2015/02/01

عن التاريخ, وشيماء, وأدهم الشرقاوي بقلم: د. علاء عبد الهادي

عن التاريخ, وشيماء, وأدهم الشرقاوي
 د. علاء عبد الهادي

لي رأي يذهب إلى أن الثورة هي محاولة أمةٍ ما اللحاق بالتاريخ! وأن إرادة شعب يجب أن تكون التجسيدَ الفعلي للقانون, وأن الثورات المتصلة تُسمّى ببداياتها, وأننا في 25 يناير وفي 30 يونيو لم نقم بثورة, بل إننا أنجزنا مقدمتي ثورة عظيمة لم تثمر بعد.
 على المستوى التاريخي نذهب إلى أن ما يحرك ثورة هو وعيٌ جمعي بخطر القائم على القادم, بخوف أمة -أو طليعة أمة- على المستقبل, ومنه, وبأن الحاضر لن يصنع مستقبلا, ويتحتم تغييره؛ الحاضر في حقيقته طفو عابر في الزمان, لا نملك الإمساك به إلا إذا تحول إلى ماض, فما أن يعيه المرء حتى يصبح ذكرى, من أجل هذا يصنع الماضي المستقبل! فحق مصر في مستقبل أفضل هو حقها في حاضر أفضل! من هنا تأتي مشكلات أية سلطة تَعِدُ شعبها بمستقبل زاهر لا تظهر آثاره على الماضي "الحاضر"! أما الثورة في سياقها التاريخي فعمل مُجَرّم لدى النظام, وضرورة تاريخية لدى الثائرين, فإن فازوا شكّلوا نظامًا, وإن خسروا اتُّهموا بالخيانة! بل إن هذا الاتهام ذاته قرين هزيمتهم, قرين ضعفهم وعجزهم عن الاستيلاء على السلطة بصفتها وسيلة كل ثورة لتحقيق أهدافها, فإن فشلت الثورة خسرت أبناءها, وتاريخها! وهذا ما يستدعي السؤال؛ من يكتب التاريخ الآن؟ كان الحكام سابقًا يملكون أقلام التاريخ وأوراقه, قبل أن تتحول الشعوب إلى مستوى جديد من الوعي؛ ذلك لأن البشر الآن لا يستهلكون كلمات فحسب, ولكنهم يستهلكون صورًا أكثر بمئات المرات من الكلمات أيضًا, هكذا أصبح كل من يملك هاتفًا محمولاً أو آلة تصوير, ويتيح مادته للذيوع العام والنشر واحدًا -ممكنًا- ممن يكتبون التاريخ, وتصبح مادته "الفيلمية" وثيقة من وثائق التاريخ, حتى لو كان أميًّا. لقد شهد العقدان الآخيران أوّل مرة في تاريخ البشرية كتابة جديدة لتاريخ الإنسان عبر الصورة, كتابة للتاريخ لا تتعامل معه بصفته حقائق ولكن بوصفه أحداثًا, هكذا, يتراجع كذب الأقوياء, ويصبح التاريخ متاحًا للضعفاء, ولوجهات نظر يتجاور فيها الجميع, بل أصبح من المحال الآن انفراد سلطةٍ به؛ كُتّابُ التاريخ الآن بشر عاديون, كثيرون ومختلفون, يسجلون الوقائع بالصورة والحركة والصوت, لهم مروياتهم التي تختلف باختلاف زوايا رؤيتهم؛ فقل لي أين تقف أقل لك ماذا ترى, وكيف تراه! وأظن أن العقود القليلة القادمة لن تلتفت كثيرا إلى السرد اللغوي في كتابة التاريخ, وهذا لحسن الحظ جاء لمصلحة الثورات, والمهمشين.. يحدث التباسٌ دائمًا عند كتابة تاريخ الثائرين, ويمكننا أن نشير -في ذلك- إلى ما تعرض له بطلٌ شعبي كأدهم الشرقاوي -مثلاً- من ظلم, بعد أن اتهمه عدد من ذوي الوعي المحدود, ممن اعتبروا سجلات الشرطة في عهود الاحتلال والظلم وثائق أكثر صدقًا من الوعي الشعبي الذي انفعل بالحادثة في وقتها, وسجلها في تأليف جماعي لا يُعرَف -في الغالب- صاحبُه, وعي عبر عن شعور المصريين بثائر رأَوه بطلاً لأن أفعاله -حينها- كانت أفعال أبطال؛ ومع ذلك ظلّ قابعًا في مساحة غائمة في التاريخ, ككل الثائرين, ممن فشلوا في ثوراتهم, فأصبحوا "بلطجية" أو مثيري شغب في نظر سجلات النظام الذين ثاروا عليه, أما المؤرخ فمُخّيّر -وفق وعيه أو انتمائه- في اختيار مصادره التي يعتمدها في سرد تاريخه؛ فسيرة الثوار, والأبطال الشعبيين, لا يمكن أخذها من ملفات شرطة, أو أروقة الأنظمة أيًّا كانت, وتاريخ النضال الوطني لأي شعب, لا يكون صحيحًأ إن استقيناه من كتابات المستعمرين أو مذكراتهم, فالذاكرة الشعبية أصدق هنا, لأنه لا يمكن أن يقوم بتقويم أحداث الثورة ووقائعها من كانت مهمته حماية ما يظن أنها "الشرعية", هذه الكلمة التي تستدعي نقيضها, ولا تعبر عن حقيقتها إلا بقدر تمثيلها لقوة من أقاموها, تمامًا مثل القول الشائع عن الحكم القضائي بأنه عنوان الحقيقة؛ وهذا ما لا يمكن قبوله عقلاً ومنطقًا, إلا إذا قلنا إنه عنوان الحقيقة "الشكلية" فحسب! كانت صورة شيماء الصباغ بعد استشهادها مؤلمة, لها وخز كوخز الضمير حين يستيقظ فجأة أمام شعور بذنب يتضخم ليجاوز الحادثة نفسها إلى الفكرة أو الأيقونة أو الرمز الذي تعبر عنه, وهذا ما حرك كثيرًا من المياه الراكدة, وأطلق ما كان مخزونًا في حناجر كثيرة كانت تضع المصلحة فوق الحقيقة! هذا السلوك الجاهل والغبي في التعامل مع مسيرة سلمية صغيرة العدد تحمل الورود والشموع, يدق ناقوس الخطر, فلا يمكن لأية أمة عظيمة تصنع تاريخها, وتلتزم بخارطة مستقبلها, أن تضع سلطة حكوماتها فوق سلطان شعبها!
 أقول هذا وليس هناك قانون يجبر أي وزير, أو رئيس وزراء, نعدّه مسئولاً عن موت مواطن مصري على الاعتذار والاستقالة, وحده الضمير هو الذي يدفعه إلى ذلك, كما دفع الكثيرين من قبل في العديد من دول العالم الحر! كنا ننتظر في سياق هذه المرحلة الانتقالية الحرجة وعيًّا مختلفًا من طرف الأجهزة الحكومية القائمة, وعيًّا يدرك أن المصريين لن يرجعهم أيُّ نظامٍ جديد إلى ما تركوه من ورائهم, وأنهم لن يقبلوا بتكرار الأساليب القمعية, والشعارات الزائفة, والدعايات الكاذبة, التي استخدمها نظام مبارك البائد من قبل لسلب حرياتهم وحقوقهم, فضلاً عما زاد على ذلك من "مكارثية" جديدة باتت تهدد التفاعل الفكري السلمي والحر, عبر الاتهام والتحريض بين فئات الشعب وطوائفه, ومن خلال قنوات إعلامية رسمية وخاصة يُعدّ عددٌ من أصحابها, والقائمون عليها, من أشهر فلول النظام البائد, وأكثرهم نفوذًا, فهل قامت 25 يناير كي يتحمل المصريون عَنتَ من يريد أن يزيل آثارها, ويُرجع مصر ثانية إلى ما كنت عليه قبل قيامها؟ يأبى كلّ ثائر ينتمي إلى هذا الوطن, انقسام لحمة شعبه, ويدين التحريض الذي يدعو إلى ممارسة العنف بين أبناء الوطن الواحد, فأي تخريب لمنشآت عامة, أو استهداف غادر لجنود القوات المسلحة والشرطة ممن يؤدون واجباتهم في حراسة حدود الوطن, وأمنه, وأمانه, وفق الدستور والقانون, هو عمل مشين وآثم لا يجب السكوت عنه. فمن يخرج على المجتمع بسلاح نخرج عليه بألف سلاح, لا لنقتله, ولكن لنحاكمه محاكمة عادلة تمرّ بدرجات التقاضي كافة التي نص عليها القانون وكفلها الدستور؛ لم تكن رغبة من خروجوا في مظاهرات سلمية في يناير 2015 هو الاحتفال للثورة بقدر رغبتهم في تذكرة جموع الشعب المصري المعلم بدماء شهدائنا الأبرار, بقدر رغبتهم في التعبير عن احتياج جارف من جموع المصريين لعدالتين ناقصتين هما العدالة الاجتماعية والعدالة الانتقالية, كانت شيماء –تغمدها الله برحمته- واحدة من كثيرين استشهدوا في هذه المسيرات السلمية, ربما يتحمل رئيس الجمهورية المسئولية السياسية عن دم أي مصري يُراق ظلمًا, ولكن من المؤكد أن نزف الدم المصري لن يتوقف إلا بمحاكمة رادعة وناجزة لقتلة الشهداء جميعًا, وللكتابة بقية..

ليست هناك تعليقات: