عمل تفسيري جديد، يدخل مكتبة التفسير القرآني، يقدّمه الأديب والروائي السوري عبد الباقي يوســف من خلال منهج جديد يعمل عليه في تفسير القرآن الكريم تحت عنوان: ( التحليل الروائي للقرآن الكريم) وقد صدر منه المجلد الأول متضمناً تحليل السور الخمس الأولى من القرآن الكريم: (الفاتحة - البقرة - آل عمران - النساء – المائدة ) تحليلاً روائياً، وقد جاء المجلد في 640 صفحة من الحجم الكبير، وصدرت طبعته الأولى 2016 في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق.
جاء في الصفحة 268: " يُعنى التحليل الروائي بتحليل الكلمة القرآنية تحليلاً روائياً، بمعنى مدى ترابطها بالكلمات الواردة قبلها، والكلمات التي سترد بعدها، والكلمة القرآنية هنا هي مختلفة عن الكلمة غير القرآنية، لأن توظيفها في القرآن يُكسبها ويُغنيها بمعان واستدلالات لاتكون لها في توظيفها في غير القرآن، وهذا ما يجعلنا نكتشف أن اللغة العربية كم كانت فقيرة باكتشاف معانيها وغناها ومدلولاتها قبل أن يُشرّفها الله تعالى بحمل رسالة القرآن، ولعل هذا ما حض أهل النبوغ كي يفتحوا في هذا الحقل فتوحات جديدة ما كانت للغة العربية من قبل نزول القرآن الكريم، وهي الفتوحات اللغوية التي كمنت في المعاجم والقواميس اللغوية". وفي الصفحة268: " التحليل الروائي هنا يشتغل على خصائص البنية الروائية المتماسكة والمترابطة مع بعضها البعض، سواء في جوهر العلاقة بين الكلمة وصنوّتها، أو بين الآية وصنوّتها، أو بين السورة وصنّوتها، وعلى هذا النحو يجلو لنا كيف أن السور القرآنية تتحوّل إلى فصول متناغمة ومتداخلة مع نسيج بعضها البعض، ومستكملة الأركان لبعضها البعض، لتتشكّل من هذا كله عمارة البناء القرآني المجيد.
يُظهر هذا المنهج العنصر الروائي في خطاب القرآن الذي يتحوّل إلى مجموعة هائلة من القصص التي يقصّها الله سبحانه وتعالى على رسوله، ويصفها بـ :[أَحْسَنَ الْقَصَصِ]يوسف 3، ولايعني ذلك أن :[أَحْسَنَ الْقَصَصِ]هي قصص إيجابية فحسب، بل هي في مجملها مزيج من قصص إيجابية، وقصص سلبية معاً، لكنها في وجهَيها [الْقَصَصِ]الـ [أَحْسَنَ]في اتخاذ العِبر منها، فهي الـ [أَحْسَنَ] صلاحاً لاستنباط واستخراج هذه العبر منها، كون مضامينها هي مضامين مفتوحة يمكن لها أن تقع في كل زمان ومكان، أي أنها قابلة لأن تتكرر في مضامينها وفق أشكال وألوان مختلفة لأنها تمس عمارة الحياة في كل زمان ومكان، فهي إذن أحسن العِبر الكامنة في ثنايا هذه القصص التي يمنّ الله تعالى على الإنسان بأنه يقصّها عليه.
أمام هذا الترابط التصاعدي بين هذه الكلمات، ثم هذه الآيات، ثم هذه السور، يتناول منهج التحليل الروائي مسألة العلاقة بين هذه الكلمات والآيات المتناثرة في عموم سور القرآن، ذلك أن السورة هي غير منفصلة عن الأخرى، كما الأمر بالنسبة للكلمة، والآية، فالسورة هنا هي فصل قرآني تابع، ومتبوع له".
شيء من المتن
جاء في الصفحة 117 في مستهل سورة آل عمران: سوف نلج بشيء من التدرّج والتحليل إلى روائية هذه الأجواء المشوّقة لهذه العائلة لنتعرّف على الدروس والحكم التي يمكننا أن نستنتجها من خلال مجريات الأحداث التي تكاد تركّز على جوهر الإيمان، وما يمكن أن يمتاز به الإنسان المؤمن عن غيره، وهي تبيّن مزايا الإيمان، إلى جانب ما يمتاز به الإنسان الكافر، وهي تبيّن مزايا الكفر، ثم تُظهر صميم العلاقة بين المؤمن والكافر.
مع آيات هذه السورة، نرى تغلغل تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها الناس لحظة بلحظة، ونرى كيف أن الله متتبع لكل صغيرة وكبيرة، نرى عناية الله عز وجل بالإنسان الذي يعيش في الأرض.
إن الله جل ثناؤه هنا يتحدّث لرسوله حديثاً عاماً يمتاز بالعمومية، إلى جانب حديث خاص يمتاز بالخصوصية، وآية إثر آية نتشوّق لمعرفة المزيد، ونحن نرى كيف أن هذا الحديث الذي يقوله الله يُغني اللغة العربية، ويفجر فيها آفاق المعاني الجديدة، حيث لم تعد الكلمة تقتصر على المعنى المألوف لها، بل يضفي الحديث الإلهي إلى القرآن معان جديدة مع مرور السنوات، وهذا لايعني أن المعاني السابقة التي اجتهد فيها المفسرون تُلغى، بل تبقى مضافاً إليها هذه المكتشفات والمشتقات اللغوية الحديثة، وبهذا وما يمتاز به الخطاب الإلهي القرآني، يبقى القرآن متجدداً، ويبقى القارئ يرتقي في درجات تلقي معانيه، وقد بيّنتُ ذلك بشيء من التفصيل في كتابي:" الارتقاء في درجات تلقي معاني القرآن" لذلك أرى أن الناس يحتاجون إلى تفسير جديد للقرآن الكريم على رأس كل قرن، وإن كان القرن محمّلاً بالكثير من المكتشفات، والمنجزات البشرية، وكذلك بالأحداث المتفاقمة، فإن الناس يحتاجون إلى تفسيرين، أو أكثر للقرآن الكريم، لأن السنوات، والقرون، والأحداث، والمكتشفات تحتاج إلى مرجعيتها القرآنية، كي يتجنّب الإنسان تحويل نعمة المكتشفات إلى نقمة، هذه المرجعية التي تجعلنا منضبطين في استخدامها، وبالتالي منتفعين بها، ومقدّمين من خلالها صور وآيات القرآن المشرقة إلى العالم، نقدم إلى العالم المسلمبن بكل ما يتمتعون به من روح الإنسانية، والتسامح، والمحبة التي أرساها القرآن الكريم فيهم.
تحليل خصائص العلاقة بين الرجل والمرأة قرآنياً
إن جمهور الروائي يوسف اعتادوا منه على تقديم خصائص العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة، وخاصة في رواياته التي مُنع منها البعض بسبب جرأتها في تناول تفاصيل هذه العلاقة، ومنها : جسد وجسد، خلف الجدار، الآخرون أيضاً، بروين، روهات، دِين، إمام الحكمة، سدرة العشق. وفي هذا العمل يستأنف الروائي جرأته في تحليل جوهر هذه العلاقة الحميمية من خلال القرآن الكريم، وممّا يقول: " [هُوَ]الله:[ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ]يفصّلكم، ويشكّل تكوينكم [هُوَ]إشارة بأنه هو مصدر الخلق جميعاً: فـ: [فِي الْأَرْحَامِ]التي هي موضع تصويري لكم، رحم المرأة، ومن هذا الموضع تبدأ رحلة رحمة الأم بوليدها، إنها تربّيه في رحمها، وهو يدغدغ رحمها، وكلما تنظر إليه نظرة، تذكر بأنه نبت في رحمها، وهذا يزيدها رحمة وشفقة به مهما بلغ من الخشونة فيما بعد، ولذلك فإنها تكون أكثر رحمة به من أبيه الذي يقذف ذلك قذفاً، فتستقبله المرأة ليتلاقح العنصران في الرحم بما يشاء الله من تصوير. ولذلك فإن الجماع الذي أحلّه الله، من عوامل ترسيخ العشرة والمودة بين الرجل والمرأة، يبدأ الرجل في تقبيل امرأته، وتبدأ المرأة في تقبيل رجلها، ولعلهما لايفعلان ذلك في أوقات أخرى بكل تلك الحميمية، ولعل الجماع يُعدّ من أعظم عوامل الصلح بين المرأة وزوجها، فيتسبب بصلحهما إذا نشب بينهما خلاف، بل أن الرجل الذي يريد أن يُعاقب زوجته على خطيئة بحقه، فإنه يهجر فراشها، فتشعر الزوجة بأنها منبوذة من زوجها، فتتودد إليه، وتلمس منه العذر حتى تعيده إلى فراشها ثانية.
والرحم، من مشتقات الرحمة، والله رحمن رحيم، يقول في الحديث القدسي :" أنا الرحمن، خلقتُ الرحم، وشققتُ لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"
ورد في حديث ثوبان في صحيح مسلم: (أن اليهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: "ينفعك إن حدثتك"؟. قال: أسمع بأذني، قال: جئتك أسألك عن الولد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا، فعلا مني الرجل مني المرأة، أذْكَرا بإذن الله تعالى، وإذا علا مني المرأة مني الرجل، آنثا بإذن الله" ص128
[وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ] خلق من آدم الفرد زوجاً، فبعد أن كان فرداً، حوّل الله بقدرته هذا الفرد من ذاته إلى زوج، وهي حواء التي ستُصبح الأم الأولى للبشرية، كما أن آدم سيُصبح الأب الأول، فمن هنا تبدأ رحلة البشرية، وهنا ندرك بأن كل رجل يحمل في جيناته شيئاً من نعومة الأنوثة مهما اتسم هذا الرجل بنزعة الشر والطغيان، كما أن المرأة تحمل في جيناتها شيئاً من خشونة الذكورة، مهما اتسمت بفيض النعومة، ولعل هذا يجعل من الإنسان ذكراً وأنثى قابلاً للتحوّلات الكبرى في سائر السلوكيات، وكذلك في المعتقدات، وهذا بذاته يجعله قابلاً لإشراقة التسامي بشكل مزدهر، كما يجعله قابلاً لظلمة الانحطاط بشكل مريع.
وهذا أمر بالغ الأهمية تُظهره لنا هذه الآية الكريمة، وهو أن الإنسان يستطيع أن يمتلك مقدرة التحكم بأهوائه وميولاته ويوظفها توظيفاً إيجابياً، أي يجعلها تنقاد بإرادته، لأنه إن لم يفعل ذلك، سينقاد بإرادتها، فهو إما أن يقود نفسه، أو تقوده نفسه، وليس من حل وسط بينهما، وليت الأمر يقف عند ذلك، فهذا يمتدّ إلى كينونة الشخص ذاته، فهو إن لم يقد زوجته، قادته زوجته، وإن لم يقد عائلته، قادته عائلته، لأن الشأن هنا هو تنازلي، كما أنه في الحالة الموازية، تصاعدي، والأمر هنا لايختلف كثيراً إذا أسقطنا كل ذلك على مركبة تقودها، فإن لم تقدها بمهارة، سوف تتولى هي قيادتك:[وَبَثَّ]الله تعالى[مِنْهُمَا]آدم وزوجه حواء[رِجَالاً كَثِيراً]على شاكلة أبيهم آدم[وَنِسَاء]على شاكلة أمهم حواء.
البث، هو الانتشار، وقد استُخدمت الكلمة في عصرنا في بعض المنجز البشري الحديث فيُقال: البث ، بمعنى الانتشار، ويبث الخبر، أي ينشره، ويُقال: البث المباشر، أي الانتشار المباشر للحدث حال وقوعه.
هنا تضعنا الآية أمام خصائص الرجولة، وخصائص الأنوثة، فتُرينا أن أسبقية الخلق هي للرجل الذي خلقه الله من مادة مستقلة ليكون أصلاً لجنس بشري مستقل ومختلف عن بقية خلق الله، وهي علامة أولى من علامات قيادة الرجل للمرأة، وثم للعائلة، ثم أنها علامة أولى من علامات خشونة الرجل الذي خلقه الله من تراب، ثم خلق المرأة من ضلعه.
فقد رأى آدم نفسه وحيداً في عالم الجنة التي خلقه الله فيها، وفجأة بينما هو نائم فقد تمت عملية الاستئصال من ضلعه ليتشكل من ذلك كائن تفاجأ به أمامه عندما فتح عينيه.
فما الشعور الذي راوده حينذاك وهو يرى ما يرى، هل أحس بشيء من الأنس؟ لعل ذلك قد حدث، ولعل الرجل بصفة عامة قد ورث هذا الشعور الأولي عن أبيه وهو يرى امرأة، ولعل مرد هذا الأنس الذي دغدغ مشاعره هو أنه أحس بشيء من الألفة والمودة تجاه هذه الكائنة كونها قد استؤصِلت من لحمه ودمه، ولعله لو تفاجأ بذئب أمامه، ما كان له أن يبقى في هدوئه وطمأنينته، بيد أنه لبث في حالة هدوء وكأنه يخشى أن يغمض عينيه، فتتلاشى من أمام ناظرَيه وهو يستأنس بحضورها المباغت، وإن كان هذا للرجل فما حال هذه المرأة الأولى وهي ترى نفسها قبالة رجل؟!
لعلها في ذات اللحظات كانت تشارك الرجل ذات الشعور، وهي في دهشة من أمرها، فمَن هي، ومَن هو هذا الكائن الماثل أمامها، ورغم ذلك فإنها مطمئنة لاتبدو عليها علامة للفزع، كما لاتبدو عليه.
حينها يُبادر آدم متودداً إليها بقوله: ما أنتِ؟
تقول: امرأة
يقول: لِم خُلقتِ؟
تقول: لتسكن إلي.
لتسكن إلي، لا لترتعب مني، أو لتنفر مني، وهذا السكن إلى المرأة ينتج عنه التكاثر البشري.
أخرج ابن عدي وابن عساكر عن النخعي قال :( لما خلق الله آدم وخلق له زوجه بعث إليه ملكا وأمره بالجماع ففعل ، فلما فرغ قالت له حواء : يا آدم هذا طيب زدنا منه ).
إظهار المعاني الجديدة للكَلمِ القرآني
يُظهر هذا العمل بعض المفاهيم الجديدة للكلمات القرآنية مثل تحليله للآية 45 من سورة المائدة :[وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ].
فحكم الله موجود في التوراة، ولم يقتصر على رجم المحصَنين من الزناة فحسب، بل: [وَكَتَبْنَا] وقد رأى بعض المفسرين [وَكَتَبْنَا] فرضنا.
يقول الجلالان في تفسيرهما:( [وَكَتَبْنَا] فرضنا [عَلَيْهِمْ فِيهَا]أي التوراة (أن النفس) تقتل (بالنفس) إذا قتلتها
يقول البغوي في تفسيره:( ويعني بقوله: [وَكَتَبْنَا]، وفرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النَّفس إذا قتلت نفسًا بغير حق
يقول القرطبي في تفسيره:([وَكَتَبْنَا] بمعنى فرضنا
يقول ابن عثيمين في تفسيره:([وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] كتبنا: أي: فرضنا، وكما قال تعالى في آية أخرى: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] البقرة 183 فالكَتْبُ بمعنى الفرض).
يقول الروائي اليوسف: بيد أن المعنى أقرب إلى رخّصنا، وهذا مختلف مع فرضنا، فالفرض يجب تنفيذه كونه فُرِض من الله، لكن هنا وضَعَ المجني عليه أمام خَيارَين، فإن شاء نفّذ [وَكَتَبْنَا] وإن شاء ما نفّذها كون [فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ]تنازلٌ عن حقه في مضمون [وَكَتَبْنَا] عندئذ [فَهُوَ]التنازل عن الحق[كَفَّارَةٌ لَّهُ]ونرى أن ذلك لايُقاس على ما ورد بالتقارن مع [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] لأن الحق هناك خاص بالله، فالصيام لله، والإنسان القادر على الصوم لاخيار أمامه سوى أن يصوم، لكنك هنا لديك القدرة على تنفيذ [وَكَتَبْنَا]، بيد أنك لوجه الله تصفح عن الجاني، ولذلك لعل المقارنة لاتكون متقاربة بين الآيتين، فنرى [وَكَتَبْنَا] بمعنى أذنّا، أو رخّصنا، فإن شئت، عملت بهذه الرخصة، وعاقبتَ بمثل ما عُوقِبت، وإن شئت، عفوتَ عن حقك تصدّقاً [بِهِ] بل ويُشجعك الله على التصدّق بتقديم التعويض الأفضل لك، لأنه جعل هذا الصفح [كَفَّارَةٌ]لك مما اقترفت، أو لعل مما ستقترف أيضاً من ذنوب، ثم أنك تسببتَ في إعطاء فرصة جديدة للمُعتَدي في الحياة الدنيا، وكذلك تسببتَ في عفو الله عنه في الآخرة، ولعل ذلك يحضه نحو الإصلاح، فيُصبح فرداً صالحاً في المجتمع، وينتفع الناس من أعماله الصالحة. روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه".وأخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجه، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيتصدّق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة". فذلك معنى قول الله[وَكَتَبْنَا] في مستهل هذه الآية والله أعلم بمراده، ثم قال:
[عَلَيْهِمْ]بني إسرائيل[فِيهَا]التوراة[أَنَّ] قتل [النَّفْسَ]الذي يقتل نفساً بغير حق سواء أكان القاتل أو المقتول رجلاً، أم امرأة، [بِ]قتلِ[النَّفْسِ][وَ] فقئُ[الْعَيْنَ][بِ]فقئ ِ[الْعَيْنِ][وَ]جدعُ [الأَنفَ][بِ]جدعِ[الأَنفِ]، [وَ]قطعُ[الأُذُنَ][بِ]قطعِ [الأُذُنِ][وَ] قلعُ[السِّنَّ][بِ]قلعِ[السِّنِّ]، [وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ]قص الجرح نظير الجرح. [فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ]عفا عن حقه لوجه الله تعالى [فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ]يُحتَمَل أن تكون الكفارة للمتصدّق العافي عن حقه، وكذلك للمعتَدي لأن صاحب الحق تنازل له عن حقه، فحصل بذلك على كفّارة للذنب الذي ارتكبه، فالمُعتدى عليه يُجازيه الله نظير عفوه، والمُعتدي يعفو عنه الله، لأن المُعتدى عليه أسقط عنه حقه، وعفا عنه. ص 549-551
وممّا جاء:
[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً]النساء34
تتكلل هنا مسؤولية الرجال تجاه النساء، استناداً إلى كل مراحل المسؤولية المتدرّجة التي مررنا بها ، مثل نكاح [مَا طَابَ] لهم [مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ]و إتيان [النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً] و أن يكون :[لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ] في الوراثة، وأن يُمسكوا [اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ][فِي الْبُيُوتِ]وغير ذلك، وما تم شرحه في حينه. فالرجل هو الذي يتولى تحمّل مسؤولية مشقات الحياة، وهو الذي خصه الله تعالى بالنبوة. نبلغ هنا ميزة القوامة، فيُعلّم الله تعالى في هذه الآية رسوله، ويأمره أن يُبلغ الناس بأن ربهم يقول لهم :[الرِّجَالُ ]نظير ما حباهم الله بكل تلك المزايا: [ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء] مسؤولون عن النساء، يتحمّلون مسؤوليتهن، فقد عفا الله تعالى المرأة- بمقابل منح الرجل تلك الخصائص- مسؤولية إطعام، أو إكساء، أو طبابة نفسها، وما إلى ذلك من مستلزمات المعيشة، وجعل ذلك في عنق الرجل، فقد حمّله الله تعالى مسؤولية إدارة شؤونها، وتأمين مستلزماتها، وتأمين الحماية والحصانة لها، فالرجل هو قائم قام المرأة بامتياز إلهي.
ويُروى أنها ا نـزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، قاله مقاتل، وقال الكلبي: (امرأته حبيبة بنت محمد بن مسلمة، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لتقتص من زوجها "، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فجاء جبريل عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ارجعوا هذا جبريل أتاني بشيء " ، فأنـزل الله هذه الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا، والذي أراد الله خير ". ورفع القصاص.
الرجال أمراء النساء، يتوجب عليهن طاعتهم بما يُصدروا من أوامر إليهن مما لايمس معصية الله، فقد أوكلهم الله تعالى مسؤولية القوامة على النساء:[بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ]
ثم :[وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ]في كتب التفسير، يعطف المفسرون هذه الجملة على سابقتها:[بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] فنكون أمام أن إنفاق الرجل على زوجته هو فضل منه عليها، واستناداً إلى ذلك يكون تفسير:[بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ].
لننظر إلى شيء من ذلك:
1 – يقول ابن كثير : ([ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ]أي:لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة؛[ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ]أي:من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهنَّ في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال)
2 - يقول الطبري:( [بما فضّل الله بعضهم على بعض ] ، يعني: بما فضّل الله به الرجال على أزواجهم: من سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهنّ. وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهنّ، ولذلك صارُوا قوّامًا عليهن، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن.
وأما قوله: [وبما أنفقوا من أموالهم ] ، فإنه يعني: وبما ساقوا إليهن من صداق، وأنفقوا عليهن من نفقة)
3 – يقول البغوي:( [بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] يعني: فضل الرجال على النساء بزيادة العقل والدين والولاية، وقيل: بالشهادة، لقوله تعالى: [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ] البقرة 282 وقيل: بالجهاد، وقيل: بالعبادات من الجمعة والجماعة، وقيل: هو أن الرجل ينكح أربعا ولا يحل للمرأة إلا زوج واحد، وقيل: بأن الطلاق بيده، وقيل: بالميراث، وقيل: بالدّية، وقيل: بالنبوّة.
[ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) يعني: إعطاء المهر والنفقة)
4 - يقول الجلالان: ([ بما فضل الله بعضهم على بعض ] أي بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك: [ وبما أنفقوا ] عليهن)
5 - ويقول الرازي: (واعلم أن فضل الرجل على النساء حاصل من وجوه كثيرة، بعضها صفات حقيقية، وبعضها أحكام شرعية، أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها الى أمرين: إلى العلم، وإلى القدرة، ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر، ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة، والكتابة في الغالب والفروسية والرمي، وأن منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق، وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه، وزيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث، وفي تحمل الدية في القتل والخطأ، وفي القسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء.
والسبب الثاني: لحصول هذه الفضيلة: قوله تعالى: [ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ] يعني الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها المهر وينفق عليها)
بيّنت التفاسير أن الفضل اقترن بالقوامة، وقد تفرّد بهما الرجل على المرأة، فكون لاقوامة للمرأة، لافضل أيضاً لها، بيد أننا نرى أن الآية تحتمل ألاّ تكون القوامة مقترنة بالفضل، فنقول: المرأة هنا هي(بعض ) كما أن الرجل هو:( بعض )والمرأة هي من ( بعض ) الرجل، كما أن الرجل هو من (بعض )المرأة، فقد تفضّل بعضٌ: [عَلَى بَعْضٍ ] لذا فـ:[وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ]لا يُستَبعد أن تكون معطوفة على:[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء] وليس على [بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ]ليكون الفضل متبادَلاً بينهما، وألاّ تبقى المرأة محرومة من فضلها على الرجل، فقراءة الاجماع يُستَنتج منها: [بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ ]الرجال، فلخّصت كلمة [بَعْضَهُمْ ] الرجال واقتصرت عليهم، ثم : [عَلَى بَعْضٍ]لخصت كلمة [بَعْضٍ] النساء، فعنتهن، واقتصرت عليهن. في حين أن قراءتنا تقول :[بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ ]نساء ورجالاً [عَلَى بَعْضٍ ]نساء ورجالاً، لأن المصدر هو الرجال والنساء سواء في[بَعْضَهُمْ ] أو في[بَعْضٍ]لأنهما تعودان إلى أن :[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء][بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ ]الرجال والنساء [عَلَى بَعْضٍ ]من الرجال والنساء، فالفضل هو متبادَل بينهما، لكن ما يعطي الشرعية للرجل كي يمتاز بأنه قوام عليها، هو ترجيح كفة فضله على كفة فضلها.
لقد جعل الله تعالى الرجل يتفضل على المرأة بتلك القوامة، أي بترجيح حجم فضله عليها، على حجم فضلها عليه، دون أن يعني إلغاء فضلها عليه ، فهي بالمقابل تتفضل عليه بما أهّلها الله بذلك، فهي التي تجعله أباً، وهي التي تحرص على راحته، ونظافته، وتربية الأبناء، وهي التي تفتح له آفاق علاقات اجتماعية وصلات قربى جديدة من خلال نسابته لعائلتها، كما أنها تُحصنه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من تزوّج فقد حصن ثلثي دينه ". فهي تُسكِنه، فيكون ساكناً بها، وهو يسكنها، فتكون مسكونة به. فالمرأة هي شريكة الرجل في بناء عائلته، وتشكيل شخصيته الأهلية الجديدة. ص 347-349 .
تبويب السور القرآنية في التحليل الروائي
يحوّل الكاتب السور القرآنية إلى أبواب، ومن ثم يقوم بتحليلها وفق مُسمّى الباب، فسورة النساء جاءت في 22 باباً وفق الآتي:
الباب الأول لمعة اللقاء الأول بين الرجل والمرأة
الباب الثانــي منزلــة اليتيــم
الباب الثالث طيبات النساء
الباب الرابـع تدبّــر المال
الباب الخامــس حقوق النساء الماليــة
الباب السادس عفيفات النساء وفاحشاتهن
الباب السابــع التوبـة المقبولة والتوبة المُرَدّة
الباب الثامــن ميثاق العلاقة بين الرجال والنساء
الباب التاســـع مُحصَنات ومُحصِنون
الباب العاشــر مدخل كريــــم
الباب الحادي عشـــر قوامــة الرجال على النساء
الباب الثاني عشـر أفضليات الإحسان
الباب الثالث عشــر ســـبيل اللــــــه
الباب الرابــع عشــــر منارة الإيمان
الباب الخامــس عشـــر آفــــة النفاق
الباب السادس عشــــر العاملون والقاعدون
الباب السابــع عشـــر التبيان
الباب الثامــن عشـــر متاهـــة الأمانـــي
الباب التاســــع عشــر العقاب والاستيعاب
الباب العشـرون مالك السموات والأرض
الباب الواحد والعشرون ظلمــة التذبذب
الباب الثانـــي والعشـرون وحــدة الإيمان
على هذا النحو يشعر القارئ بحالة من التشويق، وهو ينتقل من باب إلى باب، كما أن هذا العمل يتسم بأنه يركّز على التحليل، فنقرأ فكراً جديداً كما لو أننا نقرأ عملاً روائياً، هو سيرة القرآن الكريم.
جاء في الصفحة 268: " يُعنى التحليل الروائي بتحليل الكلمة القرآنية تحليلاً روائياً، بمعنى مدى ترابطها بالكلمات الواردة قبلها، والكلمات التي سترد بعدها، والكلمة القرآنية هنا هي مختلفة عن الكلمة غير القرآنية، لأن توظيفها في القرآن يُكسبها ويُغنيها بمعان واستدلالات لاتكون لها في توظيفها في غير القرآن، وهذا ما يجعلنا نكتشف أن اللغة العربية كم كانت فقيرة باكتشاف معانيها وغناها ومدلولاتها قبل أن يُشرّفها الله تعالى بحمل رسالة القرآن، ولعل هذا ما حض أهل النبوغ كي يفتحوا في هذا الحقل فتوحات جديدة ما كانت للغة العربية من قبل نزول القرآن الكريم، وهي الفتوحات اللغوية التي كمنت في المعاجم والقواميس اللغوية". وفي الصفحة268: " التحليل الروائي هنا يشتغل على خصائص البنية الروائية المتماسكة والمترابطة مع بعضها البعض، سواء في جوهر العلاقة بين الكلمة وصنوّتها، أو بين الآية وصنوّتها، أو بين السورة وصنّوتها، وعلى هذا النحو يجلو لنا كيف أن السور القرآنية تتحوّل إلى فصول متناغمة ومتداخلة مع نسيج بعضها البعض، ومستكملة الأركان لبعضها البعض، لتتشكّل من هذا كله عمارة البناء القرآني المجيد.
يُظهر هذا المنهج العنصر الروائي في خطاب القرآن الذي يتحوّل إلى مجموعة هائلة من القصص التي يقصّها الله سبحانه وتعالى على رسوله، ويصفها بـ :[أَحْسَنَ الْقَصَصِ]يوسف 3، ولايعني ذلك أن :[أَحْسَنَ الْقَصَصِ]هي قصص إيجابية فحسب، بل هي في مجملها مزيج من قصص إيجابية، وقصص سلبية معاً، لكنها في وجهَيها [الْقَصَصِ]الـ [أَحْسَنَ]في اتخاذ العِبر منها، فهي الـ [أَحْسَنَ] صلاحاً لاستنباط واستخراج هذه العبر منها، كون مضامينها هي مضامين مفتوحة يمكن لها أن تقع في كل زمان ومكان، أي أنها قابلة لأن تتكرر في مضامينها وفق أشكال وألوان مختلفة لأنها تمس عمارة الحياة في كل زمان ومكان، فهي إذن أحسن العِبر الكامنة في ثنايا هذه القصص التي يمنّ الله تعالى على الإنسان بأنه يقصّها عليه.
أمام هذا الترابط التصاعدي بين هذه الكلمات، ثم هذه الآيات، ثم هذه السور، يتناول منهج التحليل الروائي مسألة العلاقة بين هذه الكلمات والآيات المتناثرة في عموم سور القرآن، ذلك أن السورة هي غير منفصلة عن الأخرى، كما الأمر بالنسبة للكلمة، والآية، فالسورة هنا هي فصل قرآني تابع، ومتبوع له".
شيء من المتن
جاء في الصفحة 117 في مستهل سورة آل عمران: سوف نلج بشيء من التدرّج والتحليل إلى روائية هذه الأجواء المشوّقة لهذه العائلة لنتعرّف على الدروس والحكم التي يمكننا أن نستنتجها من خلال مجريات الأحداث التي تكاد تركّز على جوهر الإيمان، وما يمكن أن يمتاز به الإنسان المؤمن عن غيره، وهي تبيّن مزايا الإيمان، إلى جانب ما يمتاز به الإنسان الكافر، وهي تبيّن مزايا الكفر، ثم تُظهر صميم العلاقة بين المؤمن والكافر.
مع آيات هذه السورة، نرى تغلغل تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها الناس لحظة بلحظة، ونرى كيف أن الله متتبع لكل صغيرة وكبيرة، نرى عناية الله عز وجل بالإنسان الذي يعيش في الأرض.
إن الله جل ثناؤه هنا يتحدّث لرسوله حديثاً عاماً يمتاز بالعمومية، إلى جانب حديث خاص يمتاز بالخصوصية، وآية إثر آية نتشوّق لمعرفة المزيد، ونحن نرى كيف أن هذا الحديث الذي يقوله الله يُغني اللغة العربية، ويفجر فيها آفاق المعاني الجديدة، حيث لم تعد الكلمة تقتصر على المعنى المألوف لها، بل يضفي الحديث الإلهي إلى القرآن معان جديدة مع مرور السنوات، وهذا لايعني أن المعاني السابقة التي اجتهد فيها المفسرون تُلغى، بل تبقى مضافاً إليها هذه المكتشفات والمشتقات اللغوية الحديثة، وبهذا وما يمتاز به الخطاب الإلهي القرآني، يبقى القرآن متجدداً، ويبقى القارئ يرتقي في درجات تلقي معانيه، وقد بيّنتُ ذلك بشيء من التفصيل في كتابي:" الارتقاء في درجات تلقي معاني القرآن" لذلك أرى أن الناس يحتاجون إلى تفسير جديد للقرآن الكريم على رأس كل قرن، وإن كان القرن محمّلاً بالكثير من المكتشفات، والمنجزات البشرية، وكذلك بالأحداث المتفاقمة، فإن الناس يحتاجون إلى تفسيرين، أو أكثر للقرآن الكريم، لأن السنوات، والقرون، والأحداث، والمكتشفات تحتاج إلى مرجعيتها القرآنية، كي يتجنّب الإنسان تحويل نعمة المكتشفات إلى نقمة، هذه المرجعية التي تجعلنا منضبطين في استخدامها، وبالتالي منتفعين بها، ومقدّمين من خلالها صور وآيات القرآن المشرقة إلى العالم، نقدم إلى العالم المسلمبن بكل ما يتمتعون به من روح الإنسانية، والتسامح، والمحبة التي أرساها القرآن الكريم فيهم.
تحليل خصائص العلاقة بين الرجل والمرأة قرآنياً
إن جمهور الروائي يوسف اعتادوا منه على تقديم خصائص العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة، وخاصة في رواياته التي مُنع منها البعض بسبب جرأتها في تناول تفاصيل هذه العلاقة، ومنها : جسد وجسد، خلف الجدار، الآخرون أيضاً، بروين، روهات، دِين، إمام الحكمة، سدرة العشق. وفي هذا العمل يستأنف الروائي جرأته في تحليل جوهر هذه العلاقة الحميمية من خلال القرآن الكريم، وممّا يقول: " [هُوَ]الله:[ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ]يفصّلكم، ويشكّل تكوينكم [هُوَ]إشارة بأنه هو مصدر الخلق جميعاً: فـ: [فِي الْأَرْحَامِ]التي هي موضع تصويري لكم، رحم المرأة، ومن هذا الموضع تبدأ رحلة رحمة الأم بوليدها، إنها تربّيه في رحمها، وهو يدغدغ رحمها، وكلما تنظر إليه نظرة، تذكر بأنه نبت في رحمها، وهذا يزيدها رحمة وشفقة به مهما بلغ من الخشونة فيما بعد، ولذلك فإنها تكون أكثر رحمة به من أبيه الذي يقذف ذلك قذفاً، فتستقبله المرأة ليتلاقح العنصران في الرحم بما يشاء الله من تصوير. ولذلك فإن الجماع الذي أحلّه الله، من عوامل ترسيخ العشرة والمودة بين الرجل والمرأة، يبدأ الرجل في تقبيل امرأته، وتبدأ المرأة في تقبيل رجلها، ولعلهما لايفعلان ذلك في أوقات أخرى بكل تلك الحميمية، ولعل الجماع يُعدّ من أعظم عوامل الصلح بين المرأة وزوجها، فيتسبب بصلحهما إذا نشب بينهما خلاف، بل أن الرجل الذي يريد أن يُعاقب زوجته على خطيئة بحقه، فإنه يهجر فراشها، فتشعر الزوجة بأنها منبوذة من زوجها، فتتودد إليه، وتلمس منه العذر حتى تعيده إلى فراشها ثانية.
والرحم، من مشتقات الرحمة، والله رحمن رحيم، يقول في الحديث القدسي :" أنا الرحمن، خلقتُ الرحم، وشققتُ لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"
ورد في حديث ثوبان في صحيح مسلم: (أن اليهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: "ينفعك إن حدثتك"؟. قال: أسمع بأذني، قال: جئتك أسألك عن الولد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا، فعلا مني الرجل مني المرأة، أذْكَرا بإذن الله تعالى، وإذا علا مني المرأة مني الرجل، آنثا بإذن الله" ص128
[وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ] خلق من آدم الفرد زوجاً، فبعد أن كان فرداً، حوّل الله بقدرته هذا الفرد من ذاته إلى زوج، وهي حواء التي ستُصبح الأم الأولى للبشرية، كما أن آدم سيُصبح الأب الأول، فمن هنا تبدأ رحلة البشرية، وهنا ندرك بأن كل رجل يحمل في جيناته شيئاً من نعومة الأنوثة مهما اتسم هذا الرجل بنزعة الشر والطغيان، كما أن المرأة تحمل في جيناتها شيئاً من خشونة الذكورة، مهما اتسمت بفيض النعومة، ولعل هذا يجعل من الإنسان ذكراً وأنثى قابلاً للتحوّلات الكبرى في سائر السلوكيات، وكذلك في المعتقدات، وهذا بذاته يجعله قابلاً لإشراقة التسامي بشكل مزدهر، كما يجعله قابلاً لظلمة الانحطاط بشكل مريع.
وهذا أمر بالغ الأهمية تُظهره لنا هذه الآية الكريمة، وهو أن الإنسان يستطيع أن يمتلك مقدرة التحكم بأهوائه وميولاته ويوظفها توظيفاً إيجابياً، أي يجعلها تنقاد بإرادته، لأنه إن لم يفعل ذلك، سينقاد بإرادتها، فهو إما أن يقود نفسه، أو تقوده نفسه، وليس من حل وسط بينهما، وليت الأمر يقف عند ذلك، فهذا يمتدّ إلى كينونة الشخص ذاته، فهو إن لم يقد زوجته، قادته زوجته، وإن لم يقد عائلته، قادته عائلته، لأن الشأن هنا هو تنازلي، كما أنه في الحالة الموازية، تصاعدي، والأمر هنا لايختلف كثيراً إذا أسقطنا كل ذلك على مركبة تقودها، فإن لم تقدها بمهارة، سوف تتولى هي قيادتك:[وَبَثَّ]الله تعالى[مِنْهُمَا]آدم وزوجه حواء[رِجَالاً كَثِيراً]على شاكلة أبيهم آدم[وَنِسَاء]على شاكلة أمهم حواء.
البث، هو الانتشار، وقد استُخدمت الكلمة في عصرنا في بعض المنجز البشري الحديث فيُقال: البث ، بمعنى الانتشار، ويبث الخبر، أي ينشره، ويُقال: البث المباشر، أي الانتشار المباشر للحدث حال وقوعه.
هنا تضعنا الآية أمام خصائص الرجولة، وخصائص الأنوثة، فتُرينا أن أسبقية الخلق هي للرجل الذي خلقه الله من مادة مستقلة ليكون أصلاً لجنس بشري مستقل ومختلف عن بقية خلق الله، وهي علامة أولى من علامات قيادة الرجل للمرأة، وثم للعائلة، ثم أنها علامة أولى من علامات خشونة الرجل الذي خلقه الله من تراب، ثم خلق المرأة من ضلعه.
فقد رأى آدم نفسه وحيداً في عالم الجنة التي خلقه الله فيها، وفجأة بينما هو نائم فقد تمت عملية الاستئصال من ضلعه ليتشكل من ذلك كائن تفاجأ به أمامه عندما فتح عينيه.
فما الشعور الذي راوده حينذاك وهو يرى ما يرى، هل أحس بشيء من الأنس؟ لعل ذلك قد حدث، ولعل الرجل بصفة عامة قد ورث هذا الشعور الأولي عن أبيه وهو يرى امرأة، ولعل مرد هذا الأنس الذي دغدغ مشاعره هو أنه أحس بشيء من الألفة والمودة تجاه هذه الكائنة كونها قد استؤصِلت من لحمه ودمه، ولعله لو تفاجأ بذئب أمامه، ما كان له أن يبقى في هدوئه وطمأنينته، بيد أنه لبث في حالة هدوء وكأنه يخشى أن يغمض عينيه، فتتلاشى من أمام ناظرَيه وهو يستأنس بحضورها المباغت، وإن كان هذا للرجل فما حال هذه المرأة الأولى وهي ترى نفسها قبالة رجل؟!
لعلها في ذات اللحظات كانت تشارك الرجل ذات الشعور، وهي في دهشة من أمرها، فمَن هي، ومَن هو هذا الكائن الماثل أمامها، ورغم ذلك فإنها مطمئنة لاتبدو عليها علامة للفزع، كما لاتبدو عليه.
حينها يُبادر آدم متودداً إليها بقوله: ما أنتِ؟
تقول: امرأة
يقول: لِم خُلقتِ؟
تقول: لتسكن إلي.
لتسكن إلي، لا لترتعب مني، أو لتنفر مني، وهذا السكن إلى المرأة ينتج عنه التكاثر البشري.
أخرج ابن عدي وابن عساكر عن النخعي قال :( لما خلق الله آدم وخلق له زوجه بعث إليه ملكا وأمره بالجماع ففعل ، فلما فرغ قالت له حواء : يا آدم هذا طيب زدنا منه ).
إظهار المعاني الجديدة للكَلمِ القرآني
يُظهر هذا العمل بعض المفاهيم الجديدة للكلمات القرآنية مثل تحليله للآية 45 من سورة المائدة :[وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ].
فحكم الله موجود في التوراة، ولم يقتصر على رجم المحصَنين من الزناة فحسب، بل: [وَكَتَبْنَا] وقد رأى بعض المفسرين [وَكَتَبْنَا] فرضنا.
يقول الجلالان في تفسيرهما:( [وَكَتَبْنَا] فرضنا [عَلَيْهِمْ فِيهَا]أي التوراة (أن النفس) تقتل (بالنفس) إذا قتلتها
يقول البغوي في تفسيره:( ويعني بقوله: [وَكَتَبْنَا]، وفرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النَّفس إذا قتلت نفسًا بغير حق
يقول القرطبي في تفسيره:([وَكَتَبْنَا] بمعنى فرضنا
يقول ابن عثيمين في تفسيره:([وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] كتبنا: أي: فرضنا، وكما قال تعالى في آية أخرى: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] البقرة 183 فالكَتْبُ بمعنى الفرض).
يقول الروائي اليوسف: بيد أن المعنى أقرب إلى رخّصنا، وهذا مختلف مع فرضنا، فالفرض يجب تنفيذه كونه فُرِض من الله، لكن هنا وضَعَ المجني عليه أمام خَيارَين، فإن شاء نفّذ [وَكَتَبْنَا] وإن شاء ما نفّذها كون [فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ]تنازلٌ عن حقه في مضمون [وَكَتَبْنَا] عندئذ [فَهُوَ]التنازل عن الحق[كَفَّارَةٌ لَّهُ]ونرى أن ذلك لايُقاس على ما ورد بالتقارن مع [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] لأن الحق هناك خاص بالله، فالصيام لله، والإنسان القادر على الصوم لاخيار أمامه سوى أن يصوم، لكنك هنا لديك القدرة على تنفيذ [وَكَتَبْنَا]، بيد أنك لوجه الله تصفح عن الجاني، ولذلك لعل المقارنة لاتكون متقاربة بين الآيتين، فنرى [وَكَتَبْنَا] بمعنى أذنّا، أو رخّصنا، فإن شئت، عملت بهذه الرخصة، وعاقبتَ بمثل ما عُوقِبت، وإن شئت، عفوتَ عن حقك تصدّقاً [بِهِ] بل ويُشجعك الله على التصدّق بتقديم التعويض الأفضل لك، لأنه جعل هذا الصفح [كَفَّارَةٌ]لك مما اقترفت، أو لعل مما ستقترف أيضاً من ذنوب، ثم أنك تسببتَ في إعطاء فرصة جديدة للمُعتَدي في الحياة الدنيا، وكذلك تسببتَ في عفو الله عنه في الآخرة، ولعل ذلك يحضه نحو الإصلاح، فيُصبح فرداً صالحاً في المجتمع، وينتفع الناس من أعماله الصالحة. روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه".وأخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجه، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيتصدّق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة". فذلك معنى قول الله[وَكَتَبْنَا] في مستهل هذه الآية والله أعلم بمراده، ثم قال:
[عَلَيْهِمْ]بني إسرائيل[فِيهَا]التوراة[أَنَّ] قتل [النَّفْسَ]الذي يقتل نفساً بغير حق سواء أكان القاتل أو المقتول رجلاً، أم امرأة، [بِ]قتلِ[النَّفْسِ][وَ] فقئُ[الْعَيْنَ][بِ]فقئ ِ[الْعَيْنِ][وَ]جدعُ [الأَنفَ][بِ]جدعِ[الأَنفِ]، [وَ]قطعُ[الأُذُنَ][بِ]قطعِ [الأُذُنِ][وَ] قلعُ[السِّنَّ][بِ]قلعِ[السِّنِّ]، [وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ]قص الجرح نظير الجرح. [فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ]عفا عن حقه لوجه الله تعالى [فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ]يُحتَمَل أن تكون الكفارة للمتصدّق العافي عن حقه، وكذلك للمعتَدي لأن صاحب الحق تنازل له عن حقه، فحصل بذلك على كفّارة للذنب الذي ارتكبه، فالمُعتدى عليه يُجازيه الله نظير عفوه، والمُعتدي يعفو عنه الله، لأن المُعتدى عليه أسقط عنه حقه، وعفا عنه. ص 549-551
وممّا جاء:
[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً]النساء34
تتكلل هنا مسؤولية الرجال تجاه النساء، استناداً إلى كل مراحل المسؤولية المتدرّجة التي مررنا بها ، مثل نكاح [مَا طَابَ] لهم [مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ]و إتيان [النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً] و أن يكون :[لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ] في الوراثة، وأن يُمسكوا [اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ][فِي الْبُيُوتِ]وغير ذلك، وما تم شرحه في حينه. فالرجل هو الذي يتولى تحمّل مسؤولية مشقات الحياة، وهو الذي خصه الله تعالى بالنبوة. نبلغ هنا ميزة القوامة، فيُعلّم الله تعالى في هذه الآية رسوله، ويأمره أن يُبلغ الناس بأن ربهم يقول لهم :[الرِّجَالُ ]نظير ما حباهم الله بكل تلك المزايا: [ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء] مسؤولون عن النساء، يتحمّلون مسؤوليتهن، فقد عفا الله تعالى المرأة- بمقابل منح الرجل تلك الخصائص- مسؤولية إطعام، أو إكساء، أو طبابة نفسها، وما إلى ذلك من مستلزمات المعيشة، وجعل ذلك في عنق الرجل، فقد حمّله الله تعالى مسؤولية إدارة شؤونها، وتأمين مستلزماتها، وتأمين الحماية والحصانة لها، فالرجل هو قائم قام المرأة بامتياز إلهي.
ويُروى أنها ا نـزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، قاله مقاتل، وقال الكلبي: (امرأته حبيبة بنت محمد بن مسلمة، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لتقتص من زوجها "، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فجاء جبريل عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ارجعوا هذا جبريل أتاني بشيء " ، فأنـزل الله هذه الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا، والذي أراد الله خير ". ورفع القصاص.
الرجال أمراء النساء، يتوجب عليهن طاعتهم بما يُصدروا من أوامر إليهن مما لايمس معصية الله، فقد أوكلهم الله تعالى مسؤولية القوامة على النساء:[بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ]
ثم :[وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ]في كتب التفسير، يعطف المفسرون هذه الجملة على سابقتها:[بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] فنكون أمام أن إنفاق الرجل على زوجته هو فضل منه عليها، واستناداً إلى ذلك يكون تفسير:[بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ].
لننظر إلى شيء من ذلك:
1 – يقول ابن كثير : ([ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ]أي:لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة؛[ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ]أي:من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهنَّ في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال)
2 - يقول الطبري:( [بما فضّل الله بعضهم على بعض ] ، يعني: بما فضّل الله به الرجال على أزواجهم: من سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهنّ. وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهنّ، ولذلك صارُوا قوّامًا عليهن، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن.
وأما قوله: [وبما أنفقوا من أموالهم ] ، فإنه يعني: وبما ساقوا إليهن من صداق، وأنفقوا عليهن من نفقة)
3 – يقول البغوي:( [بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] يعني: فضل الرجال على النساء بزيادة العقل والدين والولاية، وقيل: بالشهادة، لقوله تعالى: [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ] البقرة 282 وقيل: بالجهاد، وقيل: بالعبادات من الجمعة والجماعة، وقيل: هو أن الرجل ينكح أربعا ولا يحل للمرأة إلا زوج واحد، وقيل: بأن الطلاق بيده، وقيل: بالميراث، وقيل: بالدّية، وقيل: بالنبوّة.
[ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) يعني: إعطاء المهر والنفقة)
4 - يقول الجلالان: ([ بما فضل الله بعضهم على بعض ] أي بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك: [ وبما أنفقوا ] عليهن)
5 - ويقول الرازي: (واعلم أن فضل الرجل على النساء حاصل من وجوه كثيرة، بعضها صفات حقيقية، وبعضها أحكام شرعية، أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها الى أمرين: إلى العلم، وإلى القدرة، ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر، ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة، والكتابة في الغالب والفروسية والرمي، وأن منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق، وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه، وزيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث، وفي تحمل الدية في القتل والخطأ، وفي القسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء.
والسبب الثاني: لحصول هذه الفضيلة: قوله تعالى: [ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ] يعني الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها المهر وينفق عليها)
بيّنت التفاسير أن الفضل اقترن بالقوامة، وقد تفرّد بهما الرجل على المرأة، فكون لاقوامة للمرأة، لافضل أيضاً لها، بيد أننا نرى أن الآية تحتمل ألاّ تكون القوامة مقترنة بالفضل، فنقول: المرأة هنا هي(بعض ) كما أن الرجل هو:( بعض )والمرأة هي من ( بعض ) الرجل، كما أن الرجل هو من (بعض )المرأة، فقد تفضّل بعضٌ: [عَلَى بَعْضٍ ] لذا فـ:[وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ]لا يُستَبعد أن تكون معطوفة على:[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء] وليس على [بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ]ليكون الفضل متبادَلاً بينهما، وألاّ تبقى المرأة محرومة من فضلها على الرجل، فقراءة الاجماع يُستَنتج منها: [بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ ]الرجال، فلخّصت كلمة [بَعْضَهُمْ ] الرجال واقتصرت عليهم، ثم : [عَلَى بَعْضٍ]لخصت كلمة [بَعْضٍ] النساء، فعنتهن، واقتصرت عليهن. في حين أن قراءتنا تقول :[بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ ]نساء ورجالاً [عَلَى بَعْضٍ ]نساء ورجالاً، لأن المصدر هو الرجال والنساء سواء في[بَعْضَهُمْ ] أو في[بَعْضٍ]لأنهما تعودان إلى أن :[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء][بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ ]الرجال والنساء [عَلَى بَعْضٍ ]من الرجال والنساء، فالفضل هو متبادَل بينهما، لكن ما يعطي الشرعية للرجل كي يمتاز بأنه قوام عليها، هو ترجيح كفة فضله على كفة فضلها.
لقد جعل الله تعالى الرجل يتفضل على المرأة بتلك القوامة، أي بترجيح حجم فضله عليها، على حجم فضلها عليه، دون أن يعني إلغاء فضلها عليه ، فهي بالمقابل تتفضل عليه بما أهّلها الله بذلك، فهي التي تجعله أباً، وهي التي تحرص على راحته، ونظافته، وتربية الأبناء، وهي التي تفتح له آفاق علاقات اجتماعية وصلات قربى جديدة من خلال نسابته لعائلتها، كما أنها تُحصنه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من تزوّج فقد حصن ثلثي دينه ". فهي تُسكِنه، فيكون ساكناً بها، وهو يسكنها، فتكون مسكونة به. فالمرأة هي شريكة الرجل في بناء عائلته، وتشكيل شخصيته الأهلية الجديدة. ص 347-349 .
تبويب السور القرآنية في التحليل الروائي
يحوّل الكاتب السور القرآنية إلى أبواب، ومن ثم يقوم بتحليلها وفق مُسمّى الباب، فسورة النساء جاءت في 22 باباً وفق الآتي:
الباب الأول لمعة اللقاء الأول بين الرجل والمرأة
الباب الثانــي منزلــة اليتيــم
الباب الثالث طيبات النساء
الباب الرابـع تدبّــر المال
الباب الخامــس حقوق النساء الماليــة
الباب السادس عفيفات النساء وفاحشاتهن
الباب السابــع التوبـة المقبولة والتوبة المُرَدّة
الباب الثامــن ميثاق العلاقة بين الرجال والنساء
الباب التاســـع مُحصَنات ومُحصِنون
الباب العاشــر مدخل كريــــم
الباب الحادي عشـــر قوامــة الرجال على النساء
الباب الثاني عشـر أفضليات الإحسان
الباب الثالث عشــر ســـبيل اللــــــه
الباب الرابــع عشــــر منارة الإيمان
الباب الخامــس عشـــر آفــــة النفاق
الباب السادس عشــــر العاملون والقاعدون
الباب السابــع عشـــر التبيان
الباب الثامــن عشـــر متاهـــة الأمانـــي
الباب التاســــع عشــر العقاب والاستيعاب
الباب العشـرون مالك السموات والأرض
الباب الواحد والعشرون ظلمــة التذبذب
الباب الثانـــي والعشـرون وحــدة الإيمان
على هذا النحو يشعر القارئ بحالة من التشويق، وهو ينتقل من باب إلى باب، كما أن هذا العمل يتسم بأنه يركّز على التحليل، فنقرأ فكراً جديداً كما لو أننا نقرأ عملاً روائياً، هو سيرة القرآن الكريم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق