الأرض فاتحة
وختام والنساء فصول الخصب والنماء
بوابات
التراجيديا ... الولوج من قلب الوطن
مصاحبة
نقدية أولى لثلاثة عشرة مجموعة شعريةلحسن النجار
مختارعيسى
توطئة لازمة
لأنك لاتستطيع مخاتلة الذات ، باستنساخات
الأنقاد التي درج على تعبئة أوراقنا بها جُلُّ النقدة ، ولأنك لايمكن إلا أن تحتشد
لتجربة ومجرّب قدمها لك؛ آملا أن تكون لك
كلمة الإنصاف في زمن التصاحيف والتغلطات، كان تهيُّبي الاقتراب ـ حينا ـ من "بوابات
التراجيديا" التي دعاني الشاعرحسن
النجارإلى الولوج منها إلى عوالمه الشعرية، وارتكازاته الفكرية والإبداعية ، في
مجموع أعماله في أجزائها الثلاثة، التي تضم ثلاث عشرة مجموعة شعرية في مجلد واحد.
وبدءا ، وبغير أن يبادرمتعجل ؛ فيتهمنا باللجوء
إلى التعاميم ، والإطلاقات ، انتصارا لتجربة ، أؤكد أن مُلجئي إلى التبكير بإعلان
انحيازي إليها ، ليس إلا التعبير عن استخلاصات من مرورات عدة بين الدواوين ، لم
تكن لتترك لي فرصة التهرب من ما يقارب الهتاف النقدي ـ إذا جاز الاستخدام ـ للشاعر
وتجربته ؛ ذلك أنك تتأكد ، في كل مرة ،بأنك أمام شاعر يعرف حدود شاعريته ،
لايبتذلها جرّاء مساوقات شكلانية لحداثات شوائه ، ولا يجافي بها إرثه العربي ، ولا
يستذل تجربته له في آن؛ فهو الوالج عبر بواباته إلى عمق أزمة الذاتين الفردة
والجمعية ، وهو المتخارج منها إلى اشتباكات الوعي غير المؤطرة أيديولوجيا ـ وإن
بدا ذلك لبعض الدارسين ـ تأطيرا ساجنا مكبلا لانطلاقات في مساحات الوجود الإنساني
العام .
ولأن الاجتراء النقدي ممن لا يقدرون على
قراءة نص واحد دون مزالق ، هو سيد الموقف في كثيرمن ندواتنا ، بل وفي أطروحات
جامعية ، ولأن آلاف التعاليق تكاد
تطمس
جوهر العلاقة بين مبدع النص ومتلقيه ؛ جراء علاقات شائهة مسؤول عنها حتما جيلٌ من المبدعين والنقاد على
السواء ؛ فإنني أتكئ على مافي هذه الأعمال
من خضرة قادرة على مكافحة
التصحر الإبداعي، والجفاف النقدي ؛ وليس في انحيازي ـ آكدا ـ أية مجاوزة
للموضوعية ، وإنما ارتكان إلى عناصر التجربة القادرة وحدها على إقامة الحجة وتقديم
الدليل .
الدخول إلى مجلد "الأعمال الشعرية" من
بابه الرئيس، يتيح للجائل العابرالوقوف على شواهد وإشارات، لكنه ـ لاشك ـ يمنح
المتمهل المقيم فرصا أعظم لتبين تفاصيل مبانيه
ومعانيه ، وتحسس ملمس الجدران، صلابتها أو لينها، ورائحة الوجود ،وطعوم الحياة ، ومن
ثم لايكون القيام على العتبات كافيا لاستخلاص مكامن التجربة، ومراكز الحضور وأدلة
الغياب فيها ، وإن كانت العتبات لوزام الدخول الشرعي، مع التسليم بإمكان تخطيها ،
أو تخطي إحداها ، كعتبة الغلاف ، الذي أظن أن الشاعر لم يتريث عنده كثيرا، وإن كنا
نستريح إلى اعتبارعنوان الأعمال أول كواشف التجربة الكبيرة المحددة للمسارات، بل
والمآلات المقصودة ؛ حيث تلعب الكلمتان المتضايفتان" بوابات " بجمعيتها
و" التراجيديا " بإفرادها وتعريفيتها، دورا استدراجيا للمتلقي؛ للمرورمن
متعدد ، بما يتيحه هذا المرور من فساحات الاختلاف أو الاتفاق، إلى محدَّد مستهدف
مأطور، وهو هذه المأساة ـ على إطلاقيتها؛ الأمر الذي يهيئ المتلقي عبرهذه العتبة
إلى الاستعداد لتحري ملامحها ، وعلاماتها ، ارتكانا إلى محمولها الرؤيوي، وإرث
المتلقي مع التراجيديات في الوعي الشعري ، والثقافي العام ، ولعلنا نشير إلى عنوان
ديوان للراحل الكبير "نجيب سرور" وهو " التراجيديا الإنسانية
" وربما كان في الإفرادية في تجربة "سرور" وتأطيرها نعتيا، وإطلاقيتها
لدى "النجار" دلالة على اتساع التجربة المتأخرة في (مجلد الأعمال) محل
الدراسة ، ومن ثم استلزام تعدد بوابات الدخول، وسنواجه ـ بعد قليل ـ بتأطير نعتي لإحدى التراجيديات لديه في عنوان
المجموعة الشعرية الأولى : " التراجيديا الريفية "، ثم بإطلاقيتها في
عنوان نصه " فصل في التراجيديا " ثم بتحديد زمني في نص ثالث : " تراجيديا
الساعة الثانية".
وإذ يعتبر "حسن" كل مجموعة شعرية
مدخلا إلى "تراجيديا" عامة ، أو تراجيديته الخاصة، فإنه يلجأ إلى تصنيف
كلٍّ منها بالبوابة مانحا إياها رقما متسلسلا ، ولاتخفى دلالة الكلمة التي تشير
إلى معنيين متضادين ؛ فربما كانت حاجزا بإغلاقها في وجه محاولي العبور، وربما كانت
بانفتاحها دعوة للمرور ، والجمع دال موحٍ،على ضفتي المعنى، ولكنا نرتاح إلى تأويله
كأنه يوحي، بتتابع الدخول من واحدة إلى أخرى ، إلى الانتقال الرؤيوي والفني من
عالم إلى آخر مغاير، وإن كانت المغايرة لم تتضح بشكل سافر ؛ فالتناص الداخلي
معجميا ورؤيويا وحتى في معماريات النصوص كفيل بدحض المغايرة ، بل والتأكيد على أن
ثمة استنساخا لعوالم ورؤى ومشاهد، لم تتبدل كثيرا في معظم المجموعات تقريبا .
ولافت قطعا أن الشاعرعمد إلى وضعية خاصة لاسمه في الثلث الأعلى من صفحة الغلاف ،على
خلاف المألوف بتقديم عنوان الكتاب على اسم
مؤلفه ، وربما جاء هذا عفو الخاطر، ومن ثم فإننا وفق العمدية القصدية أو العفوية ، أمام الإعلان
عن الوجود الذاتي ، وباللون ذاته الذي عنون به
مجلده ، هذا البني الداكن، القريب من لون التربة ، والتي سيكون لها ولـ
"الأرض" حضور كثيف فيما بعد ،
وكل هذا فوق صفحة تميل إلى شكل قطعة النسيج الكتاني ، ذو الحضور في الذاكرة
المصرية والريفية تحديدا ، وكلها إشارات للفضاء
الذي تتحرك بين أضلاعه النصوص.
سأغادرمضطرا عتبة الغلاف الأول ، وإن كنت
توقفت فيها عند عنوان الأعمال إجمالا، إلا
أن بساطة التشكيل الخطي واللوني في هذه العتبة ، لم تكن بقادرة على البوح بأكثرمن
الإعلان عن اسم الشاعروالتقديم العام، والتوصيف الجنسي للنصوص، عبر عنوان من
كلمتين متضايفتين، مع اعتبار ما أشرت إليه
من التعدد والإفراد ، أوالإطلاق بمعنى أدق ، بالإضافة إلى صورة فوتوغرافية ،فيما
يبدو، لبرق وساحل مطمور الملامح ، وكأنه
إشارة أخرى لهذه الإطلاقية ، وأن حدثا كونيا مكرورا يوشك أن يأخذ بتلابيب التجربة
من صفحتها الأولى ،وكأنّ برقا يسبق الرعد الصوتي العاتي الذي سنسمعه عند العبور من
البوابة الأولى ، ليهطل مطر النصوص .
وبالانتقال الطبعي إلى عتبة غلافية أخرى ، في
نهاية البوابات ، وأعنى بها ما سجله الشاعرعلى الغلاف الأخير لمجلده، سنجد صورته ـ
صورة الشاعرـ بوجه هادئ يتأمل أو يفكر ،
ثم مقطع شعري يؤكد فيه أن كلماته لم تنته ، وأن ثمة جديدا لم يقله في أعماله ،
مشيرا إلى صعوبة الرحلة، وثقل المهمة ، ومسؤولية الشاعر الرسول
" من علم هذي الليلة أن تأخذ
زينتها/ في السر وتلبس خف التدوير/ فأخرج في كنف الليل الصحراوي / أنصّب في كل
خلاء مائدة لطيور/ الليل وألبس تيجان المملكة البيضاء
ـ لو كان الليل مدادا ماوسعت/ كلماتي الأرض ـ /أقرب من جسدي رائحة الأفق / ورائحة
النار .. وأسقط إعياء"
هانحن بين الضفتين ، بين إشارة البرق،على الغلاف
الأول ودلالتها المضيئة ، وربما المنذرة ، وبين الخروج معه عبر الغلاف الخلفي ،
وقد سقط إعياء ، نكون قد أدركنا ولو لمحا ، أن احتمالا، ولو ضئيلا، قائم لوقوع المأساة بينهما، وتراجيديا خاصة وعامة لم يفلح الشاعر
في احتوائها تعبيرا واشتباكا روحيا
ومعرفيا ؛ باعترافه ـ على الغلاف الأخيرـ أنه لم يكمل كلماته حولها ، وأنه لم يملك
في نهاية المطاف إلا أن يقرب من جسده رائحتي الأفق والنار قبل أن يسقط من الإعياء
.
حسنا ؛ سنقبل دعوة البرق ، أو بمعنى آخر ،
سنستعد لعبور بوابة التراجيديا الأولى، والتي ستكون لدينا دليلا مرشدا ـ على مافي
هذا من خطورة التحديد ـ لعوالم الشاعر؛حيث الريف مرتكزه البيئي، وانطلاقته البدئية
في مواجهة الحياة، بتراجيدياتها العامة، وتراجيديا الريف بصورة خاصة ؛ لنكون في
مواجهة تشكيلية وبنائية ووجدانية في حضرة
الأرض، رحم النص، وبذرته في آن، وحيث الريف يشخص مختزلا للحياة الأوسع بجدليات الوعي ومساحات الاختلاف والتواؤم، وحضور الأحلام، وشيوع الخرافة .
ليس عفويا قطعا أن تكون البداية أو البوابة
الأولى، مفتوحة على فضاء التكوين والتنشئة ، ومستدخلات النفس والروح والوعي في
بيئة الميلاد ، والصبا والشباب ، في
" بابل " ذلك العشق الذي لم يغادرالشاعر ، مذ سكنه في ساعات الخلق
الأولى، رغم محاولات الانعتاق من التأطير القروي للفكر والمشاعر، وليس عارضا أيضا
أن يفتتح مجموعته الأولى بالنشيد الريفي ، فالشاعر رغم ما تؤكده تجاربه في
مجموعاته الثلاثة عشرة موغل في الدرامية ، متكئ على تداخل الأصوات وتعدد الموالج
للنص الشعري رؤى وبناء ، إلا أنه لم يغادر آليات المنشد العربي القديم ، والذي ـ
بالطبع ـ يتسق مع ريفية التكوين ، وبدائية التفكر، وبساطة الجدل ، وحدته في آن . ولعلنا
في تالٍ سنلحظ حضورا كثيفا لمفردات الإنشاد والنشيد والغناء والموسيقا .
يفتتح " النجار" مصدرا لقصائده الأولى بمقولة " روبرت
فروست" : " لك أن تلومني
لعجزي عن الهرب من الأرض " ، وفي ظني أنه
إنما أراد التأكيد على التمسك بالطين ، وتوثيق الانتماء ، رغم النوازع الداخلية
،لاشتباكات الوعي والنظر إلى ظواهر الأمور وبواطنها ؛ فلا تزال الأصالة الريفية
تأخذ بتلابيب روحه ، وتدفعه إلى إعلان القبول باللوم على العجز عن الهرب من حقل
أرض الإنبات والتنشئة .
ولعله وهو يفتح لنا بوابته الأولى أراد أن يقدم
لنا فيما يشبه الإصرار، بل هو كذلك، علاقته بالوطن، ويدق في تربة الوعي العام
أوتاد هذه العلاقة بالاتكاء على ماسميته استعارة من الفن السينمائي ، مفردات
البطولة ؛ حيث تتصدر المشاهد كلها ، ولاتكاد تقرأ سطرا واحدا حتى تتيقن أنه لافكاك،
وإن أجهدت نفسك ، من مواجهتها صريحة في دلالتها المعجمية الأولى ، أو بظلالها ،
وإشعاعاتها ، فكلمة (الأرض ) وكل الحقول
الدلالية المتشعبة عن حقلها الرئيس وفي "أغنيات المدخل" (ص 11) من الأعمال ، لاتكاد تحصى؛ ؛ ومن ثم فأنت قد
تأكدت، ومنذ المصافحة التلقوية الأولى أنك
أمام شاعر وطني من الطراز العاشق المولّه ، وأن احتمالا بدوران نصوص المجموعة كلها
داخل حالة العشق هذه، هو الأقدرعلى الصمود أمام كل الاحتمالات المفتوحة، على
فضاءات شعرية أخرى، وأنك مطالب ، وفق ذائقة خاصة، دفعك إليها دفعا ، ليس
باستقراء ظواهر هذا العشق وهذه الوطنية
بركائزها الريفية الراسخة فكرتنا عن مكانة الأرض فيها ، ولكن بتحليل ماوراء هذه
الظواهر؛ انتصارا لمعنى ارتباط الإنسان في حراكه العام بالكينونة الوجودية.
ليس غريباـ إذن ـ أن تكون كلمة البدء هي " الأرض" حيث يقول في المقطع
الأول من " أغنيات المدخل " :
"الأرض ليس يؤمهاغير الرجال
/ يتقدمون نساءهم للنهر / ثم يحاورون دم الأجنة / في مواعيد البذار "
ويتابع : الأرض تحبل/ حين يلمس صدرها / خطو الرجال/الموت حين يطل
عبر سهولنا/ تفنيه في البحر ابتهالات الرجال ( ص12)
(الأرض) كمفردة تتكررفي هذه القصيدة وحدها عشرمرات
، فضلا عن مرادفاتها وأخواتها في حقل دلالي واحد ، كالثرى ، والطمي ، والتراب ،وغرين
، وغيرها، وكذا مفردات" الرجال" و "النهر" و"الخيل"
و"الدماء" و"الليل" ، و"بابل "، الأمر الذي يتيح
لنا فرصة تصديق فاعلية المدخل المعجمي، واعتماده لتحري الخطاب النجّاري في هذه
المجموعة من الأعمال الشعرية، دون أن نُتهم بلي الأذرع النصية؛ استجابة لتصورمسبق،
أو ذائقة معلبة ،على عادة محترفي التعاليب النقدية ، ندخل بها فضاءه الشعري الفسيح
.
تستحوذ
(الأرض) ،كدال ودلالة، على مساحات شواسع من الخطاب الشعري في المجلدات بمجموعاتها
الثلاثة عشرة ، فلا تكاد قصيدة تهجرها حتى تؤوب إليها سريعا قصيدة أخرى ، وفي المدخل
وحده وأغنياته نقرأ حضوراتها : "الأرض
تحبل"، "لا عشبة في الأرض ترسم وجهنا " ، "حين تخضب الأرض الوجوه "،"
لاتبارك ميتتي في هذه الأرض"،" ولا ترسم على الأرض العذاب"،"
فتسمعت لصوت الأرض فيه" ، "وأرحل
مبقيا للأرض صوت الآلهة" ، "رماد الأرض عودوا زهوها"، "يسوي
في حنايا الأرض قبري ؟ "
هذا الخضوع للمفردة ، لايمكن أن نرده إلى فقر معجمي
، وفاقة لغوية ، وإنما ـ وفي رأيي ـ تأكيد للحضورالريفي بثقافته المعهودة ، وإرثه
الفكري ، في ذات الشاعر؛ فلا أغلى ولا أعظم حضورا لدى أبناء هذه البيئة الاجتماعية
، والمحيط الجغرافي البابلي ، من الأرض ؛ ومن هنا فإلحاح المفردة وسيطرتها على
التراكيب الشعرية في النص، لم يكن ليتبدى بالدلالة المعجمية ذاتها في كل مرة ،
لكنه يكتسى ظلالا جديدة في كل جملة ؛ فمرة هي مجرد مساحة جغرافية ، لا يسكنها ، أولايستحق سكناها إلا الرجال ، ومرة هي الخصوبة في صورة امرأة
حبلى، وثالثة هي قبر ، وجثة ميتة ، ورابعة هي صائتة بصوت إلهي مقدس، وخامسة لاهبة
موقظة للموتي ، هي الفعل ونقيضه ، الحضور والغياب ، الإماتة والإحياء ، الصمت
والصوت ..هي الكون ، والوجود إذن.
ومع وقوع الشاعرتحت سطوة استلاب دلالي ، منذ
سطره الأول ، كان لابد من تجاور واشتباكات المداليل ، وتقاطعات الصور،في حقل
الحياة والموت ، بما تمثله الأرض فيه من بؤرة مركزية ، تدور التراكيب والصور حول
محورها ، حتى تكاد تتكررالفكرة ، وتستنسخ التعابير، لتكتشف أن ما سماه الشاعر
بأغنيات المدخل ليس إلا تنازيف الذات الفردية في جدليتها مع ذوات الجموع ، وحضورالكل
في الواحد، البطل التراجيدي في مواجهة آلة القدر الطاحنة ، وتحت سمع وبصر ذلك
الإله البابلي المتصور رسوخه في الوعي الجمعي و حضوره في تفاعلات النيل والطمي
وإخصاب الرجال للأرض والنساء في آن .
من هنا فإن " بابل " قرية الشاعر، المنبت ، والنشوء ، طفولة ويفاعة وشبابا ، لم تكن مجرد مساحات من
الطين ، تؤطرها حدود الجغرافيا ، ومزارع ، وبيوت ، ورجال ، ولم تكن اختزالا لفضاء فيزيقي
لايدرك الشاعر أمداءه ، بل كانت الرحم
الذي يلقي بقداسة بارتعاش الطمي في لحوم الرجال الآلهة ، خارج جغرافيتها
المحدودة ، وهي المعادل المتعين، للماوراء المقدس، والمعلوم المجهول .المحدود اللا
مأطور .
"من لي سواكِ يعلُّ طير
النوم في صدري / يروّي في دمي عطش النبات / يبكي على صدري قبيل الموت / يحمل عن أبي نعشي / يسوي في حنايا
الأرض قبري ؟ / ناديت بابل في انخطاف القلب : / بابل عادني من دفئك الدموي عمري /
من لي سواك يردُّ جوعي/ حينما تعيا الفصول ؟"
ولا
غرابة ـ إذن ـ ألا يخاطب في مختتم نصه الافتتاحي سوى رب بابل :
"يارب بابل بارك الأم
الرحيمة / واشهد ـ تباركك السماء ـ مخاضها الريفي في عرس الأمومة" (ص19)
هل كنت مغاليا في رصدي لحضور الأرض بهذه
الكثافة ؟ لعل في النص الثاني ما يدفع عني هذه المغالاة ؛ فقد أسلم الشاعر منذ
البدء نصه الجديد لوطأة حضورها ، حيث يقول :
" تصمت الأرض " و " ما انشق صدر الأرض " (ص21)
و " فلتشهدي يا أرض / أنا ما
أكلنا من مواسم عشبنا غير الفتات " (ص 22)
و "ما اسم الذي لاتشتهيه
الأرض / في عرس الفصول الأربعة " (ص 23)
و" ونواح الأرض من عام لعام
" (ص24)
و شاغبت ملح الأرض..... تأكلني
أفاعي الأرض " (ص 28)
الأرض صامتة ، ومشقوقة الصدر ، وشاهدة ، ومشتهية
، ونائحة ، ومالحة، وحاوية للأفاعي، وفي كل هي الركيزة الأساس للفكرة ، وعمود
الصورة الفنية ، وقد يصل تكريرها بهذه الكيفية إلى حد التزهيد في محمولها الرؤيوي، والركون إلى
بواهتها التعبيرية ، والأمر ـ في نظري ـ ليس إلا التعبير عن وثوق العلاقة بين
الشاعر وبيئته، حتى تكاد المفردة تلتصق بجسده التصاق الثياب على اللحم ، من دونها
يحس عريه الاجتماعي ، وبها يكتسي الانتماء .وبإمكانكم مطالعة أي نص في المجموعات
كلها ليتأكد لكم أنه لا انفصام له عنها ، ولاوجود له دونها .ولولا مخافة الإملال لأدرجت مئات
النماذج تدليلا على هذا المنحى ببعديه
اللفظي والدلالي .
ليس غريبا أن نشهد حضورا مساوقا لمفردات الرجال
والنهر والخيل،والنساء ، والعشب ، والطمي والقمح ، والفأس، والحقول ، والقنوات ،
والسنابل ، والشجر ، ولكن احتمال الغرابة يشخص حين يقابل حضور الأرض حضور الموت ،
والمقابر والجماجم ، والفناء . لكن هذا الاحتمال سرعان مايغادر التحسُّب النقدي؛
إذا ما ارتكنا إلى التكوين الفكري والإرث الثقافي لسكان الريف ، حيث تتجاور
المساكن والمقابر في بعض الأحيان ، وحيث يرسخ المعنى القرآني في التكوين الريفي
لوصف الأرض بين حية وميتة . ( أحيا الأرض
بعد موتها ) (فسقناه إلى بلد ميّت) .. وهكذا .
إن التصاق الشاعر ببيئته الريفية وإرفاعه الأرض
وإسماءها فوق ما سواها في محيطه الكوني ،
هو الجذر الأساس في تشجير الوطنية داخل تربته الفكرية ، ومن ثم فإننا ـ حين نتقدم
قليلا مع توالي الدواوين ، سوف نتوقف أمام أنموذج المحارب المقاتل دفاعا عن الوطن ، في
مواجهة الاحتلال ، لاستعادة الأرض ، والشرف ، المرهون بالقدرة على حمايتها
وصيانتها من أي تغول .
الشاعر الذي آثر أن يقدم ذاته في صورة البطل
التراجيدي ، تتجاذبه المشاعر من أطرافها ؛ وتطوح به بين رضا ،هو إلى العشق أقرب،
بالمزاج الريفي العام ، نساء ورجالا، وحقولا، ونهرا ، وبين الآخر المناوئ و موت
رائحته تهب من الصحارى، وحفار قبور، في كل هو حامل العذابات ، محيلها أقمار اخضرار
وشاهد سنبلة ، راضيا بالنهاية القدرية في يوم يجيء بلا أوان .
الحلم بالآتي، بخلاص قدري ، يكتنفه كثير من
الالتباسات ، وتتداخل تحت سقيفته قوى الثقة والإحباط ، والمروق من تكابيل الموروث
العقدي والاجتماعي ، وتقديسه في آن، ولايعني هذا في تجليات عدة عبر المجموعات كلها
تقريبا أن ثمة خللا في البنية المعرفية للناص، وتناقضا ذاتيا ، لايتيح له القرار ،
لكنه ـ مع ميلي الحاسم لهذا ـ تأكيد لصدق هذه الذات بتلقيها الوجود بعيدا عن
كليشيهات التلقي الشعرية المعهودة، والمستنسخة غالبا من مخزون الكتابة؛ فالنجار
لايكتب إلا ذاته ، ولا يتيح لها فرصة الخلوص من الإرث الخاص لمجرد مشابكة المنثور
العام على صفحات التفاعل الإبداعي مع القرية والمدينة ، وهو ابن للأولى بتراثيتها
النسبية ، مشتبك حتما مع مفردات التحديث
في الثانية .
الشعر يدخل حانة الفقراء / يطلب
سكرة وينام قبل عشائه / أرّقته / ثم استرقت به هواء الأودية . / سميته طفلا ،(
فضمخت )الثياب به/ وطالعت السماءالعالية :
* ثيران مائدتي تطول ..
* خيلي مذهّبة الحدق..
* كل الفراشات استعرن خضاب أهلي
الميتين...
كحلته بصبابة الأنهارفي جريانها/ أشعلته
نارا/ وجمّعتُ البلاد على لقيمات القرى/( طفلي يضج ضجيج منفطر الدماء)/أنا أريق
عليه خمر العائلة/أعطيه ما أعطى أبي لأمي مساء العيد / ثوبا نرتديه قبالة النيران/
ثم تدور دائرة الغناء المشتعل .( ص 24و25)
بابل، الأرض ، والتاريخ، والحضور، متراس الروح
أمام استلابات الحاضر ، والرهان القائم على المقاومة والصمود في وجه التحاريف
والزيوف ، لم تعد على قيامتها في الوعي بكل اشتباكاته مع الروح المنهكة من التطواف
، والقلب الرعوي
سأعب ملح الأرض / أفتح للردى في
قلبي الرعوي دارا / وأعض ثدي الريح / أستلقي على قبر الفصول الأربعة / وأقول :
بابل غير بابل .. أنشق تحت بيارق الصفصاف والجميز / تأكلني أفاعي الأرض / يشرب
مقلتي خفاش أغنيتي/ التي لم تولد " ( ص28)
لم يكن طارئا ـ أبدا ـ ظهور الشاعر عبرنصوصه
الغوارس حضورها الوطني في لحم التجربة كمقاتل منافح ، لا هم له إلا استعادة أرض سلبت
، وصيانة مازال تحت السيطرة من تغاويل الأغراب ، ولعلنا ونحن نستأذن " بارت
" أن يستريح قليلا خارج رؤيتنا للحظة كشف نستطيع الإشارة إلى جانب من معرفتنا
بالمؤلف وسيرته الخاصة، وكيف أنه مارس الاشتباك الفعلي مع القضية الوطنية الأساس، بل والقتال
في أرض معركة امتدت من قبل سنوات الهزيمة العسكرية، إلى ما بعد العبور
العظيم ، مايعني أن التجربة الخاصة لم تكن لتغادر؛ وأن ثمة صدقا واقعيا ومعايشة
يخترقان ما صنعته الآلة التخيلية في كثير من القصائد خصوصا في ديوانه المهم
وبوابته الثانية " الوقوف بامتداد الجسد على قصيدة الساعة الثانية " ومذ وقف على " ميراث الزمن الضائع "
في خروجه من بوابته الأولى ص65 ومابعدها ، وهوبين " وعد " للأرض،"
يا أمنا .. ياصلاة الجميع" واعترافه : هو الإثم ياأرض/ ضيعنا الاشتهاء، لتكون أغنيته المريرة: أدر وجهك /
الشمس تبحث في الأرض / عما وراء العيون" ليستقبل غريب المحيا المنتظر ثم مخاطبا فارس الحب "
حملناك في الأرض تعويذة / من هوانا/ وعدنا مع الليل نبحث في الدار عن معطفك " ... مذ خرج " النجار"
من بوابة تراجيديته الأولى بكل هذه التحرقات ، والنزوف ، والأغاني المشتهاة لامرأة هي الأرض ، ولفارس هو الأب ، ولوطن هو
الوجود،وهو مسكون بحلم تخليص الأرض من أفاعيها ، والنهر من عكوراته ، والقمر ممن
يسدلون عليه أستار الوحشة .
من " تداعيات على النهر " حيث التحريض النفسي للذات من
داخلها عبر استدعاءالأب / التاريخ / الجذور / الوصايا المقدسة ، وحيث يختتمها
بالدعوة إلى إعادة حجر الدارللزاوية ، ومن ثم يكون ابتداء نصه التالي باستطلاعه
الرؤيا باستعادة هذا الحجر،وعبر ثمانية مقاطع، ينتقل من طقوس الاستعداد للمهمة
المقدسة" فألملم أطراف عشقي / الذي يتناثر
في الريح / امشي كقافلة في الهواء " إلى تأكيد العقيدة الرابطة بالسماء ـ مناط القدرالتراجيدي ـ للاستعاذة
بالجذور " دخلت قواميس أهلي/ لأختار مفردة
لشهود العيان "إلى مساءلة التاريخ في
المقطع الرابع :إذا ساءلتك المواسم عني/ فقولي
لها : / لم يجد ثوبه في الخوان/ فشد مطيته ثم راح إلى السوق/ يبتاع مركبة وخيولا/
وبعض الحراب لنا ...إلى أن يختتم في المقطع
الثامن بسؤال عن ملاءمة الآن ليقص سيرة
الأرض" ياقارعات المزاهر / هل آن لي أنأقص عليكن/ سيرة أرضي/ ( ولنلاحظ ياء النسب والملكية ) التي خاطب الله / فيها جنود السماء ؟
لم يكن استطلاعه الرؤيا سوى موقف الصوفي العاشق والحياة
تخلع أثواب غيبها أمام عينيه ، لكنه لايريد أن يكشف لحم معشوقته للغرباء ، وليس عليه
إلا أن يستبدل بعرفانه معرفة ، " فبدلت
ثوبي بمعرفة / وخطوت إلى اول الريح" ص89
كان عليه أن يعلن الغضب من وطن النوم ، وأن يمزّع
أرديته ، ويطيّر الجسد يمشّط ذاكرة الأرض التي ستجاوز أسماءها ثم تصير نفيرا .
قصائد عدة مهدت لقصيدته العلامة ، " تراجيديا
الساعة الثانية " ولعل الإشارة الزمنية في العنوان كافية للإحالة إلى مشهد العبور
العظيم، يوم أخرجت الأرض أثقالها ، الأرض التي ليس للشاعر كما يتأكد لأي عابر بين نصوصه
أنها ليست مساحة مأطورة من جغرافية ، وليست قطعة من ذاكرة وتاريخ ، بل هي كينونته الأولى
، وهي فوق أنها وعاؤه الفيزيقي ، هي معاريجه
نحو اللا مدرك الكوني ، واللا مأطور الروحي .
" رأيت الأرض من ثقب الفضا تلتم
/ ثم تنام فوق سريرها مقطوعة الأنفاس / إن حبيبتي تمضي إلى العشاق عارية / فأطرح فوقها
جسدي ـ أجير العشق "
ـ " يافرسي الذي بايعتني قبل
الأوان / أنا وريث الأرض ،/ صوتي مضغة الخيل / المسافة / هل رأت عيني جوادا من لهب
؟ "
أعفانا الشاعر من تمهيد لازم للدخول إلى قصيدة لم
تجنح إلى التسجيلية رغم أنها تتناول حدثا واقعيا ، شهده بحضوره الذاتي وسط أقرانه ،
وشهدنا عليه ارتكانا إلى بيانات المتحدث العسكري ، و متابعة الإعلام مرئيه ومقروئه
، ومسموعه، وسجل في عبارة واضحة أنها
" قصيدة كتبت بالدم "
إن التوقف النقدي عند هذه القصيدة تحديدا ليس مجرد
ضرورة لاستكناه الموقف الأيديولوجي للشاعر ، ورؤيته لعلاقات الفرد والمجموع ، و الأنا
والآخر ، والأنا والنحن ، لكنه كاشف لأهم ما واجهه البطل التراجيدي الذي ما إن يغلق
أو تغلق بوابة على محنته حتى تنفتح أخرى لتضعه أمام مصيره القدري الذي لافكاك منه
. ولم يكن الشاعر متنبئا بالمشهد العظيم يوم الحشر الوطني ، بل كان مستطلعا رؤى، وأهلة
، بحكم قراءته للواقع الذي عايشه ـ وعذرا مرة أخرى لـ "بارت" ـ كونه، أي " النجار " كان أحد ضباط القوات المسلحة المصرية ، إبان حربي
الاستنزاف وأكتوبر المجيدتين .
" هاهي الأرض استباحت عريها
/ والشمس ناموس الذكورة : / تطلعين معي سلما ، درجات الصعود إلى / حربة الشمس، هذا
دم في القلوب / وهذي كتابة أسمائنا / في جريد المراسم ./ حلت قراءات البلاد / فأكلت
خبز عشيرتي نارا / وأطلقت الرياح على سهول القلب / هذا اليوم مشهود/ وصيف حبيبتي غُسل
الدماء :
ـ أما رأيتِ ...؟ / ـ أنا
رأيت الله يضحك ضحكة / ويسير بين كتائب الأنصار "
( كانت تمام الثانية / النسر مسح ريشه في الماء /
حط على غلال الأرض/ فرطها / وجر وراءه ثور انتصار الريح / ثم تقصد الرؤيا وباض على
قصيدة . " ) (ص 102و 103)
هو الشاعرالذي لديه ماليس للبيان الحكومي ،
بعيدا عن الصورة الرسمية ، هو عديل أبجدية الروح، وسمي الأرض ،هوالكاتب في اللحم ،
قافية الحمحمة ؛ تلك التي سيرسل على ورقها ثلاث برقيات إلى ثلاث ركائز في تكوينه الاجتماعي
وكينونته الأولى ، ومآلات روحه القافزة من محنة الاشتباك مع واقع بيئي في بابل
المهد و المعراج ومواطنيها ، شركاء الحب
والجرح ، إلى صورة الشاعرالفارس في مخزونه
الثقافي ، وجدل الذات الذات ، والوطن الأم مصر التي لها كل الفصول، وبيديها وحدها
خرائط المواسم .
" ألقت ثديها الأم الرءوم /
فاعتصرنا لحمها فينا / وزاولنا احتطاب الشعر/ ألقت سرها فينا / فلم نبرح قراءات
الفصول :/ أقبل الجند من الزاوية النار إلى كل الزوايا/ خوّضتْ اقدامهم في الماء/
حين استحلبوا الرؤيا/ فألقوا ماسة النهر/ على صدر السهول/ إنهم جندكِ /ساروافي
دروب المملكة / فامنحيهم شارة الوصل، فقد آن الأوان/ واذكريهم في الليالي الحالكة
/ قبلما يخطبك الصبح ، وتمضين إلى مقصورة العرس/ بحناء الزمان ".
بابل ،
لم تكن لدى الشاعر قطعة من الأرض، لكنها
المعادل الموضوعي للفكرة الإنسانية كلها ،
وبها الاستجارة والاستعاذة ، وعليها الاتكاء ، ومن ثم فإن حضورها في قصيدة
الحرب هذه ليس إلا قيامة الذات وانتصابها
في مواجهة لم يكن متاحا أمام من أسكنتهم الأرض ارتعاش الطمي فيها ،التخلي عنها أو
التراخي في الاستجابة غير الميكانيكية قطعا
للدعوة القدرية فيها .خطابها المحسوم لمواطنيه: إن يابل لاترى
في الشمس / غير حصانها الطيني/ تعقله../ وتمشي بيننا أنثى المسافة "
التماهيد والتقدمات ، في البوابة الثانية ،
كواشف ومعريات لمرتكزات الخطاب الشعري لدى النجار ، وتآكيد على أن الانتماء
الأسطوري للأرض ، كما كشفت قصائد البوابة الأولى ، سيكون المحور ، والمدار ، وأن
أية ممحاولة للترصد التتبعي لتجليات هذا
الانتماء واقعة حتما في عجز الإحاطة ، ويكفي من العشق لمح
طرف، فما بالنا وجسد النصوص كلها صارخ
مولّه .
خمسة مقاطع هي ماتكونت منها قصيدة" تراجيدياالساعة الثانية بعد الظهر " بدءا من القراءة في فصل الطوطم ثم غنائية التعميد ، ثم فصل في مديح الجسد ،
يليه استطرادان قبل أن يختتمها بآخر الأناشيد ،وهي ليست قصيدة تسجيلية بأية حال ،
رغم ماتضمنته من إحالات تقريرية وشبيهة بالأخبار الرسمية عن المناشير القتالية رقم
1 و2 و3، فقد جافت متون المقاطع عناوينها ، لغة وإيحاء ، وإن كانت امتزجت معها
موقفا وقضية ، وأفلح النجار ببراعة من اختزن شهد الأرض في عروقه حتى في أوقات
المرارة في تخليص النص الطويل من أعباء التقرير،والخبرية الزاعقة ، تعبيريا ، رغم
الزعيق الواقعي في الحدث وانعكاساته على الشاعر والمتلقين على السواء .
ولم ينس مطلقا أنه شاعر ، ولعل في البرقية
الثانية من ثلاث برقيات على ورق الحمحمة
ما يؤكد هذا ، وحتى في لحظات القتال
والمواجهة العسكرية، يترقب الأشعار" أنا اترقب الأشعار"....فارتحلت على عشب
القوافي" ثم تقصد الرؤيا وباض على قصيدة :
هذي السحابة لم تعد شمس الوطن/
هذي السحابة شارفت حد الزوال/
فاضرب علينا خيمة العشق الخطر /
واشهد ولائم عرسنا يوم النزال :
" ص 103
وتتبع مفردات الشعر والقصيدة والغناء في هذا
النص ، كفيل بتأكيد هذا الحضور الشعري في لحظات القتال بالسلاح والنار ، وأن وعي
الشاعر أو لاوعيه لاينفصمان في التسليم بأهمية هذا الحضور في مواسم الهزيمة
والانتصار على السواء .
الدوال المركزية في البوابات كما أشرنا يمكن
حصرها في مفردات معدودة ؛ فيما لايمكن مع هذه المعدودية الوقوف على تجليات كل منها
داخل المجموعات الشعرية، وهي تمثل مرتكزات الخطاب ، وبؤرالاشتباكات الوجدانية
والفكرية مع المحيط البيئي الريفي ، والمدني ( المديني ) في آن ، فضلا عن المجال
المعرفي والأيديولوجي والانحيازات الاجتماعية والسياسية للشاعر المقاتل أو المقاتل
الشاعر؛ فلم أفلح ـ حقيقة في تغليب تقديم أي منهما على الآخر، خصوصا في البوابات
الأولى .
المرأة ليست مجرد الجسد الأنثوي ، وليست وعاء
الخصب ، و مناط الشهوة ، برغم بعض الإيروتيكية في عدد من النصوص لا مجال للتوقف
عندها الآن، إلا أن المرأة لدى "النجار" ، وبكثر من الاطمئنان، هي الأرض
المقدسة ، فيما كانت الأرض هي عشقه وأنثاه التي لايكف عن مغازلتها واحتضانها في كل الفصول ، وتعريتها في لحظات الحمحمة، وستر عريها عن الغرباء بكل
مالديه من موروث اختبر حربته ، وبكل ما يطمح إليه من تحديث أدرك ضرورته .
وكان طبعيا
أن تتجاور مفردات المرأة والنهر والطين ، والفصول والمواسم والخصب ، والثدي
والفخذين، والضفائر والجسد والاشتهاء والتناسل (
أعد بدراسة مطولة معمقة عن المرأة في شعر النجار)
قد يرى بعض من يتعجلون قراءة الخطاب الشعري في
المجلدات أن صاحبها محكور الرؤية في الواقع الريفي ، وأنه سجين زمكانية تؤطر حركته
على رقعتي البيئة في معاصرته لها ، ومن ثم فإن قطيعة لابد قائمة بينه وبين ماض لم
يتنكر له صراحة في النصوص ، لكن هذه الرؤية المتعجلة تجافي الحقيقة التي تجليها
تمهلات أمام موضوعات القصائد ، وكيف أن الشاعر حريص على تحقيق اتصاله بالأجداد
الأوائل من الشعراء والفلاسفة والمتصوفة ، بل وتمتد اشتباكاته مع الثقافة
الإنسانية بتجلياتها المتعددة شرق وغربا ، معاصرة و ماضوية . وأنه دائم الترحل بين
البيئات التاريخية المختلفة ، فنراه وقد اشتبك مع امرئ القيس الملك الضليل في
ديوان كامل وهو أسفار الملك الضليل، متخذا من الملك الشاعر قناعا تاريخيا ، وفق
الآلية الكتابية المعهودة، ويكتب أربع سفرات ، فيها ترحلات "النجار"
المستجيرة ، بحثا عن مملكة ضائعة .
وكذا يحضر عنترة بن شداد ، وابن عربي ، وأبو بكر الطرطوشي ، زيد بن عمرو،
وحاتم الطائي ، وسليمان الحلبي ، وبدر شاكر السياب، وجواد الحطاب ، وسعاد الصباح ، ومحمد عفيفي مطر ، وسعدي يوسف، جون
كيتس، حابي وإيزيس وغيرهم كثيرون ... مايعنينا أن الشاعر ليس أسير
عصر، ولا سجين محيط بيئي ، رغم التصاقه الحميم بقريته بابل، التي اختزل فيها
الوجود الإنساني كله، ورآها في كثير من مجالي تجربته الوجدانية والفكرية مركز
الكون .
"حسن النجار" شاعر مسكون بالإنشاد
كأجداده، مفتون بالغناء ، بالموسيقا ، التي تشيع مفرداتها في فضاءات المجموعات كلها
، بدوال واضحة، وظلال ممتدة، ويكفي أن تقف أمام بوابته الأولى لتكتشف افتتاحه
مجلده الشعري بالنشيد الريفي ، ثم أغنيات المدخل، ثم أغنيات الوحشة ، وأغنية حب
ليلية ، الأغنية المريرة ، غنائية التعميد
، آخر الأناشيد ، عزف منفرد ، أغنية الحربة القاتلة، النشيد، الغناء في أقاليم
يارا، إيقاع ، نشيد الأنشاد الذي لي، معزوفة منتصف الليل ، كونشرتومنتصف الليل ،
نهاوند ، نشيد الغراب ، ترنيمة لإيزيس، موسيقي.. وهكذا .. افتتان بالغناء والإنشاد
والموسيقا والنغم ، وكأن ذلك كله ـ طريقه لتحقيق الاتزان النفسي إزاء إيقاعات
الحياة بكل مافيها من معادلات الوخز و التربيت على الأرواح المنهكة بفعل الزحام
الكوني في عقل الشاعر .
المعمار النصي عند النجار ، يكاد تتشابه ركائزه
في كل المجموعات ، لايخرج عنها إلا النزر اليسير ، وتلعب الدرامية الدور الرئيس
على مسرح هذا المعمار حيث تتداخل الأصوات وتتعدد الذوات، ويتصاعد الحدث ، وتتنامى
الرؤية في النص دون أن تحس بأن هناك دخولا أوخروجا من المشهد المشحون بغنائة عالية
يعكسها ولع الشاعر / قرينه أو قناعه / أوحتى خصمه التاريخي بالنغم كما أشرت منذ قليل.
والتراكيب النحوية لا تستبيح مطلقا كسرا لقاعدة أو تمزيقا لعلاقة
المألوفية التركيبية ؛ فهذابمعنى آخر أن الانزياحات في هذا المنحى البنيوي ليست من
مرادات الشاعر ، فهو مهموم بالقضية ، بالمعنى ، لا بالمبنى ، الذي لا شك في
سلامته، لكنه ليس مقصدا أو مستهدفا ، فشعراء القضايا ، ومنهم فارس الأرض، الشاعر
المقاتل هنا ، لايعنيه غير أن تصل الرسالة ، قد يستعير أحيانا عقل الفيلسوف ، أو
يرتدى خرقة الصوفي ، لكنه في كل لايتخلى أبدا عن ثوب المقاتل ، وهو في حالة دفاع
مستمرة عن الرض ، حتى في مواسم الهجرة إلى المرأة بشبقيات المواسم المختلفة .
يؤدي التكرير الصوتي في استخدام متعدد لكلمات
بعينها تدور في النص الواحد عشرات المرات ، إلى الإلحاح على فكرة معينة ورؤية خاصة
لاينفك عنها ، فضلا عن إعلاء الموسيقية الغنائية التي تمنح الدرامية العالية في
النصوص بوخزاتها العقلية والفكرية الجافة
بعض الترطيب الوجداني .
كلية تصويرية ، هي ما تنطق بها كل النصوص،
والشاعر لايهتم كثيرا بالبيان التخييلي الجزئي التفسيري، في إطار هذه الكليه ولكن
تغلب تقليدية بناء الصور الجزئية من اعتماد التضايف ، والإنعات ، كما هو معهود في
مكرور التصوير الشعري العام، لكن الطزاجة والمفارقة صاحبة سيادة على الموقف الشعري
كله في كل الدواوين تقريبا .
سرود شعرية ، تقرب بعض القصائد ـ خصوصا الطوال
منها ـ من البناء الروائي، وتدفع باتجاه درامية القصيدة وهي أبرز مافي المجموعات
من سمات بنائية ، رغم غنائية الفكرة الملتفة كثيرا على محور الذات الشاعرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق