2014/02/05

عبد الناصر واليوسفي.. بقلم: فؤاد قنديل

عبد الناصر واليوسفي
 فؤاد قنديل 
في أوائل الستينيات من القرن الماضي عملت في شركة مصر للتمثيل والسينما ، وكان المدير العام أحمد المصري نائب رئيس سلاح الفرسان وأحد أعضاء مجلس قيادة الثورة ( الصف الثاني ) قام بانقلاب على عبد الناصر وتولي قيادة الجيش لمدة أربع وعشرين ساعة إلى أن قبض عليه وأودع السجن لمدة أربع سنوات ، وكان عبد الناصر يحبه ويطلبه كل فترة للحوار ، وقبل انقضاء المدة بكاملها استدعاه وسأله عن العمل الذي يود الالتحاق به بعيدا عن الجيش ، فاختار أن يعمل باستوديو مصر .. جمعتنا ظروف العمل وقرر أن يقربنى إليه ، ويصحبنى معه في كثير من جولاته واجتماعاته ، وكنا لا نتوقف عن الحوار حول موضوعات شتى ومنها الخاصة بالوطن . في صيف عام 1968، طلب منى أن أصحبه لزيارة حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت . حاولت الاعتذار مؤكدا أني لا أحب لقاء كبار المسئولين ، فأعاد على ّ ما كان يقوله لي : - لك طباع كثيرة من القرية عليك التخلص منها دخلنا الردهة فى فيللا الشافعى. لمحت فى ركن بعض الشخصيات. كنت مرتبكا. قدمنى لهم أحمد المصرى ببعض كلمات المديح ثم قال : - وفوق هذا ناصرى أكثر من ناصر نفسه . تذكرت أنى رأيت بعض الوجوه. لم أهتم بشحذ ذاكرتى . لم أكن راضيا تماما تبادل الجميع الحديث ومعهم المصرى الذى حرص أن يكون إلى جوارى . وكان أحيانا يميل علىّ ليوضح أمرا . بعد نحو ربع الساعة بلغنا طرقات خفيفة لأقدام متعجلة دنا صاحبها من الشافعى الذى قال وهو يتحرك خارجا . - الريس وصل ياجماعة . اضطربت وتوجست .... سألت المصرى - الريس عبد الناصر رد بسرعة – فيه ريس غيره ؟ لم أجد ما أقول ولم أسيطر تماما على أعصابى ..... تركزت نظراتى على الباب الخارجى .. دق قلبى وزاغت نظراتى . كان الرئيس دون موعد قد حضر بسيارته السوداء الخاصة . ظهر على الباب الذى بالكاد يكفيه .....دخل متدفقا يرمى ساقيه كالجمل مرتديا بنطلون بنى طويل واسع ، وقميص كريم بنصف كم ، وبيده نظارة سوداء كان قد اعتاد حسب ما علمت ارتداءها كلما خرج وحده بالسيارة إلى الشارع يتأمل أحوال الناس . حيا الجميع ثم جلس ....بدت عالية ساقاه الطويلتان وكان رأسه الكبير لافتا في المكان ..وضع النظارة على المنضدة وجلس إلى جانبه الشافعى . سأله عن السيدة ماجدة والأولاد وسأل شخصا اسمه عباس ولعله كان على الأرجح عباس رضوان وثان باسم صلاح .... تراجعت الوجوه والأصوات وشغل الرجل كل المساحات فى رأسى وعيونى ، إلى أن التفت إلى المصرى وقال له : - سمعت إنك عامل شغل كويس فى السينما. - تتم الآن دراسات لتطوير السينما. نظر الىّ الريس وهو يقول : - السينما الجيدة والجميلة أهم من المصنع. - نحاول الاهتمام بالفيلم التسجيلى . قال الرئيس : - التسجيلى مطلوب والروائى فيه أحداث وشخصيات تاريخية كثيرة تحتاج لمعالجات. - المشكلة إننا نبحث عن الدعم والكوادر. - الدعم علىّ والكوادر عليك. - انحلت المشكلة . - بالنسبة للدعم حدد أولوياتك - المعامل والبلاتوهات - عندك حق.....هذه الأمور أساس السينما ....نخلص من البلاوى السودة اللى فى سينا ،وننقل البلد نقلة تانية . عاد ينظر الىّ . لاحظ المصرى ذلك ....فقال : - فؤاد زميلى فى الشركة وكاتب قصصى له مستقبل . نهضت بسرعة وتقدمت منه .... سلمت عليه بحرارة اختفت يدى فى يده ... لما حاول سحب يده تمسكت بها ....عينى توشك أن تطلق دموعها ،فحبستها ، أسرع أحمد يقول : - ناصرى عنيد ابتسم عبد الناصر عندئذ ابتسامة حزينة لا أنساها ماحييت ...ابتسامة موءودة ....قلت بصعوبة : - ربنا يديك الصحة ياريس ويعينك . خشيت أن يخبره المصرى بأمر رسالتى إليه فى أعقاب الانفصال عن سوريا ... الرجل فى حالة لا تسمح بتذكيره بالمواقف التعسة . - تفضل ياريس. التفت الرئيس فوجد صوانى معدنية كبيرة عليها كميات من اليوسفى .... مد يده فرحا كالطفل . - الله ....يوسف . التقط برتقالة واحدة وقشرها على عجل والتهم فصوصها . وأسقط بذورها فى كفه اليسرى ووضعها فى طبق زجاجى عليه رسوم ملونة لم أميزها، امتدت يده اليمنى تلتقط الثانية ،وقشرها على عجل . كان واضحا أنه يحب يوسف أفندى . قال وهو يفتحها ويهم بوضع عدد من الفصوص فى فمه - ماذا جرى للزراعة .... العلم الحديث غيّر كل حاجة ....برتقال فى الصيف ضحك معظم الحاضرين بينما كنت على حالتى أرقبه ، كأنى أرقب كائنا أسطوريا قادما من أعماق التاريخ ....تأمل فى دهشة ما يجرى حوله قبل أن يحدد رد فعله . كنت أول من لاحظ أن فمه توقف عن المضغ ،وهو يراهم يضحكون حتى قال أحدهم . - لا علم ولا حاجة ياريس ... اليوسفى وصل حالا من باريس . ازرق وجه الرجل ثم زاد سواده واحمرت عيناه واتسعتا ،تلفت يمينا ويسارا ،ربما ليرى أثر ماقيل على الحضور ....بثت عيناه رعبا هائلا وساد صمت رهيب. حرص الجميع على مراقبته.... وقد بدا متاخرا أنهم أيقنوا بالزلل والخطر المتوقع.. كان الذهول شاملا ....صوّب الكثيرون نظرات غاضبة إلى قائل العبارة الأزمة ....أخيرا ألقى الرئيس ما فى فمه على المنضدة ..أسرع الشافعى إلى الخارج . فى أعقابه نهض الرجل بصعوبة ،ولما وقف بدا أضخم مما كان وأوشك أن يرتطم بالسقف. قلت للمصرى هامسا ومرتعدا : - سوف أذهب ضغط بيده على ركبتى وهو يقول : - لن نتحرك قبل أن يأتى سيادة النائب بعد لحظات عاد الشافعى يقلب كفيه ويقول - لاحول ولا قوة إلا بالله. سأله المصرى عن الحال فقال : - فهمت أن الرئيس سيخرج مندفعا ،غاضبا ...قلت لسائقى أن يفتح له باب السيارة الخلفى ، وهو بالطبع لن يتذكر أنها سيارته فيجلس على الكنبة الخلفية ،وينطلق به السائق حتى بيته ،لأنه إذا قاد بنفسه ،سيتسبب فى عدة حوادث. وقفت من جديد لأتحرك ووقف آخرون ، فقال الشافعى . - لا احد يتحرك قبل أن يعود السائق ونعرف ماذا جرى ، فقد قلت له : سجل فى رأسك كل حركة وكل كلمة تصدر عن الرئيس . اضطررت للبقاء ....احتد الحديث بين الجميع ... ارتفع ثم هدأ وعاد للصعود والحدة إلى أن عاد السائق الذى كان يلتقط أنفاسه بصعوبة . قال : جلس الرئيس خلفى مباشرة ،هادئا فى البداية ثم سرعان ما صار يخبط بيده الثقيلة على الكنبة وراء ظهرى مباشرة وهو يقول : - الكلاب ...لا أحد يحس . البلد محتلة وهم يطلبون الطعام من باريس . يمسك رأسه ثم ينفخ حتى يطير شعرى ويضرب الكنبة بقوة فتكاد تختل فى يدى عجلة القيادة ....كان كالأسد المحبوس يعاود القول وهو يضرب كفا بكف ويتنهد بغضب : - أعميت قلوبهم إلى هذه الدرجة ؟.. أفقدوا الإحساس حتى أنهم يحضرون البرتقال من فرنسا ؟.. ومن يعلم ربما يطلبون غيره من دول أخرى وتعمل لحسابهم شركة الطيران .... أخذ يتلفت فى كل اتجاه وأخيرا زعق.: - البلد ياولاد ال كدت اصطدم عدة مرات بالسيارات ، الحمد لله ربنا ستر ، وصلنا بيته، وتركت السيارة بمفاتيحها بعد أن نزل منها مسرعا. وتشهدت وكان قلبى يخفق بشدة خوفا أن ينادينى ويسألنى عن أى شىء كانت حالته تصعب على الكافر . مال السائق فجأة على جنب وانكمش واندفع يبكى ويرتج جسده كالمصعوق . عندئذ سالت دموعى المحبوسة وقال الشافعى : - عاجبكم. قال واحد من الحضور له شنب دوجلاس ،ولا يترك سيجارته أم مبسم: - لاتشغل بالك ياسيادة النائب ،هى طبيعته التى لن يغيرها .. يغلقها على نفسه وعلينا . عدت والمصرى دون كلمة واحدة ... حاول أن يفتح حديثا أو يعلق ، لكننى كنت غير مستعد للحوار ...كانت روحى فى أنفى والكوب ممتلىء حتى الحافة . أتنفس بصعوبة وقد شغلنى خاطر مستبد ، أن هذا الرجل سيموت قريبا لأن معاناته فوق احتمال البشر.

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...

ستحشر معه بإذن الله فهنئئا لك أن تحشر مع الطاغ00

غير معرف يقول...

ذكر الكاتب وجيه أبو ذكري في كتابه الزهور تدفن في اليمن عن مقتل 20000 مصري في اليمن بسبب حب الزعامة أن عبد الناصر كان يرفض ن تنشر صوره بدون رقبة حتي لا يكون مقصوف الرقبة، وان زوجته طلبت صندوقين ياميش رمضان فتم جلبهما من بلجيكا ولكن عامر اخذهما لنفسه ووزع علي معارفه ولم يرسل لعبد الناصر
ومعلومات اخرى خارج الكتاب الكاشف والمعبر عن حجم مأساة هذا العصر ان عامر كان يقول أنا لست رقم 2 ولكن واحد مكرر ولذلك لم يرسل حتي كيلو ياميش لبيت الرئيس فلما لم يأتي الياميش تم طلب صندوقين آخرين خاصين فقط لبيت الرئيس
إن كوارثنا كلها نبتت من هذا العهد الأسيف اصلا، حيث تم ذبح آلاف المصريين في اليمن وسيناء في هزيمة ما زلنا نتجرع غصصها حتي الآن، وعجيب لقسم من الشعب المصري يعشق جلاده ويمجد قصابه
لم أرد عليك بعد الان أيها الكاتب الناصري الذي ترفض ان ترأي غير رايك فالأمر لا يستحق العناء وساوفر جهدي لأمر أجدي ولن أطالع لك كلمة بعد الان بعدما خبرتك ورايت سواد فؤادك
ولا يسعني في النهاية سوي تقديم الشكر للكاتب والمدون المحترم طوسون الذي اتاح الفرصة للتعبير عن الآراء وأسس مدونة شديدة التميز في عالم الثقافة فكل التقدير لكم أ طوسون

غير معرف يقول...

انت من اقزام الأمة لأنك تفتري على زعيم قلّ نظيره اليوم...انظر الى حال الأمة من بعده!...لكنكم دائما تتصيدون في الماء العكر وتروون كلاما كذب في كذب..
القصة تشير الى وطنيته وغيرته واخلاصه.. أما اليمن فهي الثورة والاستقلال والسيادة التي لايفهمها امثالك لأنك ممن يرضون بالتبعية والذل..
رحم الله جمال برحمته الواسعة..والامة بانتظار زعيم ناصري آخر...