خلال النظر للأمة العربية على أنها كيان واحد.
" أحلم يا عزيزتي أن أرى " أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة" وأرى كل الأقاليم العربية صارت كياناً واحداً كما هي في الأصل.."صــ81ـــ جـ3ــ
وفي مفارقة غريبة نكتشف أن سلمان أساساً ليس ملتزماً دينياً بشكل مطلق في إشارة إلى أن هذا الحلم العربي لا يقع على الإسلاميين بل كل أطياف المجتمع مهما كانت توجهاتهم الأيدلوجية وأنسابهم العرقية.
تظل هذه الشخصية تشتبك بالهاجس المذهبي رغم البريق العام للعروبة،
" قلت: "وهل يستطيع أي شخص عادي، مثلي مثلاً أن يتخذ قراره بأن يذهب إلى ساحة الجهاد في فلسطين ليقاتل؟" فأجابني: " قرار الجهاد مرتبط ب "الولي الفقيه"، وبأمره فقط يمكن لشخص ما الانضمام إلى صفوف الجهاد...صـــ105ــ جـ3ــ
في رسالة واضحة أن قضية الولي الفقيه لا تتناسب والحلم الذي يتمناه، في تناقض واضح وصريح بين ما يؤمن به وبين ما يراد له أن يؤمن به ويفعله.
الهاجس السياسي..
تتعرض أحداث الرواية لأزمة التسعينات 94 تحديدا التي اشتعلت في البحرين، واستمرت طويلا قبل أن تفضي لمجلس برلماني منتخب ومنقوص الصلاحيات..
" وكشأني والسياسة، لم أكن أعرف تماماً ما يدور حولي. وزادني تخوفاً سماعي عن العنف المستخدم لقمع المتظاهرين ،بوسائل بدأت بمسيلات الدموع قليلة ومؤقتة الأثر، وتحولت إلى الرصاص المطاطي الأخطر، وانتهت بسقوط أعداد من الشباب قتلى ومعتقلين..
في البدء، لم أقتنع بعدالة القضية، لذلك خالجني الشك والخوف. وبما أنني لست ممن يطلق الأحكام في أي مسألة قبل أن ألمّ بكل أبعادها، كما لست ممن يصدر أحكامه على الناس من مظاهرهم، لذا حاولت أن أفهم من سلمان سرّ ثورته، وأسبابها.. وما هو ذلك الحق الذي يطالب به الجميع.."صـــ107ـــ جـ3ـ
ورغم محاولة الحياد في طرح هذا الأحداث التي تجوب مع القارئ أسبابها الشكلية والعميقة من نقص في الخدمات وتهميش وتجنيس وتشريد وتعذيب وقتل كل من يطالب بحقه في العيش بكرامة والفساد المستشري في السلطة والنفوذ المستحوذ على خيرات ومقدرات البلد، تبدو مرتبكة ولا تخلو من إطلاق الأحكام فعلا، في مسألة "الشهداء" والتشكيك بأن من يخرج من بيته ليشتري خبزا لأهله وتقتله السلطة، لا يعتبر كمن تظاهر وقتل ثمّة قتيل وآخر شهيد، وهي مسالة تفتح في استنكارها بابا طويلا من الأسئلة والإجابات المضادة، ثمّة دائما محاولة مستميتة في الوقوف على الحياد، ونجدها أحياناً تقول:"..تأثرت ببكائهن، وبهتافات "هيهات منا الذلة"، لذلك شاركت في المظاهرات..صــ122ـــ جـــ3ــ المشاركة لأنها تأثرت وليس لأنها اقتنعت بعدالة القضية، ثم تعود لتقول: " شاركت في المظاهرات بهدف مساندتهم.."صــ127ـــ جــ3ـ وبين التأثر والمساندة فجوة لا تردم أبدا بل تظل مشرعة للتأويل، وفي ذات السياق ترجع اختلاف المذهب الواحد تحديدا بعد أن خمدت الثورة بعد عامين واستشهد من استشهد دون أن يعلم لماذا تظاهر وزج بالسجون المعلمون وغيرهم ثم أفرج عن بعضهم، في رسالة واضحة بأن الثائرين كانوا يعانون من جهل بقضيتهم _وهو حكم من وجهة نظر الشخصية_ لتصل لنتيجة مفادها أن هذه الأحداث كانت الأساس في تفريق المذهب "الشيعي" الواحد وعليه اختلفوا في كل مناسباتهم وأعيادها بسبب خلاف وانقسام علمائهم:
" كل جماعة من الشعب اتخذت اتجاهاً آخر، فالبعض رأى سياسة الشيخ (ص) أفضل لمداراتها وتراخيها.. والآخرون رأوه خائنا، فبقوا على ولائهم للشيخ (س)، الأول.."العالم"..."صـــ122ـــ
في إشارة واضحة للشيخين " عبد الأمير الجمري" و " سليمان المدني" وتعتبر الإشارة جريئة ولا تخلو من القلق الذي أوصل الروائية لاستخدام الرموز وكأنها مسألة رياضية.(ص،س). والجدير هنا أن الاستنباط يأتي من شخص عارف بمجريات الأمور في البحرين، فالرؤية ليست بهذا الوضوح المطلوب لقارئ من خارج المحيط.
المهنة ممرضة..
تمتاز الرواية بواقعيتها في الكثير من الجوانب التي من شأنها أن تزيد جرعة المصداقية والتشويق، فالحديث عن مهنة التمريض والكشف عن أمور لا يمكن معرفتها بهذه الدقة إلا من خلال معايشة فعلية، فبدء من كلية الخليج للعلوم والرصد الدقيق للحياة اليومية للطلبة والأساتذة، تصرفات، تجمعات، مناقشات، كل شيء لا يمكن إلا أن يؤدي لمعايشة البيئة بكل سلبياتها وإيجابياتها.
فردت الروائية لمهنة التمريض الكثير و وضعت شرحا ليس هيناً لما تعانيه الممرضة سواء من الطاقم الطبي أو نظرة المجتمع التي يعاملها كالخادمة، وطافت بالمصحات النفسية وصولا لدار العجزة، ورغم كل ذلك تظل أمل مخلصة لقرار اتخاذها هذه المهنة ومحبة لها حتى الرمق الأخير.
" في السلمانية يلام الممرض على كل شيء . الطبيب يصرخ في وجهه، المريض وأهل المريض. يلام الممرض إذا لم يحضر الطبيب، ويلام إذا أجلت العملية، ويلام إذا لم توجد شراشف وأغطية كافية للأسرة.يلام الممرض حتى إذا مات المريض!"صـــ293ـــ جــ2ـ
تعالج في هذه المهنة العلاقة بين الموظف والمسؤول وقضايا الواسطة والفساد الإداري والمالي حتى لتصل للفساد الأخلاقي لبعض العاملين في هذا المجال
" النساء منهم كن يجلسن مع زملائهم الرجال، ومساعديّ التمريض من الرجال خارج مبنى المستشفى ليلاً، في الهواء الطلق، يشربون معاً "القدو" ويتبادلون النكات الجنسية...... هناك من تضرب زميلها أحياناً على كتفيه أو مؤخرته(مازحة)! وهناك من تدفع زميلها من ظهره ليسرع بالمشي.."صـ149ــ جــ3ـ
لعبة التخفي والإظهار..
اختارت الروائية أسلوب الرسالة، التي تمتد فيها حتى آخر صفحة وهو أسلوب يحتاج تقنية وأدوات تجعلها قابلة للإطالة وقد تمكنت فعلاً من جعلها كذلك إلا أن ذلك لا يمنع بعض الخدوش أن تحدث خاصة في اشتباك الأصوات ومتى يظهر الصوت الداخلي للبطلة ضمن الأصوات الظاهرة؟
من التكنيك الجميل في هذه الرواية لعبة التخفي والمواراة للأسماء، نلاحظ أن أسم البطلة "أمل" يظهر بعد قطع شوط طويل جداً، وهذا بالفعل يحتاج لتمكن دون أن تبدو العملية مبتذلة، والأمر الأكثر هو استطاعتها أن تخفي اسم البطل الحقيقي، مع توقع القارئ بظهور الاسم في كل لحظة إلا أن الرواية تُختتم دون الإفشاء به.
من الميزات الجميلة هو الاشتغال على المكان، بين المدينة (المحرق) والقرية (كرانة) وقد نجحت في نقل المدينة والقرية إلى مخيلة القارئ بحرفية وجمالية رائعة.
فسحة التأمل..
في خضم هذه التفاصيل الهائلة التي لا يمكن حصرها في عدد معين من القضايا أو الرؤى، لأن الأحداث تتشعب، تنقطع تارة لتنمو محلها أحداث أكثر وتفاصيل أعمق، وسط كل ذلك لن يفلت القارئ من العبارات العميقة ذات البعد الفلسفي الجدير بالتأمل، نورد بعضاً كشواهد..
" حين أكتب.. أزور عالماً آخر..عالماً وردياً أحببته. سرقت أيامه من واقعي، فأقفلت عليه باب الذكرى، وجعلت الكتابة مفتاحاً سرياً، أدخل به هذا العالم متى أشاء..."صــ108ـــ جــ1ـــ
" سأبكيك إلى أن أنساك.. فقد اكتشفت أن البكاء هو ليس أسرع وسيلة للنسيان، ولكنه الأفضل!"صــــ154ـــ جـ1ــ
"قلت لنفسي..كم جميلة هي الورود..لو لم تكن تعني ، وداعاً.."صــــ246ــــ جـ1ــ
" قد تفشل أحياناً حياة بكاملها لتنجح قصة في كتاب."صــ178ـــ جـ3ــ
ما يشبه الوخز..
من الأشياء التي ستلفت نظر القارئ هي المساحة التي كانت قد أعطتها الروائية لذكر المفردات القديمة ومحاولة شرحها في الهامش، هذه المفردات تظهر بقوة في الجزء الأول ثم تبدأ بالبرود في الجزء الثاني إلى أن تنعدم تقريبا في الجزء النهائي، لم يكن سيئاً توضيح المفردات الدارجة والتعريف بها إلا أن الشيء المستحدث في الهوامش هو أن تجد تكملة للمشهد أو الفكرة للحدث أسفل الهامش ويمكن مشاهدة نماذج في صــ110 ،133ـ
من الواضح أن أي قارئ لم يكن ملم جيدا بأحداث البحرين لن يتمكن من استيعاب الفكرة بشكل جيد، لذا أجد أن الرواية ستكون مفهومة جيدا بكل أبعادها لدى القارئ البحرين وتحتاج للمزيد من الإيضاح للقارئ البعيد نسبيا عن بلد الحدث.
قد يتفهم القارئ ورود بعض المفردات باللغة الانجليزية وأسماء للمناهج والكتب والأماكن، لكنه لا يجد مبررا لأن تأتي بعض العبارات باللغة الانجليزية من دون داعي خاصة إذا ما عرفنا أن شخصية لورا وهي التي كان من الممكن أن تكون جميع حواراتها بلغتها لم تأتي إلا بالعربية.
حدث إسهاب وتكرار للأحداث في مسألة إعادة ذات الحدث بذريعة " من أوراقي" التي تعتمده الروائية من أجل تأكيد ما حدث وتقوم بإعادة كتابته في مذكراتها.
المقتبسات والفقرات والقصائد التي تأتي في بداية كل فصل أحياناً يكون لها فعل مزعج ومشتت ولا يرتبط ارتباط جدي بالرواية.
اعتماد الروائية على طريقة السرد البطيء في تصوير كل حركة في المشهد جعل من الرواية قابلة للامتداد أكثر مما هي عليه الآن، لذا نلحظ في الخاتمة أن الكاتبة استعاضت بطريقة الفلاشات المختصرة التي تختصر زمنا وأحداثا من خلال مقاطع مقتضبة تماماً كما يحدث في ختام فلم عن قصة حقيقية.. " ابنتي.. دخلت المدرسة" ، " الوحدة..لست وحيدة .صار لي صديقتان.." "أم عامر.. جزاها الله عني خيرا.فقد علمتني الكثير." "أبي.. لم أذهب إليه بعد.."..الخ
إفلات..
لا يمكن وأنت تقرأ كل هذا الجهد وهذه المحاولة الجادة في البحث المجتمعي المضني والمختص بالبيئة التي عايشتها وشهدت كل مفارقاتها وتطورها إلا أن تقدر هذا العمل، برغم كل ما به وما عليه، وهذه ميزة الأعمال أن تخلق هذا الفضاء من الاختلاف والتقارب، وأعتقد أن هذا العمل خليق بالدراسة واستخلاص الكثير إذا ما حدد هذا العمل في سياقه الزمني والذي أتمت فيه المؤلفة ثلاثيتها عام 2003 م
الرواية اشتبكت بالكثير من الأحداث و القضايا الحسّاسة اجتماعيا ودينيا وسياسياً، وهي تعطي تواريخ حقيقية وأماكن واقعية معروفة لدى المجتمع البحريني بشكل دقيق جداً، وتورطت في إطلاق الأحكام على مكونات و شخصيات لها مكانتها الدينية والاجتماعية، - رغم محاولة الحياد- التي تجاهر بها الشخصية في أكثر من منعطف.
لن يكون الوصول للهاجس الرئيس في الرواية صعباً لأن القارئ سيجد نفسه يقرأ ذلك مراراً، فإن لم يتوقظ له منذ البداية سيجده مكتوباً بشكل مباشر وهو هاجس ايديولوجي بل يمتدّ ليدخل في تعدد المعتقدات والأعراق أيضاً، في بلد كسائر البلدان العربية تثيره النعرة الطائفية بكل سهولة، ونستطيع القول بأن الروائية في هذه الثلاثية كانت بمثابة باحثة في مجال الإثنوغرافي* ويتضح ذلك للقارئ من خلال الشخصيات التي تمثل أدوارا حياتية فيما تذهب الروائية لكتابة المشهد المجتمعي من خلال تتبع المهن والناس والأصدقاء بالمقاربة أحياناً و بالتخفي خلف الورق والأسئلة أحايين أخرى، في بحث عن الذات التي دائما ما يتم العثور عليها عبر سبر ذوات الآخرين.
القصة:
تبدأ الرواية بكتابة خطاب موجة لشخص ما، " أمل" البطلة والساردة لكل الأحداث والماسكة بزمام إدارة الشخصيات، التي نشهد بترا لبعضها وتنامياً للبعض الأخر. تسرد أمل تفاصيل حياتها وعلاقاتها وصراعها الداخلي والخارجي في محيط الأسرة والعمل و الأصدقاء، منذ الطفولة حين انتقلت مع أهلها الأثرياء من مدينة "المحرق" إلى قرية "كرانة" حيث التقت بصديقتها "رباب" التي صادقتها وقادتها لعوالم القرى المفتوحة وحيوات أهلها، في مقارنات واضحة بين القرية والمدينة، إضافة لمفارقات المذاهب واختلافها، ومحاولة لفهم الحساسية بين المذاهب حين غضب والد أمل من مصاحبة ابنته الثرية _ السنية، الهولية_ إلى أبناء الشيعة الفقراء والمهمشين، إلا أن أمل تنطلق في استكشافها وتدخل المآتم والبيوت وتصر على صداقة رباب. تنتهي هذه الفترة بموت أم أمل، وتغادر إلى لندن مع والدها، ليظهر حبيبها وهو صديق والدها، وقد أحبته منذ أن أهدى والدها لوحة رسمها لأمها، ثم غاب زمناً عنها، في حين تعرفت على صديقتها "لورا" المسيحية التي تموت بمرض اللوكيميا بعد أن تكون علاقتهما قد اشتدّت وتوطدت، تعود أمل للبحرين بعد المرحلة الثانوية بجنسية بريطانية لتقرر أن تدرس تمريض في كلية الخليج وسط رفض من الأب، إلا أنها تصر وتتخذ موقفا عدائيا من والدها، في الكلية تقع المفاجأة بأن حبها الطفولي قد ظهر وهو دكتور بالجامعة ومثار إعجاب كل الطالبات، ينبض قلبها له من جديد يتقربان، يمنحها مفتاح شقته، تعتاد زيارته يتناقشان في أمور عدّة، حتى يصل الأمر لفض بكارتها برغبة منها، وحين يطلب الدكتور منها الزواج تنزعج، وتطلب منه أن يصالحها جنسياً، تستمر في علاقتها مع الدكتور وعلى وشك أن تقبل بالزواج -وكادت أن تفعل- لولا ظهور سلمان زميلها بالكلية الذي كان ينبذ سفورها ولبسها الفاضح، لتصل الأمور للإعجاب ثم تقرر الزواج به لأنها تكتشف امتلاكها لكل شيء، المال، السيارة الفارهة، القصر الفخم، لكنها لا تملك الأحلام التي يمتلكها سلمان أو صديقتها عصمت، أحلام صغيرة، مثل أن تكون لهما سيارة و بيت و أبناء. ترتبط أمل بسلمان " الشيعي" رغماً عن والدها، وتصدم حبيبها وتسبب له خيبة كبيرة.
هناك في بيت سلمان "أم عامر" التي تمثل الهالة الدينية والتي تعطي الدروس الفقهية، حتى تتمكن من جعل أمل تغير معتقدها لتتشيع. تنفق أمل كل مالها وجهدها في خدمة سلمان و عائلته بعد أن تمكنت من إخفاء حقيقة أنها ليست بكرا، لكن سلمان يختفي فجأة بعد أن تكلم عن عشقه لفلسطين وأمنيته في تحريرها، دون أن يظهر مرة أخرى، تستقل أمل شقة مع ابنتها نرجس، وتحاول ترميم نفسها بعد أن مرت بمراحل وصلت بها لدرجة الأولياء بحيث تُطوى لها الأرض و ترى ما سيحدث في المنام و تزيد أموالها بالبركة الإلهية، لكنها تقرر العودة شيئا فشيء لحياتها الطبيعية دون الالتزام الفعلي، فتقرر السفر، فيعاود حبيبها الظهور مجددا في المطار، ويتفقان على اللقاء مجددا، لكن أمرهما لم يسير كما ينبغي، فتواصل أمل حياتها ومحاولة العودة لاستكمال دراستها على أمل عودته وأمنية تجدد لقائهما، وتظل رحلة البحث مستمرة وسط سؤالها لنفسها:" هل أنا اثنتان تظهر كل واحدة في حين لتختفي الأخرى حتى يحين دورها الثاني، لتظهر؟ سؤال قضيت عمري أبحث له عن إجابة..صــــ227ــــ جـ3ــ
......
الأديان والأعراق
لم تكتفي الروائية بالنبش في قضايا المعتقدات الدينية وما تخلّفه من نزاعات مجتمعية بل سعت بجد لفضح آخر وهو التكتلات العرقية التي رغم كل هذه السنوات من التعايش تظل في دوائرها وتتعامل بحذر و ازدراء مع الأعراق الأخرى، كانت الجرأة في التحدّث عن هذه الأعراق التي نصادفها في العمل و تشاركنا القرى والمدن التي نقطنها، وتحاول أن تتلمس الدوافع فبعضها بأثر التجنيس السياسي و لكن في الأصل تبقى المكونات المجتمعية ضحية لسياسة دولة في تفتيت وخلق هذه الدوائر المغلقة كل حسب طائفته، طائفة مهمشة وأخرى بين البينين وثالثة مقربة وتعتلي أغلب المناصب.
" لم أكن أعرف أن في البحرين أعراقاً مختلفة.لم أدر أن هناك العرب و البحارنة و الأعاجم والهولة والميناويين والبلوش بل حتى اليهود! وأن كل جماعة تكاد تتقوقع على نفسها، فأصدقاء الأعجميات الأعاجم فقط، وكذلك البحارنة." صــ40ـــ جــ2ـــ
وبطبيعة الحال تبقى المقارنة في أشدها بين المكونين الرئيسيين في البحرين (السني، الشيعي) فالشخصية الرئيسية "أمل" تتحول من السنية الهولية إلى الشيعية الإمامية، وهذا في حد ذاته مثار سخط لفئة ومبهج لفئة أخرى، خاصة عندما تبرر :
" وقدري..أن أولد سنية وأحب عادات الشيعة، وطقوس الشيعة، وحلقات عزاء الشيعة، وقصص الأنبياء التي يختلفون عنا في تفسيرها، وقصص الأئمة..
وكيف عساني ألوم والدي .. وأنا أعرف أنه نال من الأحزان ما يكفيه.. ويغنيه عن إتعاسي له بلوم..
فهمت فروق مذهبينا .. كيف يصومون بعدنا بيوم، ويفطرون بعدنا بيوم"صــ81ــ ج1ــ
" أعطتني قبل مدة كتاباً اسمه " ثم اهتديت" لشخص كان على المذهب السني ثم تشيّع، وقالت حافظي عليه فهو مصادر. بعدما انتهيت منه سألتني: هل اقتنعت؟ " اجبت : نعم".. فأعلنت في تلك الليلة أمام الحاضرات في درسها أني ( ببركة الله) تشيّعت، فعلت الأصوات بالصلوات وسلمت عليّ الحاضرات وهنّأنني..."صـــ26ـــ جــ3ــ
تتطرق الرواية لفروقات مذهبية كثيرة، لكنها تخلص أن كل هذه المكونات سبباً للتآخي والتلاحم والتطور، لا للأحقاد والنزعات والتخلف، وأن ذريعة الدين في توحيد المذاهب أو تكفيرها هي ذريعة يجب أن لا تنطلي على العقول الراجحة،وإن الهوية يجب تقوم على المواطنة لا على الأعراق والمذاهب. لكن الجدير بالذكر أن الهامش الأكبر من الانتقادات والمواضيع المذهبية جاء مختص بالمذهب الشيعي ربما بذريعة التصاقها وحبها لهذا المذهب التي اعتنقته بشكل أو بآخر، بل والتي أجزمت بأن هذا المذهب قد أوصلها – كما تصف- لمراتب الأولياء الصالحين حين التزمت به.
الشخصيات وأدوارها المحورية..
في رواية البحث عن النفس تجد كل الشخصيات معدّة سلفاً لقضية ما، تنجزها وتمضي في حال سبيلها، لتظل الشخصية المحورية " أمل" حتى الخاتمة توزّع ما تبقى لديها من ملامح على وجوه شخصياتها. سنحاول إيجاز بعض الشخصيات التي أخذت مكانتها بشكل عابر..
رباب: صديقة الطفولة التي تأخذ أمل معها لحياة القرى والمآتم "الشيعية"، هذه الشخصية ينحصر دورها في بنت الريف القروية المؤدبة لكنها منطلقة في البراري، التي لا تخشى منها لأنها تجد أن كل القرية أهلها، تدخل أي بيت، وتلعب مع الجميع، وتمثل المجتمع المهمش والفقير والراضي بقدره بطيب خاطر.
لورا: هذه الصديقة المسيحية، التي تترك الأثر الطيب في نفس أمل، وتتخذها بعد ذلك مثالاً صارخا على الذين يتمنون السوء للبلاد الغربية، متناسين أن بها أشخاصاً طيبين، يحبون الإسلام وتعاليمه، وسوّقت المؤلفة للدين الإسلامي كثيرا من خلال هذه الشخصية، التي كانت باحثة عن ملامح الإسلام من خلال القرآن وغيره من الحوارات التي دارت بينهما في هذا السياق.
أم عامر: لهذه الشخصية أبعاد كثيرة جداً وهي قد تنحصر في شخصية أم عامر لكن أبعادها تمتد طويلاً لتلامس كل من يمثل الهالة الدينية كـ المشايخ وعلماء الدين، تتناول من خلال هذه الشخصية الانقياد الأعمى من قبل الناس البسطاء الذين يصدقون كل كلمة ينطق بها عالم دين، مهما كانت طريقة تعامله معهم استعلائية.."أي دعوة إلي الدين هذه التي تتزعمها امرأة لا تبتسم! وتحرج الحضور، وتضع قوانين صارمة لمن يرغي في الاستماع لدرسها المديد..
أليس الأحرى بها الترغيب في دين الله، لا الترهيب؟"صـــ290ــ جـ2ـــ
وتختتم السيرة مع شخصية أم عامر بفضحها من خلال أختها بتول التي عانت من رفض أم عامر التي تدّعي ما تدعيه بشأن الدين والقيم والمبادئ القائمة على التسامح والتقارب في حين يكمن في داخلها الغرور والتباهي والرفض القاطع للآخر.
سلمان: بعيدا عن تمثيل هذه الشخصية لزوج أمل، فإنه يمثل في الرواية الصوت العروبيّ، المتألم على وضع فلسطين وما آلت إليه ويؤجج بكل ما يستطيع لاستنهاض الحلم العربي والبحث عن الهوية من خلال النظر للأمة العربية على أنها كيان واحد.
" أحلم يا عزيزتي أن أرى " أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة" وأرى كل الأقاليم العربية صارت كياناً واحداً كما هي في الأصل.."صــ81ـــ جـ3ــ
وفي مفارقة غريبة نكتشف أن سلمان أساساً ليس ملتزماً دينياً بشكل مطلق في إشارة إلى أن هذا الحلم العربي لا يقع على الإسلاميين بل كل أطياف المجتمع مهما كانت توجهاتهم الأيدلوجية وأنسابهم العرقية.
تظل هذه الشخصية تشتبك بالهاجس المذهبي رغم البريق العام للعروبة،
" قلت: "وهل يستطيع أي شخص عادي، مثلي مثلاً أن يتخذ قراره بأن يذهب إلى ساحة الجهاد في فلسطين ليقاتل؟" فأجابني: " قرار الجهاد مرتبط ب "الولي الفقيه"، وبأمره فقط يمكن لشخص ما الانضمام إلى صفوف الجهاد...صـــ105ــ جـ3ــ
في رسالة واضحة أن قضية الولي الفقيه لا تتناسب والحلم الذي يتمناه، في تناقض واضح وصريح بين ما يؤمن به وبين ما يراد له أن يؤمن به ويفعله.
الهاجس السياسي..
تتعرض أحداث الرواية لأزمة التسعينات 94 تحديدا التي اشتعلت في البحرين، واستمرت طويلا قبل أن تفضي لمجلس برلماني منتخب ومنقوص الصلاحيات..
" وكشأني والسياسة، لم أكن أعرف تماماً ما يدور حولي. وزادني تخوفاً سماعي عن العنف المستخدم لقمع المتظاهرين ،بوسائل بدأت بمسيلات الدموع قليلة ومؤقتة الأثر، وتحولت إلى الرصاص المطاطي الأخطر، وانتهت بسقوط أعداد من الشباب قتلى ومعتقلين..
في البدء، لم أقتنع بعدالة القضية، لذلك خالجني الشك والخوف. وبما أنني لست ممن يطلق الأحكام في أي مسألة قبل أن ألمّ بكل أبعادها، كما لست ممن يصدر أحكامه على الناس من مظاهرهم، لذا حاولت أن أفهم من سلمان سرّ ثورته، وأسبابها.. وما هو ذلك الحق الذي يطالب به الجميع.."صـــ107ـــ جـ3ـ
ورغم محاولة الحياد في طرح هذا الأحداث التي تجوب مع القارئ أسبابها الشكلية والعميقة من نقص في الخدمات وتهميش وتجنيس وتشريد وتعذيب وقتل كل من يطالب بحقه في العيش بكرامة والفساد المستشري في السلطة والنفوذ المستحوذ على خيرات ومقدرات البلد، تبدو مرتبكة ولا تخلو من إطلاق الأحكام فعلا، في مسألة "الشهداء" والتشكيك بأن من يخرج من بيته ليشتري خبزا لأهله وتقتله السلطة، لا يعتبر كمن تظاهر وقتل ثمّة قتيل وآخر شهيد، وهي مسالة تفتح في استنكارها بابا طويلا من الأسئلة والإجابات المضادة، ثمّة دائما محاولة مستميتة في الوقوف على الحياد، ونجدها أحياناً تقول:"..تأثرت ببكائهن، وبهتافات "هيهات منا الذلة"، لذلك شاركت في المظاهرات..صــ122ـــ جـــ3ــ المشاركة لأنها تأثرت وليس لأنها اقتنعت بعدالة القضية، ثم تعود لتقول: " شاركت في المظاهرات بهدف مساندتهم.."صــ127ـــ جــ3ـ وبين التأثر والمساندة فجوة لا تردم أبدا بل تظل مشرعة للتأويل، وفي ذات السياق ترجع اختلاف المذهب الواحد تحديدا بعد أن خمدت الثورة بعد عامين واستشهد من استشهد دون أن يعلم لماذا تظاهر وزج بالسجون المعلمون وغيرهم ثم أفرج عن بعضهم، في رسالة واضحة بأن الثائرين كانوا يعانون من جهل بقضيتهم _وهو حكم من وجهة نظر الشخصية_ لتصل لنتيجة مفادها أن هذه الأحداث كانت الأساس في تفريق المذهب "الشيعي" الواحد وعليه اختلفوا في كل مناسباتهم وأعيادها بسبب خلاف وانقسام علمائهم:
" كل جماعة من الشعب اتخذت اتجاهاً آخر، فالبعض رأى سياسة الشيخ (ص) أفضل لمداراتها وتراخيها.. والآخرون رأوه خائنا، فبقوا على ولائهم للشيخ (س)، الأول.."العالم"..."صـــ122ـــ
في إشارة واضحة للشيخين " عبد الأمير الجمري" و " سليمان المدني" وتعتبر الإشارة جريئة ولا تخلو من القلق الذي أوصل الروائية لاستخدام الرموز وكأنها مسألة رياضية.(ص،س). والجدير هنا أن الاستنباط يأتي من شخص عارف بمجريات الأمور في البحرين، فالرؤية ليست بهذا الوضوح المطلوب لقارئ من خارج المحيط.
المهنة ممرضة..
تمتاز الرواية بواقعيتها في الكثير من الجوانب التي من شأنها أن تزيد جرعة المصداقية والتشويق، فالحديث عن مهنة التمريض والكشف عن أمور لا يمكن معرفتها بهذه الدقة إلا من خلال معايشة فعلية، فبدء من كلية الخليج للعلوم والرصد الدقيق للحياة اليومية للطلبة والأساتذة، تصرفات، تجمعات، مناقشات، كل شيء لا يمكن إلا أن يؤدي لمعايشة البيئة بكل سلبياتها وإيجابياتها.
فردت الروائية لمهنة التمريض الكثير و وضعت شرحا ليس هيناً لما تعانيه الممرضة سواء من الطاقم الطبي أو نظرة المجتمع التي يعاملها كالخادمة، وطافت بالمصحات النفسية وصولا لدار العجزة، ورغم كل ذلك تظل أمل مخلصة لقرار اتخاذها هذه المهنة ومحبة لها حتى الرمق الأخير.
" في السلمانية يلام الممرض على كل شيء . الطبيب يصرخ في وجهه، المريض وأهل المريض. يلام الممرض إذا لم يحضر الطبيب، ويلام إذا أجلت العملية، ويلام إذا لم توجد شراشف وأغطية كافية للأسرة.يلام الممرض حتى إذا مات المريض!"صـــ293ـــ جــ2ـ
تعالج في هذه المهنة العلاقة بين الموظف والمسؤول وقضايا الواسطة والفساد الإداري والمالي حتى لتصل للفساد الأخلاقي لبعض العاملين في هذا المجال
" النساء منهم كن يجلسن مع زملائهم الرجال، ومساعديّ التمريض من الرجال خارج مبنى المستشفى ليلاً، في الهواء الطلق، يشربون معاً "القدو" ويتبادلون النكات الجنسية...... هناك من تضرب زميلها أحياناً على كتفيه أو مؤخرته(مازحة)! وهناك من تدفع زميلها من ظهره ليسرع بالمشي.."صـ149ــ جــ3ـ
لعبة التخفي والإظهار..
اختارت الروائية أسلوب الرسالة، التي تمتد فيها حتى آخر صفحة وهو أسلوب يحتاج تقنية وأدوات تجعلها قابلة للإطالة وقد تمكنت فعلاً من جعلها كذلك إلا أن ذلك لا يمنع بعض الخدوش أن تحدث خاصة في اشتباك الأصوات ومتى يظهر الصوت الداخلي للبطلة ضمن الأصوات الظاهرة؟
من التكنيك الجميل في هذه الرواية لعبة التخفي والمواراة للأسماء، نلاحظ أن أسم البطلة "أمل" يظهر بعد قطع شوط طويل جداً، وهذا بالفعل يحتاج لتمكن دون أن تبدو العملية مبتذلة، والأمر الأكثر هو استطاعتها أن تخفي اسم البطل الحقيقي، مع توقع القارئ بظهور الاسم في كل لحظة إلا أن الرواية تُختتم دون الإفشاء به.
من الميزات الجميلة هو الاشتغال على المكان، بين المدينة (المحرق) والقرية (كرانة) وقد نجحت في نقل المدينة والقرية إلى مخيلة القارئ بحرفية وجمالية رائعة.
فسحة التأمل..
في خضم هذه التفاصيل الهائلة التي لا يمكن حصرها في عدد معين من القضايا أو الرؤى، لأن الأحداث تتشعب، تنقطع تارة لتنمو محلها أحداث أكثر وتفاصيل أعمق، وسط كل ذلك لن يفلت القارئ من العبارات العميقة ذات البعد الفلسفي الجدير بالتأمل، نورد بعضاً كشواهد..
" حين أكتب.. أزور عالماً آخر..عالماً وردياً أحببته. سرقت أيامه من واقعي، فأقفلت عليه باب الذكرى، وجعلت الكتابة مفتاحاً سرياً، أدخل به هذا العالم متى أشاء..."صــ108ـــ جــ1ـــ
" سأبكيك إلى أن أنساك.. فقد اكتشفت أن البكاء هو ليس أسرع وسيلة للنسيان، ولكنه الأفضل!"صــــ154ـــ جـ1ــ
"قلت لنفسي..كم جميلة هي الورود..لو لم تكن تعني ، وداعاً.."صــــ246ــــ جـ1ــ
" قد تفشل أحياناً حياة بكاملها لتنجح قصة في كتاب."صــ178ـــ جـ3ــ
ما يشبه الوخز..
من الأشياء التي ستلفت نظر القارئ هي المساحة التي كانت قد أعطتها الروائية لذكر المفردات القديمة ومحاولة شرحها في الهامش، هذه المفردات تظهر بقوة في الجزء الأول ثم تبدأ بالبرود في الجزء الثاني إلى أن تنعدم تقريبا في الجزء النهائي، لم يكن سيئاً توضيح المفردات الدارجة والتعريف بها إلا أن الشيء المستحدث في الهوامش هو أن تجد تكملة للمشهد أو الفكرة للحدث أسفل الهامش ويمكن مشاهدة نماذج في صــ110 ،133ـ
من الواضح أن أي قارئ لم يكن ملم جيدا بأحداث البحرين لن يتمكن من استيعاب الفكرة بشكل جيد، لذا أجد أن الرواية ستكون مفهومة جيدا بكل أبعادها لدى القارئ البحرين وتحتاج للمزيد من الإيضاح للقارئ البعيد نسبيا عن بلد الحدث.
قد يتفهم القارئ ورود بعض المفردات باللغة الانجليزية وأسماء للمناهج والكتب والأماكن، لكنه لا يجد مبررا لأن تأتي بعض العبارات باللغة الانجليزية من دون داعي خاصة إذا ما عرفنا أن شخصية لورا وهي التي كان من الممكن أن تكون جميع حواراتها بلغتها لم تأتي إلا بالعربية.
حدث إسهاب وتكرار للأحداث في مسألة إعادة ذات الحدث بذريعة " من أوراقي" التي تعتمده الروائية من أجل تأكيد ما حدث وتقوم بإعادة كتابته في مذكراتها.
المقتبسات والفقرات والقصائد التي تأتي في بداية كل فصل أحياناً يكون لها فعل مزعج ومشتت ولا يرتبط ارتباط جدي بالرواية.
اعتماد الروائية على طريقة السرد البطيء في تصوير كل حركة في المشهد جعل من الرواية قابلة للامتداد أكثر مما هي عليه الآن، لذا نلحظ في الخاتمة أن الكاتبة استعاضت بطريقة الفلاشات المختصرة التي تختصر زمنا وأحداثا من خلال مقاطع مقتضبة تماماً كما يحدث في ختام فلم عن قصة حقيقية.. " ابنتي.. دخلت المدرسة" ، " الوحدة..لست وحيدة .صار لي صديقتان.." "أم عامر.. جزاها الله عني خيرا.فقد علمتني الكثير." "أبي.. لم أذهب إليه بعد.."..الخ
إفلات..
لا يمكن وأنت تقرأ كل هذا الجهد وهذه المحاولة الجادة في البحث المجتمعي المضني والمختص بالبيئة التي عايشتها وشهدت كل مفارقاتها وتطورها إلا أن تقدر هذا العمل، برغم كل ما به وما عليه، وهذه ميزة الأعمال أن تخلق هذا الفضاء من الاختلاف والتقارب، وأعتقد أن هذا العمل خليق بالدراسة واستخلاص الكثير إذا ما حدد هذا العمل في سياقه الزمني والذي أتمت فيه المؤلفة ثلاثيتها عام 2003 م
ركن:
*الإثنوغرافيعرَّف هامرسلي وأتكنسون البحث الإثنوغرافي بـ"أنه منهجية بحث اجتماعي يتميز بالانخراط العميق للباحث -علناً أو خفيةً- في حياة الناس لفترة من الزمن، يراقب ما يحدث، ويسمع ما يُقال، يسأل الأسئلة، ويجمع ما يمكن من بيانات، بهدف تسليط الضوء على قضايا محورية في البحث" Hammersley & Atkinson(, 1995: 1).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق