"الأحكام لا تسقط سهوا"
بقلم: رولا حسينات
قالت بصوتها المبحوح:" إن الله لا يسمع من ساكت.."
قلت:" ولكنه سمع ممن ابتلوا من أنبياءه وفرج عنهم.."
قالت:" ولكننا لسنا في زمن الأنبياء.."
كانت تباشيرها ترسم عند كل منعرج للطريق،
وابتسامتها تنير النواقيس المعلقة على أعمدة الصمت..هي من ترفق بي وتحنو عليّ،
ألمي أول من يسمعه دون أنين، ودمعي قبل أن يذرف على الوجنتين تدنو لتطفئ جذوته، تنصت
لهمسات قلبي، كما لو أني كنت أحبو على أحلامي الوئيدة، فتفزع من تلك الغصة التي قد
تعيق مني المسير..أمي.
لكن
الحياة ليست حبوا ولا عدوا، إنها قتال وفصال، تلك البثور التي تغطي الوجه دامية
تغطيها بألف لون، وتبقى هي ويسقط غيرها الواهن عندما تنهال الحقيقة، لتسكب وجعها، لتعدو
قبيحا بلا معيل أو ود عن أناسي الطرقات والباحات، كما لو تمنيت أن تتقلص إلى حيث
لا تُشعر أحدا بهدأتك، لو أنك لم تخلق بعد.
قد تفعل أمي أي شيء قبل هذا، قبل اعترافي
:أني قد غدوت امرأة، تلك الصغيرة في المهد تخلت عن كل نفائسها، لتهبط وحيا من
السماء بصيغة أخرى غير صيغة القديسة.. لن تصيخ السمع لي حينها، بل ستكون أول من
يغرس أظافرها، كمبضع ظرٍّ ينهش جسدا، لطالما هبت لنجدته، وكيف لا؟؟ وهي من تعلقت
بأستار الأمل، أحلت ضعفها وقوتها وبوارج النسيان لكل ما فاتها، لتلطم به الوجوه
المعزية، بقدوم بنت.
وها هي البنت يا وجعي قد أجهضت أحلامك وهي في
الأحشاء جنين. وقد غدوت بين اليوم وليلته امرأة. لم أقاومه أعترف دون أي ضغوط قد
أرزخ تحتها، بأني لو قدر لي لأعدت الكرة، فلن أقاومه. كيف أفعل وهو حبيبي؟؟
قالها بصوت واثق: أنت مجنونة.
قلت:
أيُّ معادلة هذه التي ستتحمل بين جنبيها عاقلين؟؟.
قال:
لم يحن الوقت بعد. قلت: كيف لي أن أتركك تذهب هكذا، دون وداع دون أن تجعلك فيّ في
الرواح والمجيء.
تنهنه: يا صغيرة، اصبري، كلها بضع سنوات، وأعود
حاملا شهادة، أعلقها على صدر مكتبي، وتكونين أول زبون. ..وهل سأكون مجرمة حينذاك،
لتدافع عني.
لا
ربما تطالبين بيّ كزوج... امممممم ولما لا تطلبني زوجة أنت الآن، وتكون كمن سبق و
أكل النبق؟؟
أتعرفين كلما نظرت إلى عينيك، شعرت أن الجنة كلها
بين يديّ..أذكرك طفلة تحبين، جاهدا حاولت إبعادك عن مجال تفكيري فما استطعت، وقع سهم
الحب في نفسي مذ رأيتك، أول مرة في بيت عمتي صفية، أتذكرين؟؟ كنت تقطرين عرقا كما
لو نزفت تحت وهج الصيف، وتلك الحمرة على خديك لها نكهة بيارات البرتقال، كنت حينها
اقرأ في كتاب الحب من أول ما أبصرتك كما لو أنك خرجت من أحلامي، أذكر ذلك كما
الساعة التي أضمك فيها إلي، كنت حينها يا صغيرة في الثانية عشر، وأنا أسبقك من
العمر بثمان. انسحبت من بين السطور والأذرع الممتدة من بحر العشق لألتقيك ثانية،
كم من الزمن مر؟ كم من الجمال تربع عليك يا حسناء؟؟ تقدمت إليك بمنديل، حمرة اعتلت
وجهك، الذي غدا كقرص الشمس، وذوائبك تتراكض خلفك كذيل فرس شهباء، باحثة عن فارسها على
رمال الصحراء، سكنت إلى جانبك في المكتبة، وتربعت على كرسي العرش، وأبحرت فيك،
وبدوت كما لو أنك تتلقفين الهزائم متتاليات وكذلك الأفراح، صدرك يعلو ويهبط،
تنحنحت، لم ترفع نظرك..كما لو أنك لم تستحضريني في الصورة.. صرت أجول بين الصفحات
تارة وبينك فما أجمل منك وجدت!! شعرت بنا منذ ألف عام ..لم يرنو لأذنينا دعوة
الغداء..عمتي تصرخ بأعلى صوتها: مثقفين ها والطعام ألا تأكلانه؟؟ كانت تجمعنا في
بيتها كما تجمع الكتب كما لو طفلها ترعاه.. حين سألتها يوماً: لما لم تتزوجي عمتي
صفية؟؟ رمت بصرها إلى الأفق البعيد، وسحبت نفسا عميقا من كتاب أحلامها المعلق بين
عينيها، وقالت بآهات مختنقة: ولما عليَّ أن أفعل؟؟ وقد فعلت أكثر من ذلك، فالزواج
عقد والعقود قد تكون بين اثنين دون أن يوقعا أيّا منها؟؟ لم أكن لأدرك شيئا مما
ترمي إليه.. الكلمات عناوين لمحطات كثيرة. تلك المقالات المقصوصة والجمل المبتورة
التي تدونها، بقلمها الحبر الجاف، وتلك التأملات، وذلك الاسم الذي لا تخفي ذكره،
وهي تطالعه كما سيمفونية الشتاء والربيع والفصول كلها.. كم هي باردة الذكرى! وكم
هو دافئ الحب!... آه ما أجمل كلامك..!.. وأنت كنت حينها الأجمل وأنت تتنقلين بين الأساطير
التي لم تخن يوما.. لم أكف عن تذكرك، كلما عنت على بالي كلمة الوجود، شعرت أنه أنت
وأنت هو. لا يمكن بتركما عن بعض.. يضل من يظن أن الحياة بلا عشق سكون ورهبانية..
تراه لما قال الرب حينها: "الرب محبة." وأنت المحبة كلها، لا أدري ما
سيصبرني كل هذي السنين، أو أطيق صبرا يا نجوى؟ بالكاد أستطيع الابتعاد عنك، وكلما
تقاسمت عينانا: أن لا فراق يأتيني.. شبحه ينسيني ما ذكرت، فأطيل النظر إليك، وأنت
ترقصين.. تثملين.. تقرأين.. تحتسين كل جنان الأرض في كوب ضحكاتك.. بين جنباتي
ضحكاتك همساتك كلها جنون، والحب جنون.. مالك تنصتين وكأني أتلو كتابا إلهيا، فلا
تقاطعين؟؟!.
إن
كنت كذلك فما عساي أقول؟؟ أتكفي كلمة.. حب.. عشق.. جنون لتقدسني في قلبك؟ لتعبر
بها بحار العالم ومحيطاته، حينها لن تنساني، ولكني لا أطيق أن تقاطعني أمواج الصمت
البهيم عند كل مفترق للطرق.. أمسك بك فتذوب كالهلام.. اقسم لك أني كائن له
مشاعره.. ضمني إليك ليذوب جليدك وينصهر فوق حممي، ونطفئ البركان.. ها نحن معا في
وسط بناية من أربع طوابق، كل طابق سكن بأهله، إلا شقتك فهي باردة باردة جدا، لنكن
معا ولو مرة.. أريدك أن تقبلني مرة واحدة فقط، ولتذهب كل الدنيا بعدها فلا أريد إلا
أنت..وهل في هذا عهر..؟ أرأيت وأنا أنهب الطرقات معك إني امرأة كاملة؟.. وأنا الآن
في السادسة عشرة، وأنت تفوقني بعدد سنين، كلنا يفهم ما يريد، ويعرف أن الحب أقوى
سلطان.. ألم يسموا له آلهة فكانت عشتار؟ ألم يبنوا له بيوتا للعبادة؟ فلما لا نترك
أجسادنا لرحمته، ولنجعله من يكللنا ونقسم أمامه أنّا لن نفترق...
ومضينا تلتهمنا الطرقات وكنا وحدنا يا حبيبي لأول
مرة منذ سنوات.. لوحدنا دون ذكريات.. ولكنك كنت لا تريد سوى أن أبقى كما أنا، لأكون
عروسك.. فقط قبلة واحدة طبعتها على جبيني. وقلت:"إنك امرأتي أنا، لا أطيق أن أراك
محزونة مبتورة دوني، لا أطيق صبرا.. لأن أجعلك ملكة بيتي، كما أنت ملكة روحي.. فلا
أجساد تبقينا، يا حبي معا.. بل أرواحنا، من تتبتل بحبنا إلى حيث تطامن من يعفو عنا
في السماء، وأهديك كتابي دون صور، فقط سطور وأي سطور؟ تروي نشأة الصبر وحكاياه."
قبلته..
وأهديتني إياه.. نعم، وودعتني والطرقات..و كل حبة رمل دسناها بأقدامنا.. تشهد بأنا
أقسمنا: أن نبقى معا.. حزنت يومها فقلت في نفسي: لعلي نصف امرأة!!. لكنك قرأت أفكاري،
وناديت حزني، وأنت تضع يدك على روحي رافعا انكساري: أنت امرأتي وأجمل امرأة
..عندما وصلنا إلى آخر منعرج يفضي لساحة بيتي، ودعتني وودعت معك كل الذكريات وبت أطرق
بخطواتي أذن الكون: أني امرأة اليوم.. من لون ونوع آخر..
وهكذا كنت يا أمي، ابنتك غدت بين يوم وليلة امرأة
..
السنوات تمر وخريف العمر يمر وساعة الزمن قد
سرقت عقاربها، مضت للآن أربع سنوات، وأخبارك من البعيد تأتي مشوهة مزفوفة بالطلاسم..
العمة صفية قد تغيرت، بدت أكثر وجوما واصفرارا..أشعر أنها تخفي الكثير، سحب من
الدخان تلفها على الدوام، أعناق سجائرها قد سحقت أعناقها في المنفضة، رائحة البيت أكثر
عفونة، السعال ونوباته تنتابها، أكثر وأكثر، لم أدرك حقيقة ما يجري!!..حسبتها
غمامة فراقك وحسب، ولكنه كان أكثر من ذلك، أدري أن النهاية تأتي بطقوسها مبكرا،
على حين غرة، لتسرق من نحب.... وتغيبهم إلى ما وراء الأفق دون وداع، خوفا أم تحسبا
تراه، من أن تتعلق النظرات باقتباسات الأمس وأيام قد خلت، وخلت ورائها السراب..؟؟.
وهاهي الدنيا قد ولت بصفية فقد ذهبت ريحها معك،
وبقيت أسراب الحبارى تتطاير مذعورة، دون أن تعزف سيمفونية الصباح، رائحة الشواء
تزكم الأنوف، الضجيج، الذعر، صور القتلى والجرحى، الأشلاء المبتورة تملئ الطرقات،
وغابت الدنيا هذه المرة ومعها كل من أحب، من يسندني حين الوقوع، من يتلهف عليّ.
كانت
شظية هي من قسمتها قسمين، بين ذراعي خلت قلبها والى البعيد ذهبت قدماها، فلا أستطيع
لملمة ما تبقى من أسرار.. أهو النحيب حينئذ؟ تلقفت البناية قنبلة على عجل
والمارقون الأسود لحاف وجوههم، يتصيدون العذارى في الخدور، لحظات ويعلمون أن في
البيت جثث تنبض بالحياة، ودون من تبقى من أحبة ألوذ بالفرار، إلى حيث سقطت الدماء غزيرة لاستحم فيها ولأنفض عني رخاوة
السنين، شاحبة بدوت وبحجارة كُسيت، فما تبقى غير أنفاسي لتموت ثم تبعث..
كان الأحياء هاهنا يمرون، ملوحين بأجسادهم
المبتورة، بصورهم الناقصة، أسراب القطا والطير المغرد على الأدواح..بالأمس كانوا جميعا
يجوبون الطرقات..
مضت
الدقائق كدهور ميتة، قذارتهم وحشيتهم وهم ينبشون ما تبقى من حطام، يتضاحكون هذي
ملابس نسائية.." آه ليتهن كن أحياء..".. ولكن الموت صفقة مع الشرفاء..
هم
يحتفلون بالنصر وبهم حيرة لمن ينسبون زمن اللحظة لحظة الانتصار؟!! اللحظة تختلف في
تعبيرها بين الخاسر والمنتصر بين القوي والضعيف وهذي اللحظات أسوءها.. أجر جسدي إلى
البعيد، حيث أشباح القتلى تنهب الطرقات، صوت شج قلبي وانقض على مسامعي، بكاء أخرس
لرضيع دفن تحت الأنقاض..
السماء تلبدت بغيمها الأسود لتنزف ما تبقى من
صواريخ ومدافع وقنابل، كلها باتت من صنوف المطر.. غيره المطر الذي ألفناه، أشتم
ريحه الرضيع واسمع الأنين ببطء.. نعم، هاهو تحت الركام، انبشه لتدمى يداي.. اقتلعه
من تحت براثن الموت لاضمه، مازال كما هو ملفوفا بغطاء أزرق وخرزة من العين قد خيطت
بالغطاء، رائحة الحليب والحفاظ النظيف، رائحة البراءة ورائحة الموت، تلفان المكان..
لا
وقت للعاطفة عندما تغتال الإنسانية. ألوذ ببيت قد اكتاله القصف من القاع، الطفل يئن
ويبحث عن ثدي ليرضعه.. كما قال الفيلسوف مرة: الخيال لعبة الأقوياء، ضع كل حواسك
التركيز أول خطوة وأهمها.." أتخيل نفسي أما عاشت ثورة المخاض، نبضات متتالية من
الألم تصرع جسدي كله، ألم في الصدر، ثدي أكثر قسوة، قنبلة موقوتة تعد الثواني للانفجار،
أفتح الأزرار وألقمه إياه، يبكي بمرارة..شهقات وبكاء وسكون..إنها العواطف المختلطة
التي تفزع العقل.. يلتقم ثم يبكي ويعيد مرارا وتكرارا..
كم
من الزمن مضى عليك يا صغيري دون طعام ..؟؟
الليل والنهار سواء فلا فارق بينهما، والشمس
قد أقلعت عن عادتها في التمختر والغرور ولملمت جدائلها، وهجرت عشيقها، وغابت إلى
حيث لا يتبعها أثر، رافقتها النجوم
والحدائق والعطور والهواء.. وبقيت السموم معشقة بغشاوة المكان، كم سيمضي علينا من
الزمن لنخرج أنا وأنت أحياء؟؟ نم يا صغيري فهناك لا بد من نهار، إن كتبت لنا
الحياة..
وسار
الموكب يقلب الأحياء بعد حرب الأيام الخمس، الموت يلف المكان، لا عويل ولا نواح،
لا بوم وغربان تنعق بالديار، كلها قررت النزوح إلى حيث تُعرف تعرفة النوم والهناء..
ضريبة الحرب مريرة.. فهي لا تقبل الرهن ولا التقسيط، تريد الدفع مقدما بلا تفاوض
ولا مقامرات، هي دوما تحب أن تكون أحكامها شرعية، كن فيكون فلا استجواب ولا استئناف،
ولا أي تحقيق في فروضها، فلا شهود من أي من الأجناس، فقد قضوا نحبهم، فمن يكتب
التاريخ حينئذ السفاح أم القتيل؟ المدفع أم القبر؟؟.
كل
النهايات باتت معلومة عندما عثروا عليّ، كنت قد وقعت مع الموت عقدا، بأن أصحو في أي
مكان يجعل أحلامي في متناول يدي، بأن أراك.. أتظنني وفية بما يكفي كي ألقاك؟؟
قلت
لي يوما: أن الشرف لا يمكن أن يعود، إن ذهب، وأن من طبعك الوفاء، وأنك لا تمد يدك للجبناء،
وأن أهم أهدافك إقامة العدل.. فأي عدل يمكن أن أتقاسمه مع صورتي هذه؟؟
لاجئة إلى حيث اللامكان..
الغرور يا صاحبي كمستنقع من الوحل يسحبك إلى الأسفل،
كلما تحركت أكثر.. ولكنك حين تتوقف وتبقى هادئا، فإنك ببساطة قد تستطيع الخروج،
ولكني لن أستطيع ذلك، فأنا مع قطعان من البشر، قد نجوا فجاءة من الموت، واقتيدوا
سجناء القدر..
الوضع المزري، خيم متطايرة بلا أشجار ولا
شرفات، و لا طيور غيرها الريح تزف البرد والمطر..المعاناة فقط وها أنا والرضيع..
كنت لأول مرة أريد أن أضحك. عندما قال لي أحدهم :ما اسم طفلك؟؟ قلت: أنه أنت
سمير.. أرأيت أنه في زمن الحروب يختلف فيه كل شيء؟؟
..المواعيد والضوابط..لا تغني ولا تسمن من
جوع، و لو أني لم أرك ثانية..فأنا وفية إلى أقصى حد.. سمير هو ابني..
ما
اسم الأب؟؟ فكرت مليا أن أقبض على ذكريات الأب، الذي غاب وأنا في الأحشاء..
نظر إليّ بتجهم..: أسالك يا امرأة، ما اسم
الأب؟؟
قلت:
عمر... سمير عمر..
أعطاني الورقة وقصدت خدري المنضود من
الحجارة، وكومة من المعلبات، وحليب للصغير وغاز بشعلة واحدة، وإبريق.. لكني ألقمته
ثديي.. ما أجمل شعور المرأة، حين تلقم ثديها لمن تحب.. وهل هناك أجمل من الرضيع؟؟!
دفقات من الحنان لم تتوقف رغم الوهن.. أقيم
وئدي ببضع لقيمات لأخلد إلى دفئه في كومة من الأجساد.. تلتصق بمن تحب تتكور ليدفئك!
إنه الحب يا صديقي الذي لا يمكن للأهواء المستعرة أن تعرفه، وكيف تعرفه وهي تتلصص
خلسة بين الوجوه النائية عن البشر..وكنت حينها فريسة بنظره قد استساغ مضغها ثم
يتفلها، المرأة بنظرهم جسد وشهوة ما أن يتم بمبضعه خرقها ينهي وجودها، ما أبشع أن
تكون اللاشيء، وأن تنتظر أن يقيمك أحدهم،
في زمن الحروب يكون البلاء، مجردا دون هوية قد تصنع تماثيل للجوعى، وقد يتفنن
الجزع في محو الوجوه من خارطة البقاء..
كنت أشعر أن في السماء الكالحة رائحة الخيانة
والاستغلال، الاغتصاب صناعة يمتهنها كثير من المسؤولين وأتباعهم مخولون بهتك
الأعراض، شعرت به ينتظرني وهو ينفثني في سيجارته النتنة عند كل معبر، من يقلب
العابرين، الذئب الوسخ. كل ما فيه يصيبني بالغثيان، وهاهو الليل يرمي جفونه
ويتوارى قمره بالحجاب، وجاءت جسور من النور ضئيلة ناعسة، وأنفاسه الغليظة عفنة
بشعة، أخذ جسده ينتهك الخيمة، شعره الأشعث وجهه البشع..سكرته.
سكين
في حوزتها لا يفارقها ..الرضيع خلفها ..حدثت نفسها:" إن مت فلأمت وحيدة..لعل
قدرك يا صغيري، يؤمن لك حياة أوفر من السعادة التي أسقطها السفهاء.. جعل ينفخ في
قذارته ليبقيها مشتعلة ..الهدوء لا يبشر إلا بعاصفة فكن على حذر أيها المغتصب.
انقض بجسده عليها ليسجنها وصرخاتها ..لكنها كانت أقرب من مبضعه بمبضعها..و جأر
لينتهي كما لم يكن..كان يمكن أن تصرخ فلا تسمع صرخاتها، فوادي الموتى ليس فيه إلا
العظام والرفات..ولكنه الخوف من يحي الموتى ويبعثهم من قبورهم..تلقفتها الأصفاد..ونهشتها
الأصوات: قاتلة، قاتلة..ما أبشع الحقيقة التي لا يبصرها إلا الضعيف..الملاجئ مليئة
بكل شيء إلا النزاهة، الضعيف دوما ضحية، والضحية
حظوظها في أن تنصف ضعيفة، والخناجر تطالها والسجون بوابة واسعة لنيل الشهوة
دون رقيب.
السكون هبط على لوحة المكان، النواح والعويل
فارقا الرضيع ، بدت التضاريس كلها سواء أكثر تسطحا، والنور المنكسر من الأعمدة
الخشبية، الماثلة كالتوابيت، وجاء المحنطون مشهرين السلاح يحيطون بالقاضي، جلس على
عرشه، والشهود حاضرون والمحاضر مضبوطة، وعلى المتهم أن يتسلم كتابه، نظاراته
السوداء لحيته المحيطة بذقنه بأناقة، تسريحة شعره وبدلته التي ما يفتأ ينفض عنها
الغبار، جاؤوا به والجمع من حولها ينعتها بالمجرمة، والسباب يزفها إلى مقصورة
النطق بالحكم ، من بعيد لوح بيمينه وبعث لها قبلاته، كم هو الحنين وكم هي بعيدة
تلك السنين! فلا فواصل لمشاهد أكثر حميمية، الجفاء هو أس المعادلة والفراق هو
اتحادها، رفعت بصرها إليه وخلع نظارته ليلقي نظرته الأخيرة، ها نحن يا حبيبي، ياه
كم طال انتظاري لأزورك في مكتبك، لكي تنطق بالحكم. الضمير لا يزعج صاحبه عندما
يموت، ولفافات المبادئ تجدها في مكبات النفايات. سيدي حان الوقت، نطق بكل برود:
فليكن حكمها الإعدام..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق