بقلم: محمد محمد السنباطي
-1-
كان زميلا لي في العمل، لا يكاد وقتُ فراغ يسمحُ إلا
وأجده أمامي، يسحب كرسيًّا ويجلس إلى جانب مكتبي دونًا عن بقية الموظفين، فأطلب له
القهوة أو الشاي لكنه يقسم ألا أحاسب. "الواد سيد يزعل لو حاسبته أنت!"
وهذا حقيقي لأنه يجزل العطاء للواد سيد.
حدث بيننا ارتباطٌ شرطيٌّ في أذهان الكثيرين من الزملاء.
صاروا ينادونه باسمي أو ينادونني باسمه، هكذا سهوًا دونَ قصد. وكان هذا الأمر
يضايقني أحيانًا لأني أسمع الواحد منهم يقول: "الأستاذ "مرزوق"
يترك مكتبه كثيرًا والناس يسألون عنه!"
وليس الأستاذ "مرزوق" سوى من يحدثكم الآن!
هم يقصدون الأستاذ "خيرت جاد" دون شك.
يكون بالفعل قد ترك مكتبه وغادر حجرته وجاء إليَّ كأنما
لا يحس بوجوده الحقيقيِّ إلا بالقرب مني.
وعندما تكون شمس الشتاء على الكنبة أجده يسحب الكرسي إلى
حيث الشمس، ويمدد رجليه ويهيءُ جسدَهُ لاستقبال وشوشاتِ الدفء. الله. حجرتك هذه
شتوية بامتياز! خالية من الرطوبة!
ألمح الآنسة "تهاني" قادمة نحونا يسبقها وميضُ
ابتسامها فتلقي التحية علينا ثم تخصه بضحكةٍ مهذبةٍ للغاية: "ما رأيك نكتب
طلبًا للمدير العام لتنقل مكتبك إلى جوار مكتب صديقك يا "خيرت بيه"؟!
الأستاذ "مرزوق" حتة سكرة ومن يجاور السعيد يسعد!
- تفضلي اجلسي معنا يا آنسة "تهاني"
- يا ريتني فاضية. عندي شغل كتير كان الله في عوني.
ادعوا لي ربنا يزيح عني
وتخرج
أسأله: "ما الذي أتى بها إذن؟"
فيتورد وجهه الصبوح كوجه عذراء سمينة مربربة ويهز كتفيه
باستخفاف محبب.
يعود إلى مكتبه. لا تكاد تمر ساعة أو أكثر إلا وأراه
قادمًا كأنما يجلس في مكتبه على شوك. أتوقع أن يهل علينا وجه الآنسة تهاني، لكنها
لا تظهر هذه المرة في وجود الأستاذ "خيرت" الذي جلس دقائق ثم انصرف
لأراها هي داخلة عليَّ يسبقها عطرُها. وتلمع ابتسامتها وأكاد أخبرها أن الأستاذ
"خيرت" كان هنا بالفعل ولسه خارج من لحظات. تسألني هي عن المدام
والأولاد والمعيشة وكأنما تفتح مواضيعَ حتى تطيل مكوثها معي في حجرة مكتبي على أمل
أن يحضر إنسانٌ تأتي هي إلى هنا من أجل رؤيته! أنا فاهم!
- الأستاذ خيرت كان هنا ولسه خارج!
كأنما فاجأتها بحديثي عنه. أو كأنما أعلنتُ سرها على
الملأ. ملأت الدهشة تقاطيع وجهها الصغير الجميل المائل للشحوب قليلا وإن كانت
شفتان جميلتان في لون الخوخ الناضج قد انفرجتا عن ابتسامة مدهشة وهي تقول لي:
"وهل تظن أني أجيء من أجله؟"
وخزني اعتراضها قبل أن تكمل: بل من أجلك أنت لأني أعتبرك
لي أبًا أو أخًا أكبر يا أستاذ "خيرت!!" آسفه والله يا أستاذ
"مرزوق!" سامحني!
ووجدتني أقهقه بعفويةٍ وكأنما أتلذذ بإسماعها قهقهتي!
"كيف تخطئين في اسم من تسمينه والدك أو أخاك الأكبر؟ اللي واخد عقلك؟!"
فإذا بها تلقي بنفسها على الكرسي الذي تعود هو الجلوس
عليه، وتشرع في تقليد طريقة جلوسه!
أعود بوجهي إلى أوراقي المكدسة أمامي فإذا بها تغادر
الشمس وتقرب مجلسها مني، وتسأل: "فيك من يكتم السر؟"
أرفع وجهي عن أوراقي وأنا أؤكد لها: "في بير!"
وأتهيأ لسماع سر عظيم!
يدخل أحد المواطنين بطلبٍ فأتسلمه منه وأضعه في ترتيبه
وأقول لصاحبه: "انظر إلى كل هذه الطلبات! أمامي يومان لفحصها". يبتسم
الرجل: "كان الله في العون يا باشا. المهم تفحصها بضمير!"
ويخرج بعد أن شكني بإبرة شكٍّ مخبوءةٍ في كلماته. تهمس
لي تهاني: "هل أخبرك الأستاذ خيرت شيئًا؟"
- عن ماذا؟
- ألم يخبرك بشيء؟
- لا أفهم
رأيتها مرتبكة وكأنما فوجئت بأني لا أعلم ما تظن هي أني
على علم به.
- فيه كلام كده عن خطوبة وزواج
شهقت: صحيح؟ ألف مبروك! لا والله لم يخبرني بشيء من هذا!
ولأول مرة أتأمل جمال عينيها السعيدتين، وعلى حرف حاجبها
الأيسر شامة صغيرة كعصفور صغير انفلت عن غصن شجرة وراح يهم بالطيران لأول مرة في
حياته. نهضت واقفة.
- كنت أظنه قد حدثك عني!
- اجلسي! لماذا تقومين؟
ما أسرع استجابتها! جلست وعيناها في عيني: "حدث
كلام بين العائلتين. أعني بين حريم العائلتين!"
فوجدتني أقول بحرارة: "يا زين ما اختار!، وإن كنت
أنا زعلان لأنه أخفى عني الخبر السعيد".
- ربما لم يصبح خبرًا بعد. المهم أني كنت أتمنى أن أعرف
شعوره هو تجاهي. فِكرته عني! لم يحدثني في شيء! وظننتك بئر أسراره!
ووجدتني أسألها عن رأيها فيه كزوج. وجدتها تسكب على وجهي
ومضات من ألق ابتسامتها ثم غادرتني هامسة: "باي!"
حاولت أن أمنع عيني من ملاحظة تكوينها الجثماني الخلفي
لكني ما استطعت المنع! رأيت كيف يكون الجسم الأنثوي سعيدًا!
-2-
بعد أسبوع من "الطلاق" عادت تهاني إلى العمل.
لا تحدق في الكلمة مدهوشًا مصدومًا ولا تتهمني بالخطأ في
الكتابة. على أي حال أنت محق في اندهاشك واستغرابك ولا لوم عليك. حدث الزواج بعد
احتفالٍ رائع ووليمة كبرى ظل كلُّ مَن في المصلحة يتحدثون عنها طوال فترة شهر
العسل. وكان المدير العام [الذي تناول وحده كمية من اللحوم تكفي خمسة أشخاص حتى
قال لي وأنا أستحلفه ألا يكسف يدي: خلاص مش قادر يا أستاذ مرزوق كفاية كده. فأُقسم
عليه أن يأكل فيطيعني] وكهدية من المصلحة قام بتمزيق طلب الإجازة قائلا: "ما
دام هناك مِن الزملاء مَن سيقوم بعملهما عن طيب خاطر فلا داعي لإثبات ذلك في
الدفاتر الرسمية".
وضحك موجها حديثه للعريس: "بشرط أن ترفع رأسنا يا
بطل!"
**
مرَّ الشهر وعاد العروسان إلى العمل. استقبلهما الزملاء
بتوزيع الشوكولا التي أحضرها العريس معه. الفرحة الغامرة تفوح من الوجوه والأردان.
مرت أيام قليلة أخرى كانا يحضران فيها إلى المصلحة والذراع في الذراع.
"أنجاجيه" كما يقول سليمان الساعي. وفجأةً انقطعت العروس عن المجيء إلى
العمل. ظن البعض أن العريس قرر أن يأخذ لها إجازة مفتوحة أو أن يمنعها من الشغل
لتتفرغ له. ولا بد أنَّ أحدًا تجرأ وسأله عنها فمط شفتيه دون أن يجيب. لكن الخبر
جاء من سليمان الساعي ليزلزل الإدارة: "العروس غاضبة وتقيم في منزل
أبيها!!"، ليهل الأسبوع الذي يليه فيرونها تدخل من باب الإدارة ووجهها إلى
الأرض وكأنها مضروبة بعصا على أم رأسها!
وعندما سألوها تهربت منهم وكادت الدموع تنسرب من عينيها.
خلال الأسبوع الذي انقطعت فيه عن العمل، وكان زوجها يجيء
إلى المصلحة لم يحدث في يوم من الأيام أن دخل مكتبي، لكنه يظهر اليوم فيبحث عن
بقعة الشمس ويسحب كرسيًّا ويجلس مطرقًا كئيبًا. يجب ألا يلحظ أني أعرف شيئًا.
أسأله عن أحواله.
- الحمد لله.
- كيف حال المدام؟
- وأنت؟ ازاي
حالك.
وينهال الزملاء عليَّ يسألونني عن سر الطلاق بعد أن
يقسموا أن الدبلة لم تعد في أصبعها. يستحلفونني ألا أخفي شيئًا فأقسم لهم أن لا
علم لي بشيء. واستجمعت شجاعتي وقلت أواجهه. وكان على الكرسي ممددًا ساقيه وقد خلع
قدميه من الحذاء ووضعهما على كرسي آخر ليكون على راحته تمامًا وإن بدا منكسرًا.
طلبت له القهوة باللبن التي يفضلها، ولم يكد يرتشف رشفة حتى فاجأته:
- أصحيح ما نسمع؟
- وماذا تسمعون؟
- إنك
والعياذ بالله طلقت زوجتك؟
امتقع وجهه واربدت ملامحه وكاد ينثر الرشفة من فيه كأنما
هي ماء في درجة الغليان. وضع الفنجان من يده وقدميه في حذائه. همَّ بالنهوض. لكني
رجوته أن يتأنى قليلا ليخبرني فربما استطعت أن أعيد الفرسة إلى مربطها. هز رأسه
رافضًا.
- هل المشكلة أعوصُ مما يمكن إيجاد حل لها؟
- أرجوك!
**
لكنه بعد العشاء فوجئ بي أدق عليه باب منزله. تلقاني
بالأحضان هاشًّا باشًّا. حمدتُ الله واستبشرت خيرًا.
- طبعًا أنت تعرف سر مجيئي!
- وهل تزاورُ الأصدقاء المقربين يحتاج إلى معرفة أسرار؟
وحدثته عن خطورة الطلاق السريع على سمعة المرأة وشرفها
وسُمعتها. اربدَّ وجهُهُ ونفرَ من كلامي. نهرني: "لو كان ذلك ما صبرتُ عليها
يومًا واحدًا، لكننا قضينا شهر العسل كأسعد عروسين".
صرخت فيه: "إذن صارحني ولا تتركني أفقد عقلي!"
- سأحكي لك لثقتي بك ولكن إذا أخبرتَ أحدًا فإن القطيعة
بيننا ستكون حتمية!
وسمعت دقات على باب الحجرة فإذا بصبي يحمل صينية عليها
زجاجة ليمونادة، فقال له: "ضعها هنا يا محمد وقل لهم يعدون لنا عشاء يليق
بضيف كريم!"
وضع الصبي الصينية واقترب مني مادًّا يده ليصافحني
فأجلسته إلى جواري فقال صديقي: "هذا أخي الصغير محمد".
حاولت الاعتذار عن العشاء لكنه أقسم أغلظ الأيمان.
- على فكرة الموظفون أنفسهم يخلطون بين اسمينا! سمعت أمس
من يسأل صاحبة: "هل طلق الأستاذ مرزوق زوجنه؟" فانطلقت فيهما كالمدفع
الرشاش!!
لكنه تجاهل ملاحظتي واستمر كأنما يحدث نفسه:
- كنا عايشين أحلى عيشة. آخر سعادة وهناء. وذات يوم كان
عندي صداع.
- عادي جدًّا
- فإذا بها
تطلب مني!
وخبط إحدى يديه بالأخرى استنكارًا.
- بسيطة، قل لها أنا تعبان عندي صداع
- المشكلة ليست في التعب ولا الصداع. المعضلة الكبرى
أنها طلبت ذلك!!
كررتُ كلامه متأنيًا لأستوعب: هي.. طلبت ذلك.. منك أنت!!
- تصور؟ هي تطلب مني هذا!
حدث لي ارتباك فلم أنطق. المعضلة أنها طلبت منه ذلك! غلطانة! الغلط فوقها
وتحتها!
- ولكنك لم تخبرني لماذا طلقتها؟!
- هذا هو السبب يا أخي. أليس كافيًا؟
- أي سبب؟
- أنها طلبت
مني!
انتفضت واقفا كالملسوع.
- وأنا أيضًا أطلب منك
- ماذا؟ أنا تحت أمرك
- أن تعفيني
من العشاء، ومن شرب الحاجة الساقعة. قسمًا بالله لن أتناول اليوم لقمة إلا في بيتي
مع امرأتي التي أتمنى. أتمنى. وأنا أكبر منك بعشرين عامًا. أتمنى أن تطلب مني!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق