2016/05/01

الذي سرق نجمة للدكتورة سناء الشعلان بقلم: د.عدنان الظاهر



الذي سرق نجمة  للدكتورة سناء  الشعلان


( مجموعة قصصية جديدة للدكتورة سناء كامل الشعلان ) *
 
أ.د.عدنان الظاهر/ ألمانيا
تضم هذه المجموعة 14 قصة متفاوتة من حيث الطول والمضامين ومن حيث الجودة والقدرة على سبر الأغوار وتحريك الخيوط وضبط النأمات. غير أني رأيت الدكتورة القاصة تتميز مرة أخرى كما عهدناها في روايتها " أعشقني " في قصتين من قصص هذه المجموعة هما " حيث البحرُ لا يُصلّي " وقصة " الضياع في عيني رجل الجبل ".
البحرُ لا يُصلّي
ما علاقة الصلاةُ بالبحر ؟ لاحقاً سنرى.
   تسرد الدكتورة سناء في هذه القصة مأساة اللاجئين إلى الغرب وما يقاسون من ويلات وهم في قوارب التهريب في عرض البحر ثم ما يتعرض له بعض اللاجئين من النساء من فراغ ومتاهات وتشّرد بعد الوصول إلى الأرض المبتغاة فتتقطع السُبل بهنَّ حيث لا من يساعد ويحمي فتضطر واحدة منهنَّ إلى احتراف البغاء في بعض دور الرذيلة كما حصل لبطلة هذه القصة وهي فتاة أمازيغية كما نفهم من سياقات القصة.
اللجوء إذاً هو أصل ومحور المأساة الإنسانية التي عالجتها سناء هنا بمقدرة ومُكنة ورشاقة. لكنْ للجوء هنا خاصية معينة فما كانت السياسة هي التي فرضت على البطلة ( أم آمال ) قرار ترك بلدها المغرب وسكنها في أعالي جبال الأمازيغ وركوب مغامرة البحر للوصول إلى البر الإسباني إنما هي التقاليد والأعراف الضاربة الأطناب والمتحكمة في مفاصل الحياة الإجتماعية في بلاد المغرب وسواها من الأقطار العربية الأخرى. دمها مطلوب من قبل ذويها لأنها مارست العشق الجنسي مع رجل أحبته وحملت منه قبل إتمام مراسم ومتطلبات عقد النكاح الشرعي المعروف. لماذا اختارت السيدة سناء بطلة أمازيغية لقصتها هذه ؟ لا أحسبها عاشت أو أقامت في مجتمع أمازيغي ( بربري ) وليس في الأردن أمازيغ على حدّ علمي. في الأردن جالية شركسية كبيرة لكنَّ هؤلاء ليسوا أمازيغ ما كانوا ولن يكونوا. عرفتُ أخيراً أنَّ هناك علاقات متينة بين الكُرْد والأمازيغ. نعم، لماذا الأمازيغ ولا من أحد غيرهم ؟ إنها لمسة إنسانية عميقة الأثر تقصدتها الكاتبة إعراباً عن تضامنها مع هذا الشعب العريق الأصيل من سكّان إفريقيا وخاصة شمال هذه القارة. حدث ذات يوم حديث بيني وبين طالب دكتوراه جزائري في جامعة شفيلد البريطانية سألته خلال الحديث : هل أنت أمازيغي ؟ أجاب بعد تفكير قصير فيه شيء من الحَذَر : يا ودّي كل الجزائريين بربر أمازيغ. إذن هو موقف إنساني مؤثّر ولا من غرابة فمعروف عن الدكتورة سناء كامل الشعلان تعدد وتنوع جوانبها الشخصية والإنسانية فهي أردنية من أصل فلسطيني ومواقفها من فلسطين والقضية الفلسطينية معروفة وكتابها الثاني " تقاسيم الفلسطيني / 2015 " شاهد آخر على ذلك. هي فلسطينية لحماً ودماً وأردنية نشأة وثقافة لكنها امرأة أمميّة تقف بصلابة وجرأة مع قضايا الإنسان وحرية الشعوب فمن أين أتتها القدرة على كل هذا التنوّع ومرونة هذه الحركات الثابتة التغيّر أُفقيّاً وعاموديّاً ؟ يبدو لمن يتابع أمر سناء أنها لم تكتفِ بعالميتها وآفاقها الكونية بل أضافت وأعلنت عن رهبنتها بأنْ وهبت نفسها وفكرها وجوهر الإنسان فيها وهبتها جميعاً لقضايا الإنسان المغلوب على أمره ولقضايا المستضعفين في الآرض أينما كانوا عرباً وغير عرب حتى أنها غامرتْ واخترقت الحواجز فزارت جزيرة كوبا البعيدة المعزولة الأمر الذي يهابه ويخشاه الرجال ! لذا ليس من باب الصدفة أنْ صرنا نراها في صورها الأخيرة بملابس سود شبيهة بأردية الراهبات.
أدخل في بعض تفاصيل هذه القصة :
سألتُ ابتداءً ما علاقة البحر بالصلاة أو الصلاة بالبحر ؟
   أولاً لولا البحر لما استطاعت الفتاة الأمازيغية الوصول إلى إسبانيا قاطعة مضيق جبل طارق على متن واحد من زوارق المطاط الهزيلة التي يؤجّرها المهربون لطالبي العبور إلى بر اللجوء. والبحر هذا البحر نفسه الذي أوصلها للعالم الآخر هو سبب محنتها وابنتها ونكبة الإثنتين معاً .. كيف ؟ لأنه عزلها عن الرجل الذي أحبّت وحملت منه " سِفاحاً " إذْ تخلّف عنها على الساحل المغربي في طنجة على أنْ يأخذ القارب الثاني. وصلت هي إلى البر الإسباني لكنَّ الرجل المنتظر لم يصل ! أمات غرقاً في محاولة عبور البرزخ الفاصل بين الظلم والظلام من جهة والحرية وبر الأمان من الجهة الأخرى ؟ هل خدعها  وتخلى عنها عن عمد وسابق إصرار وبمؤامرة خسيسة لئيمة فيها من النذالة والخيانة ما لا تطيق الجبال حمله ؟ هل كان واقعاَ تحت تهديد ذويه لأنه ما كان زوجاً شرعياً بأوراق ثبوتية من محكمة أو قاضٍ أو رجل دين فكيف يربط مصيره بمصير شابة استسلمت وسلّمت جسدها له قبل الزواج الرسمي ؟ حدث مثل هذا مرات ومرّات وحدث في أماكن متفرقة شتّى عرفتها كما عرفها الكثير من الناس غيري ، أعني أنْ يعدَ رجلٌ امرأةً بالزواج فتثق به لأنها تحبه وتسلم له جسدها لكنه يخون وينسحب وبكلماتها هي الضحية :
(( ... يقولون إنَّ العشق البشري فانٍ بفناء اللحظة، ولكنَّ الحقيقة أنه ممتدّ لا يعرف موتاً أو رحيلاً، وهو طاقة لا تفنى ولكنْ تتحول من شكل إلى آخر، وأجمل أشكالها هو ذلك الوجيب الذي كان يخفق في أحشائي منذ أسابيع وهو معجزة حبنا العظمى، هذا الجنين المستلقي في غياهب قرار مكين هو الشهادة الوحيدة على أنَّ عشقنا قد ذاق جسدينا فعطّل عزيزَ خططنا وجاء سريعاً قبل أنْ نرتبَ أمور زواجنا أو نحمل أوراقاً شرعية تجهر بشرعية علاقتنا. جاء قبل أنْ يخطبني أبوه من أهلي كما وعدني، وقبل أنْ تزغرّد أمّي وهي توزع حساء الحريرة والسكاكر في الحمام المغربي ليلة زفافي / الصفحة 23 )).  
من هنا بدأت مأساة هذه الفتاة الأمازيغية فمن يحل لغز تخلف الرجل الذي عشقت عن اللحاق بعشيقته الحامل ؟ لم تكشف سناء النقاب عن هذا السر ولم ترفع شكّاً ضد هذا الرجل بل شاءت وبحسن نيّة أنْ تتركَ الأمر مفتوحاً ولمن يشاء أن يرى ما يشاء.
الآن مسألة الصلاة التي تكررت مراراً في هذه القصة الطريفة. ربطت الصلاة بالبحر فكيف يصلي البحر وما معنى صلاته وما أهميتها لمجمل هذه القصة ؟ أسئلة كثيرة سنتابعها بصبر وتؤدة. كتبت سناء في مستهل هذه القصة :
((  " البحرُ يذهبُ للصلاة " كانت هذه الجملة هي إجابة أمي الوحيدة والمكرورة والأكيدة عن سؤالنا الطفولي عن حال مآل موجات البحر التي تختفي في البعيد فلا نعودُ نراها ونظنها تخوننا فتهرب إلى البعيد لتداعبَ أقدامَ أطفالٍ آخرين يصادقون البحر أكثر من صبية ثلاثة وطفلة صغيرة اعتادوا أنْ يعيشوا مُعلّقين بين السماء والأرض في أعالي جبال الأطلس حيث لا بحر ولا أمواج ولا موانئ، حسبهم بحيرات رقراقة موغلة في الصمت والغموض والسحر الخفيّ، وذلك الغناء الأمازيغي الحزين المترع بنبض اللوعة، المبتلع قصص الحرمان والرحيل والموت والتفجّع جميعها، والمخلص لوجوه الجبل الأليفة حيث لا غرباء أو كلمات وافدة مجهولة المعنى / الصفحة 21 )).
هل نسأل سناء أنْ تفسّر لنا  هذه اللوحة الغارقة بالسوريالية وإنْ أرادتها أنْ لا تكون كذلك ؟
موجات مياه البحر هذه إذن هي فروض صلوات المسلمين ركوعاً وسجوداً . سبق شاعرٌ الدكتورة سناء إلى تشبيه وقوف وهمس وركوع وسجود صلاة والدته فجراً " مثلَ مدِّ وجزرِ مياهِ البحر ". فلمن قدسية هذا الجو، أللصلاة نفسها أم لموجات البحر ؟ لمن الأولويّة ولمن فضل الأسبقية ؟ إنها في نظري للبحر ولأمواج البحر وقد لعب الدور الأكثر خطورة في مجريات أمور وتفاصيل هذه القصة. لكن للسيّدة الأمازيغية الواقعة تحت محنة لا أكبر منها رأياً آخرَ ومواقفَ آُخَر حيث الأولوية والصدارة للصلاة وقد ترددت كثيراً في القصة فها هي تقول (( ... أشرعُ أراقبُ معها الموجات تتسابق راكظة للإنكسار في الأفق فتسألني آمال ـ إبنتها ـ بفضول بادٍ : إلى أين تذهب الموجات ؟ أبتسم لها ابتسامة عريضة وأقول لها وعينايَ تزوغان نحو الشاطئ الجنوبي ـ أي المغرب ـ : تسافر نحو البحر الذي يُصلّي / الصفحة 32 )).
    قوة ما فوق العادة من حيث الجسامة الروحية والعقيدية تستوطن روح وعقل وفكر سناء توجهها أو تذكّرها أينما كانت وتحثها على أداء الصلوات الخمس وهي تحضُّ على القيام بها وعلى ادائها خمس مراتٍ في اليوم.
في مناسبة أخرى نسمع الفتاة الأمازيغية المغربية المنكوبة العاثرة الحظ تدخل في حوار مع الذات فتقول (( ... ولكنْ هناك حيث الأضواء اللامعة في الشاطئ الشمالي ـ إسبانيا ـ المقابل الحياة توهب مجاناً للعشق والجسد وللسعادة، ولذلك اخترنا أنْ نهرب من هذه الأرض التي تئدُ ابناءها بخطيئة الحياة إلى أرض النور وميعاد الحياة، هناك سنتزوج وهناك سألد طفلي وهناك سنكون إيّانا وهناك سنصلّي الصلوات الخمس جميعها على وقتها فأنّى كان البحر فهناك صلاة / الصفحة 24 )).
   تعلّق صوفاني رهباني نسكاني بالصلاة لكنَّ المغربية التي أرغمتها ظروف لجوئها إلى إسبانيا وسوء حظها وغيبة الرجل الذي وعدها بالزواج منها أرغمتها على ممارسة البغاء في منزول للدعارة تُديره في مدينة " مالقا " الأندلسية إمرأة مغربية اسمها رشيدة الوادي .... تحت وطأة هذه الظروف البالغة القسوة قالت هذه المرأة النَكِدة لطفلتها آمال ((أمثالي من النساء لا يصلين يا آمال / الصفحة 32 )). بل وحتى (( البحر هنا لا يُصلّي / الصفحة 32 )). نعم، لا صلوات مع رذيلة ودعارة وظلم وفجور! لا صلوات على أرض غريبة لا جذرَ لنا فيها تحت ترابها ولا أهلٌ ولا ناسُ [ لا دعاء بعودة غائبٍ يُستجاب ، فلا سماء تسمع الغريب في هذه الأرض / الصفحة 28 ]. الصلاة هي تعويذة القاصة وهي الإكسير الشافي والدرع الحامي للمرأة خاصة ولكن من حق سائل أنْ يسأل : هل في الصلاة قوة تمنع وتردع وتوقف مسببات النزوح والهجرة في بلد الأصل ؟ هل الصلاة قادرة على إقناع طالبي اللجوء أنْ يكفّوا عن محاولات اللجوء ؟ لم تولِ الكاتبة أسباب الرغبة باللجوء ما يكفي من وقت وكلمات وأهمية. لم تتطرق إلى ما يحصل في بلداننا العربية من جور وظلم وعسف من قبل الحكّام وأولي الأمر وغياب الحريات العامة وفقدان الأمن والفاقة والعوز ثم جاء زمن الحروب بين هذه البلدان وفي داخل كل واحد منها فضلاً عن إرهاب الدواعش والجماعات المتطرفة المأجورة التي غزت مناطق شاسعة من سوريا والعراق وليبيا واليمن وسيناء مصر. بلى، إنها عالجت بكفاءة عالية مشكلة واحدة تخص فتاة مغربية أمازيغية حملت ممّن تُحب قبل إتمام مراسم ومتطلبات الزواج المعروفة فخافت، وحقها أنْ تخاف، من مصير مرعب في أنْ يسفك ذووها دمها " غسلاً للعار " فقررت هي ومعها الزوج المفترض أنْ يهربا ملتمسين أرضاً تؤويهم وتحميهم وبلداً يوفر لهما فُرص العمل الشريف أياً كان حتى لو كان كنس شوارع وخدمة في الفنادق والمطاعم وغير ذلك. الخوف من القتل كان وراء هجرة هذه السيدة المنكوبة (( حمقاء أنا ومنكودٌ جسدي وملعونة هي أحكام عالمي المُعلّق هناك في الجبل، أرادوا أنْ يسفكوا دمي لأنني وهبتُ جسدي للحظات لرجل أعشقه، فها أنا ذا أبذله رخيصاً في هذه الأرض لكل باغٍ فما تراهم سيفعلون أولئك الحفنة من الظّلَمة لإبنتهم التي تحترفُ البغاء في مَلْقا / الصفحة 31 )).
لم تكن هذه الفتاة التعيسة الحظ وحدها في قلب المأساة إنما كانت معها طفلتها " آمال " التي لم ترَ أباها ولا تعرف من هو وأين هو ... وقد أبدعت دكتورة سناء في رسم صور بعض تفاصيل حياة هذه الطفلة البريئة براءة الملائكة التي لم تذنب ولم تشارك في رسم مصيرها لكنها تتحمل وِزْرَ ما فعل سواها فأين عدالة الأرض وأين عدالة السماء ؟ يكفي أنْ نقرأ المكتوب على الصفحتين 30 ـ 31 لنغطي وجوهنا حياءً ونمسح الدموع التي تتساقط عطفاً وتضامناً مع طهر الطفولة المنتهك ومجهولية المصير .
خير ما أختتم به ملاحظاتي هذه ما قالت سناء في الصفحة 29 :
(( قالوا الكثير وسمعت الكثير والنتيجة كانت الانتظار الموصول لرجل لا أعرف أهو من خذلني أم أنَّ البحر غرّر به وابتلعه على حين غرّة، ثم طواه في النسيان ليورثني سؤالاً لا يفتر ولا يموت وهو : أين اختفى الرجل الذي أعشقه ( الصواب الذي أعشق ) ؟ )).
نقرأ القصة ثم نعيد قراءتها فلا نكاد نجد كلمة واحدة زائدة عن اللزوم أو فائضة عن الحاجة أو مُقحمة إقحاماً متعسفّاً، كل شئ وحدث وفكرة يجري بمقدار وميقات معلوم محسوب مبرمج بدقة جهاز إلكتروني ونبضات قلب وعصب بشريين ولكن من نسيج سيليكوني خاص غير مسبوق.
   وتبقى سناء الشعلان تلك الفتاة الجريئة الشجاعة المدافعة عن حرية المرأة في جسدها وفكرها وما تتخذ من قرارات وتظلّ الأمينة الحريصة على تقديس الحب الذي تفضل تسميته بالعشق وإذا ساعدني ظرفي الراهن فربما سأتعرض لهذا الموضوع حين أتناول قصتها الأخرى [ الضياع في عيني رجل الجبل ].
أقترحُ أنْ تُعيد الدكتورة سناء الشعلان  كتابة هذه القصة وتجعلها رواية خاصة ففيها من الحوادث والقصص ما يكفي لكتابتها كرواية.
 *
د. سناء شعلان
الذي سرق نجمة، مجموعة قصصية. الناشر : أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، المملكة الأردنية الهاشمية. الطبعة الأولى 2016 .

ليست هناك تعليقات: