2015/02/20

الوعي والسرد تأسيس معرفي في ضوء وعي المؤلف والمتلقي بقلم: د.مصطفى عطية جمعة



الوعي والسرد تأسيس معرفي في ضوء وعي المؤلف والمتلقي
د.مصطفى عطية جمعة  
ما السرد إلا عمل فني، وأي عمل فني لا ينفصل عن الوعي بكل تجلياته، فلا سبيل لإنشاء سرد أو الغوص فيه أو تلقيه إلا بالوعي، فإذا كان المبدع ينشئ عمله عن وعي، فإن المتلقي يبحر في ثنايا العمل بوعيه، ويظل في وعيه ليكون جزءا من تكوينه. إذن، الوعي والسرد كل لا يتجزأ، ووحدة لا تتشتت
.
ويختلف مفهوم الوعي من مجال لآخر، فهناك الوعي الأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي، والديني...، إلا أن هناك مفهوما مشتركا للوعي، يتمثل في: ممارسة نشاط معين (فكري، تخيلي، يدوي...إلخ)، وإدراك تلك الممارسة. فأي فعل يقوم به الإنسان إنما يصدر عن وعي منه، سواء كان قولا أو عملا أو فكرا أو تخيّلا أو نشاطا يدويا...، ومن هنا فإن الوعي بالنسبة إلينا: هو إدراكنا للواقع والأشياء، إذ بدونه يستحيل معرفة أي شيء. لذلك يمكن وصف الوعي بأنه الحدس الحاصل للفكر بخصوص حالاته وأفعاله. وبالتالي فإن تحديد الوعي بمجال معين، إنما يتناول المعرفة بهذا المجال، وفهم أبعاده، والمهارة في أدائه، فنقول مثلا: الوعي الاجتماعي، أي فهم أهمية العلاقات الاجتماعية ودورها لشخصية الفرد وبناء المجتمع، وسبل تنميتها، وتعميقها، وترشيدها إن زادت أو انحرفت، وهذا كله يتوقف على وعي الفرد ذاته وذكائه، وهو يتفاوت من شخص لآخر، في ضوء مهاراته وحاجاته.
أما "اللاوعي" فهو يندرج تحت الوعي إن لم يكن جزءا أساسيا منه، فهو المقابل له في العمق النفسي، وكما يصف فرويد النفس البشرية بأنها مثل جبل الجليد، ما يختفي منه أكثر بكثير مما يبدو ويعني به "الهو" أو ما يسمى مبدأ اللذة (نزعة الليبيدو)، الذي يحوي الغرائز والانفعالات المكبوتة، التي تعتمل داخل النفس وتظهر في فلتات اللسان والقلم والحركات، وهناك "الأنا" التي يواجه بها الإنسان مجتمعه، بأخلاق ونظام يحاول من خلالها التوافق مع مجتمعه([1]). فالوعي واللاوعي كلاهما يتدخل في الفعل البشري، وإذا كان الإنسان واعيا بكثير من القرارات والأعمال والأقوال التي تصدر عنه، فإنه لا يستطيع فكاكا أن ينكر زلات اللاوعي التي تنضح من شخصه وتظهر في فعله.
ومن هنا، تأتي علاقة الوعي بالسرد، محددة في ثلاثة جوانب، تلتقي في مادة السرد، فالموضع الأول: الذات الساردة، والثاني: المسرود ذاته، والثالث الذات المتلقية. ويكون الوعي محركا بين هذه الجوانب ، فهناك وعي لدى السارد ووعي في النص السردي ، ووعي لدى المتلقي، وكلما استطاع المتلقي أن يتلقى النص السردي، ويفك شفراته، ويقف على الكثير من رسائله ورموزه، كان دليلا على أن النص السردي واضح في طرحه، جميل في تشكيله، عميق في مضمونه، مع الأخذ في الحسبان أن هناك تفاوتا بين مختلف النصوص فهناك نصوص تفتقد العمق، وتنقصها الجماليات، مما يجعلها بسيطة الطرح، سطحية المضمون، وينأى عنها المتلقي سريعا لأنه استوعب رسالتها بيسر.
أيضا، فإن فهم المتلقي لرسالة النص وشفراته، دليل على مدى تمكن السارد / المنشئ في تكوين نصه، الناتج عن وعيه بالحكي، وإدراكه لكيفية تقديمه للقارئ بشكل جمالي وجذاب، وبالتالي تكون المعادلة بين الوعي والسرد قائمة على: وعي السارد وتمكنه من تقنيات سرده، وتحقيق هذا في النص بشكل عال، يجعل المتلقي سابحا متمتعا هاضما رسالة النص، مشاركا بفاعلية ووعي في إنتاج دلالات جديدة، تغذي نفسه، وتضيف لمجتمعه تنويرا وجمالا.
إن الذات الساردة تكوّن إبداعها عبر عوامل عقلية وانفعالية في أعماق المبدع، تستغرق بعضا من الوقت، ومن ثم تبرز على الورق. فأولى لحظات العمل والوعي هي - في الوقت نفسه - استيعاب وإدراك جمالي للعالم، فمظاهر عمل الإنسان ووعيه منذ بداياتها الأولى ذات علاقة مباشرة بالتجربة الجمالية([2])، وهو عملية خلق يقوم بها المؤلف وإعادة خلق في لحظة الإدراك من قبل المشاهد أو المتلقي([3]).
وعلى قدر تمكّن الذات الساردة من عالم القصة، وامتلاكها الأدوات السردية في التعبير والبناء، والتقاطها لموضوع جديد، وأحداث مختلفة، وتناولها من زوايا جديدة، تكون الجدة والطرافة في السرد نفسه، وهو السبب الأساسي في تميز النص السردي. وعلى قدر تمكن السارد من موضوعه، وهضمه للأشياء والعالم المعبَّر عنه، يكون أدعى لعمل سردي جيد.. فـ "الصلة الفنية بين الأشياء والأفكار تتميز بطابعها المباشر، فهي مقارنة وتشبيه وتداع، أو هي تقريب حر لا يتطلب براهين"([4])
أما المسرود ذاته، ومن المنظور الفني، فإن التعامل معه بوصفه أثرا فنيا (أيا كان مجاله ونوعه) لا يوجد كفكرة فنية فحسب، بل كتجسيد لها في آن معا كأثر وشيء، والأثر (تمثال أو رواية..) لا يوجد كمادة جامدة بل كواقع وفعل([5]). فلا يمكن الحديث عن علاقة الوعي بالسرد دون وجود سرد حقيقي ، يتم تناوله بشكل علمي، بعيدا عن افتراضات عقلية ونفسية لا نجد لها أثرا في النص أو لا يكون هناك نص يحقق فرضياتها، ونفس الأمر مع السرد، لا يمكن التعامل معه بوصفه شيئا جامدا، إنه نابض بالفكرة، معبأ بالأحداث والشخصيات، زاخر بأبعاد نفسية وجمالية شتى، وهذا يستلزم دراسته علميا وفنيا ونفسيا.
إن السرد يقوم على دعامتين أساسيتين: الأولى: أن يحتوي على قصة ما، تضم أحداثا معينة. الثانية: أن يعيّن الطريقة التي تحكى بها القصة، وتسمى هذه الطريقة سردا، ذلك لأن السرد يمكن أن يحكى بطرق متعددة([6]).
وهو ما يسمى زاوية رؤية الراوي أو أشكال التبئير، ويعني بالتقنيات المستخدمة في سرد النص، فكيف انطلق الراوي / السارد في نصه، ومن أي زاوية حكاه، وهذا يعود إلى غاية السارد وما يرمي إليه في حكيه، ورغبته في السيطرة/ الجذب لقارئه. مع الأخذ في الحسبان أن هناك نمطين من السرد: سرد موضوعي (Objective)، وسرد ذاتي (Subjective)، فالأول يكون السارد فيه عليما بكل شيء عن أبطال قصته، وأفكارهم ودخائلهم السرية، ويقدّم من خلال سرده ما يروم قوله من منطلق هذا العلم (السارد العليم)، أما الثاني فهو يروي السرد من عيني أحد المشاركين في السرد أو سامع له، أو أن كليهما متفق على هذه المعرفة([7])، وبالتالي يظل القارئ واعيا بأن ما يتلقاه من سرد إنما هو من وجهة نظر (بؤرة) الراوي أو البطل الذي اختاره السارد ليروي الحدث، سواء كان هذا الحكي بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب أو عبر رواة متعددين، وفي جميع الأحوال نحن أمام وجهة نظر فردية، يُقرأ السرد من خلالها. وهذا يعود بنا إلى وعي السارد، ولن يُفهَم إلا عبر النص نفسه، الذي هو وثيقة مدونة لهذا الوعي، ومعرفة رسالته المتوخاة.
وبالتالي، فإن دراسة الوعي في السرد يعني فهم الأحداث والشخصيات وتفاعلها زمانيا ومكانيا، والوقوف على وجهة نظر السارد في بنائه لسرده، ومدى الجدة التي طرحها في الزاوية التي تناولَ عبرها سرده.
ومن المهم الأخذ في الاعتبار، أن مسألة تعدد الرواة، والسرد من زوايا متعددة إنما هي مسألة فنية، تهدف إلى الإيهام بالواقع، وهي شكل من أشكال الديمقراطية في التعبير، وفي حالة غياب هذا الموقع الفني الذي يتوخاه السارد يكون الخطاب في مجمله موجزا، مقتصرا على ما يرومه المنشئ فقط، أما في حالة تقديمه عبر بنية التبئير وبشكل فني، فهذا دلالة نهائية على أن المسألة لا تعدو إلا أن نكون وجهة نظر خاصة بالراوي في السرد، مؤطرة ومحددة بواقع هذه الشخصية ومحدداتها الاجتماعية والثقافية، فهي لا تتحدث في المطلق، وإنما تظل مروياتها خاضعة لرؤاها الذاتية المشبعة بوعيها الخاص([8]).
ويبقى تدخّل السارد العليم محدودا، بحدود حركة الشخصية، وطبيعته، والأحداث التي تحرّكها أو تتحرّك من خلالها، فلا يمكن استنطاقها بما لا يتناسب معها ولا مع تكوينها، وإلا لن يكون سردا محكيا بل خطابية ومباشرة، وينكشف قناع المؤلف الضمني، ويهتك ستره. ومن هنا، فإن وعي السارد بشخوصه يعني مدى تمكنه من الغوص في أعماق شخصياته، والتعبير عنها، واتخاذها نموذجا ومجالا لما يريد قوله، وهذا يجرنا إلى طبيعة الرسالة السردية، إنها رسالة مبطنة في ثنايا الشخصيات وما بين سطور الأحداث، وهي تختلف عن سائر الفنون، وأبرز ما يميزها هو مادة الحكي التي تجذب المتلقي، وتنقله لإيهام جديد، ومن ثم تتسرب في وعيه ما يرومه المؤلف.
أما المتلقي، فإنه يجد متعة في قراءته للنص الأدبي، تمثّل خلاصا من بعض التوترات النفسية، وقد يكون فيها تلذذ عندما يحوم مع المبدع في استيهاماته، ومن الممكن أن يتفاعل لاوعي المتلقي مع لاوعي السارد المتجلي في النص، ناهيك عن تفاعل وعي المتلقي مع وعي السارد وما تبثه إشارات السرد([9])، وهنا تتحول القراءة من مجرد عملية تلق تقف عند مستويات أولية تتمثل في الاستمتاع بالحكاية وأحداثها إلى المتعة والتلقي الثقافي والفكري، والتحاور مع الحكاية نفسها، ونقدها، وتشريحها.
فالقراءة بمعناها النشط هي نقد ينتج معرفة بالنص، فالقراءة النشطة تعني أن لا يبقى القارئ مجرد متلق، تُلقَى في ذاكرته حمولة النص ثم تتركه أسيرا لها، بلا قوة، وتصوغ لوعيه جدرانا، يبقى أسيرا لها. وإن النقد بمعناه المنتج قراءة تمكن صاحبها من أن يكون له حضوره الفاعل في النتاج الثقافي في المجتمع، وهذا يعني التأكيد على أهمية النص، ودور الناقد في قراءته بمنهجية([10]).
وهنا يصبح القارئ – أيا كان – أساسا في فهم النص وتحوّله من مجرد نص مكتوب للقراءة والمتعة ومعرفة الجديد فيه، إلى مناقشة النص، ومن ثم نقل ما فيه إلى المجتمع ، لينتقل النص من حالة الكتابة الثابتة إلى حالة التفاعل الاجتماعي والثقافي المتدفقة والمتجددة .
إن عملا مثل "ألف ليلة وليلة" ليس مجرد حكايات تروى للمتعة، وإنما عمل مشوق لقي تجاوبا من قرائه ورسوخا في ذاكرتهم، فتحوّل تدريجيا من التلقي الأوّلي المتمثل في المتعة، إلى الانسياب الاجتماعي عبر إعادة إنتاجه وروايته شفاهيا، ومن ثم إدارة النقاش حوله من قبل السامعين، وتدريجيا ترسّخت الحكايات في الوجدان الجمعي، الذي زاد عليها ، وحذَفَ منها، وأنتج الجديد المضاف إليها.
ونفس الأمر مع حكايات "كليلة ودمنة"، فقد تحولت من حكايات للمتعة، إلى نص متداول، يعاد إنتاجه وسرده في عشرات اللغات العالمية، مستفيدا مما فيه من حكمة وخبرة إنسانية عظيمة، وقد ساهم النص عبر بنيته الحكائية الفريدة في تدعيمها، وجعلها تراثا إنسانيا جامعا للحكمة، وهذا ناتج عن تلق فاعل بالنقاش خرج بالكتاب من كونه مدونة سردية ماتعة، بها حكمة إلى فضاء ثقافي واجتماعي رحب، تجاوز الثقافة العربية والفارسية والهندية إلى الثقافة الإنسانية كلها، فتتقبله لما فيه من بنية حكائية فريدة، واستنطاق على ألسنة الحيوانات، وتقديم عالمها بعمق، ممزوج بالحكمة المرتجاة.
وهذا يجرنا إلى ما يسمى العلاقة بين السرد والخطاب، فالقصة يمكن تناولها عبر بعدين متقاطعين، الأول: بوصفها خطابا، وهذا يجعلها متناولَةً عبر دروب ثلاثة: الراوي، الخطاب، المروي له أو ما يسمى "سرديات الخطاب". والثاني: "سرديات النص" وتشمل: الكاتب، النص، القارئ.
"إن العلاقة بين سرديات الخطاب وسرديات النص، علاقة تكامل لا تنافر، ويتحدد تكامل العلاقة من خلال اختيار الدارس أو الباحث، وتعيينه للموضوع المشتغل به..، بهدف عدم حصر السرديات في مجال التحليل التقني للسرد، وانفتاح السرديات على علوم اجتماعية وإنسانية تتيح لها إمكانيات مهمة ومتجددة للتطور([11]).
ففي السرد يتقاطع بعدان: الأول يعني بالسرد كخطاب موجه من راو إلى مرويٍّ له، وهذا يعني دراسة قضايا السرد وما فيه من أفكار ورؤى، وما يعبر عنه من ثقافات، وكيف يمكن لعلوم إنسانية عدة أن تتقاطع معه، ويكون محلا لدراستها مثل علوم الأنثروبولوجيا، النفس، الاجتماع، الدراسات الثقافية، التاريخ، العلوم اللغوية.. إلخ، فيصبح السرد وثيقة ومحل بحث، وهذا يساهم في المزيد من إضاءته، خاصة السرديات المدونة في عصور مختلفة من التاريخ، لأنها مرآة لعصورها المدونة فيها. وفي كلٍ؛ يكون الوعي حاضرا في الدراسة، لأننا ندرس وعي المؤلف الضمني، ووعي الشخصيات وأفكارها ورؤاها وثقافتها، ووعي المتلقين المفترضين في عصر التأليف، وثقافتهم.
والبعد الثاني يتحقق من خلال دراسة بنية المسرود نفسه، وما فيها من تقنيات وجماليات، وكيف ساهمت في توصيل الرسالة المبتغاة، وهذا دال على وعي المؤلف ومدى تمكنه التقني، واستيعابه لموضوعه وفكر شخصياته المنعكس على الأحداث، ومدى تذوق القارئ لهذه الجماليات

..............
 

الموجز في التحليل النفسي، سيجموند فرويد، ترجمة: سامي محمود علي، عبد السلام القفاش، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000م ، ص27 - 28. [2] ) الوعي والفن، غيورغي غاتشف، ترجمة د.نوفل نيوف، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، فبراير 1990م، السابق، ص12.[3]) السابق، ص15.[4]) السابق، ص13.[5]) السابق، ص15.[6]) بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1990م، ص45.[7]) السابق، ص46 .[8] ) الراوي: الموقع والشكل، بحث في السرد الروائي، د.يمنى العيد، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1986م، ص177.[9] ) التحليل النفسي والأدب، جان بيلمان نويل، ترجمة: حسن المودن، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997م، ص42-44.[10] ) الراوي: الموقع والشكل، ص12 - 13.[11]) الكلام والخبر: مقدمة للسرد العربي، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1997م، ص24 -

ليست هناك تعليقات: