2010/10/02

الصيغة التوليدية للمفردة الزخرفية الحفصية وأبعادها الجمالية في جامع الزيتونة بتونس

الصيغة التوليدية للمفردة الزخرفية الحفصية وأبعادها الجمالية في جامع الزيتونة بتونس
د. طه الليل
(باحث تونسي في الفنون التشكيلية الزخرفية الاسلامية )
يقع جامع الزيتونة وسط مدينة تونس العتيقة عند تقاطع محورين رئيسيين:
- المحورالأول هو شرقي غربي يمر من سوق الترك ،ثم سوق العطارين فنهج جامع الزيتونة ،وينتهي أمام باب البحر.
- أما المحورالثاني فيمر بين باب السويقة وباب الجديد،مرورا بنهج سيدي بن عروس ونهج تربة الباي.
وما يدعم هذا القول بتموقع جامع الزيتونة، داخل المدينة الحفصية هو قول برنشفيك:".....وأقيم داخل أسوارها وسط موقعها الممتاز، جامعها الأعظم بالقرب من رفات القديسة "أوليف"حسب رواية مسيحية راسخة..."
وقد أولى الحفصيون عناية فائقة بجامع الزيتونة ،نظرا لمكانته الدينية والاجتماعية في المدينة ذاتها ،حيث حضي بتجديدات وأعمال هامة في ذلك العهد .
ومن أهم هذه الانجازات ما قام به الواثق بن المستنصرسنة676 ه/1277 م من أعمال تجديد وإصلاح كما ذكر ذلك"م.الزركشي"في كتابه تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية:"...وقد قام الواثق بنفسه بأعمال مماثلة في جوامع أخرى بمدينة تونس، ويبدو أنه هو الذي منحنا الجامع الشرقي للزيتونة المسمى "بباب صحن الجنائز".ويحتمل أن هذه التسمية ناتجة عن أن بعض رجال الدين لا يبيحون إدخال الموتى إلى الجوامع، فقبلوا عند اللزوم أن يخصص جناح من جامع الزيتونة غير بيت الصلاة للقيام بهذا العمل".
بالإضافة إلى إعادة بناء مجموعة من المعالم الأخرى بداخل الجامع الأعظم ذاته ،ومنها سقف بيت الصلاة مع تشييد أبواب خشبية لها سنة716 ه/1316 م،بأمر من الأمير الحفصي أبي يحي زكرياء اللحيانيً711ه/1311ميلاديا.
وتوجد هذه الأعمال مؤرخة بنقيشة فوق مدخل الباب الرئيسي،كما يذكر صاحب تاريخ الدولتين م. الزركشي قائلا:"وفي عام ستة عشر وسبعمائة أمر السلطان أبو يحي زكرياء بعمل أبواب من خشب وعوارض منه لبيت الصلاة بجامع الزيتونة،فعملت على ما هي عليه اليوم في شهر رمضان من العام المذكور وكتب تاريخ ذلك في قنبجة باب البهور."
ومن بين أهم الأعمال التي قام بها الحفصيون هي إعادة بناء السقاية الشرقية سنة 841 ه/1437 م ،من قبل أبو عمرو عثمان (839-893 ه/1435-1488 م) فقد أمر بتوسيع مقصورة محرز لاحتضان المكتبة ،وهو عمل مؤرخ بنقيشة خشبية فوق الباب أيضا ،كما وضع بعض التحويرات في واجهة المحراب.
لئن انتقلنا من الحركة داخل الشكل المفرد ذاته فان هذه الحركة ليست وليدة صدفة تجاور هذه المفردات، وليست بصرية بقدر ما هي مادية, فهي في حين تعبر عن الحركة الظاهرة للشكل وللفضاء، فهي في الآن ذاته تعبر عن باطن الشكل المتحرك ذاته وماهية المفردة.
ولكن هذه الحركة لا يمكن لها أن تستقيم إذا كان الشكل مفرديا داخل البناء, أي إن كان موجودا بمفرده داخل مساحة كبيرة، لا يمكنه أن يولد حركة بصرية سريعة مثلما هو موجود في الزخرفة الإسلامية وإنما ما تولده تعاقب وتتالي المفردات هو المحدث للحركة من خلال صيغتها التوليدية, فمجموعة النقاط المتتالية داخل الفضاء يكون الخط, الذي بدوره في تتاليه وتعرجه من حيث المسار يولد الشكل المفرد ذي الطابع الهندسي المقنن.
وبمفعول تواجد هذه المفردة فان عملية التواصل بين الشكل المفرد والآخر، من خلال الخطوط المتواصلة في زوايا الشكل ذاته، تساهم في توليد عناصر تركيبية أخرى تدعم مسار الأشكال وبنائها الإيقاعي المتتالي مكونة بذلك وحدة بين الأجزاء الصغيرة المتكونة من الأشكال أيضا, وتلك الوحدة المعتمدة تمثل شكلا كبيرا منصهرا مع ذلك التفرد الذي تمتاز به المفردة التشكيلية.
وبالتالي تكون هذه الشبكات المفردية متعددة ومتنوعة يعتمل فيها مجموع الأشكال المحركة لهذه الشبكات سوى كانت هذه الأشكال بسيطة أو مركبة, فإعادة تكرار نفس العنصر المفردي في نفس التركيبة لا يعني بالضرورة انتظام هذه الأخيرة رغم أنه حامل لنفس الشكل الخطي, والحجمي.
ولكن هذه الصيغة التوليدية للمفردة يزداد تدعمها من خلال دخول عنصر تشكيلي آخر سيساهم في ترسيخ هذه الصفة التي يمتاز بها والمتمثل في اللون الذي يقتضي نسيجه داخل الحيز البنائي الزخرفي توليد نغمات بصرية ذات نظم مختلفة من إيقاعات بسيطة أفقية وعمودية ومائلة, وإيقاعات مركبة ذات اتجاهات ومسارات مختلفة يتداخل فيها اللون والشكل محدثا ازدواجية في القراءة البصرية للوحدة ككل.
وفي نفس الحين تولد هذه الأشكال المفردية تنسيق ذات مفردات أخرى, فالمثلث كمفردة أولية يتحول بفعل تجاور مثلث آخر بجانبه إلى معين أو سداسي الأضلاع, وتولد التركيبات مثلها مثل الأشكال الهندسية المفردة.
وهكذا تبرز المفردة التشكيلية كوحدة متحولة قابلة للتعدد، في تشكيل هذه الشبكة من العلاقات الهندسية اللونية، متكونة من شكل ثابت ولون غير ثابت, فالشبكة الخطية ليست إلا هيكلا بنائيا يساهم في تدعيم عملية التوليد الذي تمتاز بها الزخرفة الهندسية, وتشابك اللون المحدث داخل الأشكال يساهم في توليد الإيقاع من خلال تقارب الدرجات اللونية وتجاوز الفويرقات اللونية مما يحدث توالد مفردات جديدة قابلة لبناء تكوين تركيبي هندسي جديد.
ومن هنا تتحدد الصيغة التوليدية للمفردة التشكيلية التي تبنى من خلالها إمكانات نشوء علاقات لا متناهية بين الوحدات الهندسية التشكيلية, المشكلة بفعل الحقل التواصلي بين الخط واللون والشكل. مما يجعل هذه العلاقة هي المحدثة للأشكال كما أن هذه الأشكال هي المولدة للعلاقة الجدلية الكامنة بين الجزء والكل, والشكل الواحد داخل المفردة.
وتتمثل هذه المفردات الزخرفية االهندسية في تحديد لمفهومها كوحدة مؤسسة لشبكة خطية كلية من الأطباق النجمية، تستمد نهجها التشكيلي من مقومات التعابير البصرية ويعبر عنها نور الدين الهاني قائلا: " عند تركيب هذه العلامات البسيطة... وفي بساطتها سحر... تكون اللذة الكونية... (خطان أو ثلاث قادرة على تكوين أشكال مختلفة ومتعددة) ".
وفي هذا التحليل البنائي للمفردة الزخرفية بكونها شكل هندسي قائم على خطوط تقوم بوظيفة توليدية من خلال اجتماعها داخل حيز معين, مكونة بذلك أشكال متعددة البناء والتكوين ويربط هذا البناء باللذة النابعة من الجوهر الذي يتماهى فيه الفكر الإنساني الذي يربط علاقة بالفعل.
لئن اعتبر الإنسان ذلك الخليط المنصهر في ذاته بين ما هو مادي وما هو روحي فلا يمكن استقلالية الأول على الثاني. فان الفنان بدوره هو هذه العلاقة الجدلية القائمة بين هذين القطبين من مكوناته الأساسية, كذلك العمل الفني باعتباره اللغة المقسمة إلى دال ومدلول فهو بذلك الشيء وصورته أي الفكرة والمادة, الفكرة المتولدة من كينونة الفنان والمادة المعتمدة لتجسيد هذه الفكرة.
ونجد لهذه العلاقة وجودا أساسيا في ربط الفنان بواقعه الروحي والمادي المتمثل في جذوره وانتمائه إلى مكان معين، يعيده من خلال الذاكرة إلى الحيز المكاني والفكري الذي يربط له علاقة أكيدة ويدعو حضوره الفني والوجداني داخل العمل الفني، ومن ذلك تتحدد العلاقة الجدلية الكامنة بين ذاتية الفنان وجذوره الجمالية إن صح التعبير، فلكل نطاق جمالي موجود به أبعاده الفكرية والفلسفية كذلك ينطبق نفس الشيء على الزخرفة الهندسية بأبواب جامع الزيتونة الذي تتحدد معالمها وفق أسس فكرية وأسباب دينية تتمحور حولها في تكوين دعائمها الأسلوبية منها والتقنية.
إن في ارتباط الواقع المادي للفنان المسلم عموما والحفصي خصوصا في فترة زمنية معينة بواقعه الروحي والوجداني الذي يعتبر المحرك لكل ما هو مادي، والمؤسس والمشرع لوجود البعد الجمالي في الفن الإسلامي في حد ذاته ومن ذلك تكون هذه العلاقة بين المادي والروحي هي المؤسس لهذه العملية الفنية, والمشرعة لهذا الحيز الجمالي الذي يشرع فيه للفنان إلى العمل وفق أطر معينة وحدود معقلنة.
فتتحدد بذلك الأسس الفكرية لقيام هذا الفن على أنه قائم بالأساس على التصعيد, إذ أنه قام على قيم روحية سامية في تشكيليته وبنائه, بعيدا عن القيم المادية والطبيعية.
لقد قام هذا النموذج من الزخارف على الشكل الهندسي المفرد والمتكرر بالدرجة الأولى, ولكن هذا الشكل لم يكن بدون مضمون, فلقد اتحد وجوده مع العقيدة والأخلاق والمثل جميعها, فهو فن قائم على الزمن, ولا يمكن اعتباره قائما على شكل محظ, على حد عبارة "عفيف بهنسي", في كتابه الفن العربي الحديث بين الهوية والتبعية, فهو إن كان نمطيا وإيقاعيا,فليس معنى ذلك أنه كان آليا, بل هو تعبير على مضمون كان له أسسه الفكرية والروحية التي جعلت الفنان يعتمد في صيغه الأحادية, المكونة للوحدة من خلال الجزئية المرتبطة بجميع مراحل تطور التاريخ العربي. "ولهذا فان المضمون الجمالي العربي ليس مضمونا موضوعيا بل هو بالأساس ذو طابع وجداني روحي" .
فالإبداع الجمالي في المفهوم العربي هو ذلك النشاط الذي يتطلب المعرفة والمقدرة أي الفكرة والتقنية المعتمدة، وهو لا يعني خلق شيء من العدم, فهو ليس خالقا بالمنظور الديني على اعتبار أنه لا يضاهي قدرة الخالق.
ومن خلال رؤية الفلاسفة العرب مثل أبو حيان التوحيدي الذي طرح مسألة الإبداع والتذوق واعتبر بذلك أن العمل الفني عمل إنساني يتطلب المهارة وليس العمل, وأن اليد تتبع النفس الملهمة. ولا تتبع العقل الذي يبحث في الأمور النافعة والضارة, أو في أمور المنطق الذي يستخلص نتائج العقل.
وفي مجال التذوق الفني يرى أيضا أن المتذوق يتطلب شروطا مشابهة لشروط الإبداع الفني, والمحلل لهذا العمل الفني يحتاج إلى قوة إبداعية تساعد على إرساء الحكم الصحيح, و نوع من الاعتدال بين المزج والأعضاء والشكل واللون والحس, ويقول في ذلك: " إن التذوق الفني هو اتحاد النفس بأثر النفس ".
ويعود إلى الوازع الديني الذي تتحدد أطره وفق ما اعتمده الزخرفي الحفصي من أسلوب تعدد الأشكال الهندسية التي لا يجب أن تشهد طابع الانغلاق استنادا إلى النظرية الكونية الذرية عند الأشاعرة على اعتبار أن العالم مكون من ذرات تتجمع وتتفرق وفق مشيئة الله, وما ذهب إليه المعتزلة في تحديد أسلوب الشريط الهندسي، على اعتبارها الوحدة التي يستقل بها الخالق، وعلى أساس منع مسألة الجزء الذي لا يتجزأ بربطها بالمادة من أن تحمل في ذاتها أسباب كينونتها والتي تتطلب التدخل المستمر لله ومن ذلك فكرة استمرارية الخلق.
ومن هنا تتحدد الرؤية الجمالية للفن الإسلامي وبالتحديد الزخرفة الهندسية الحفصية على اعتمادها على مفردات هندسية بصيغتها التوليدية، ضمن شريط تواصلي، ممتد لا متناه مفتوح ومتحرك في آن واحد وهذا ما يدعمه "علي اللواتي" في كتاب المفردة في الفنون التشكيلية قائلا: " وهكذا يمكن القول أن الحيز الجمالي يؤدي من خلال الأشكال المفتوحة وغير القارة إلى الإيحاء بفكرة الإبداع الإلهي المستمر ذاتها, وكذلك, إلى تغطية الأشكال المادية بلغة تنشر في كل مكان موضوعات واحدة وصيغ أساسية واحدة."
ويدعو ذلك باعتباره الزخرفة الهندسية نشيدا كونيا " هو إيقاع التسبيح ذاته مكرر إلى الأبد ذكر الله القادر."
ومن هنا تتحدد الجمالية الحفصية من حيث منظورها الديني والفكري ولا يكون الفعل الإنساني فيها محاولة إلى السيطرة على المادة واعتبارها كموضوع وإنما يعتبر المادي عرضا زائلا وحتى إن ولج إلى هذه الجزئيات فانه يفعل ذلك بغية تحديد العالم المادي وفق القدرة الإلهية ذاتها .
وتتولد من خلال هذه النظرة الروحانية للعالم الحسي أسس لا تقوم على نقل الأشياء كما هي بدقة متناهية، وإنما هو سعي إلى الإخفاء من خلال تجنب الدقة في التمثيل، بل تسعى إلى توظيفها في بناء إيقونوغرافي نموذجي، تحاول به التعبير عن حقائق مطلقة أو أحداث روائية، عن طريق التلميح والرمز دون الاهتمام بالأحداث والأشياء كما توجد فعلا في الواقع.
ومن ثم تتحدد الرؤية الجدلية بين الواقع واللاواقع، بين الحقيقة والإيحاء وبين الشكل الذي يتعدى مستوى الجزء في بنائه إلى الكل الذي لا يتجزأ. والرمز الذي لا يعبر عن المفهوم بصفة دقيقة وإنما هو ناقص ينفي صفة الكمال التي لا يمكن أن تسبغ إلا على الخالق, الذي يعبر عنه "بابا دوبولو" في كتابة جمالية الرسم الإسلامي " بجمالية الغموض" أين تكون الصورة بمقتضاه في منزلة بين منزلتي العالم الواقعي والعالم الهندسي المجرد، وهي بذلك تعبير عن العلاقة الجدلية القائمة بين الضمير الإسلامي والواقع، وبين الشكل الظاهر والمضمون الباطن، وتستمر هذه العلاقة الازدواجية بين لغة العشق الأرضي والعشق الإلهي في المنظور الصوفي مترجمة العلاقة بين ما هو مادي وروحي في آن واحد.
وتتجذر هذه العلاقة تاريخيا بين الرسم والحياة الفكرية والروحية الإسلامية بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر تأثرا بالمذاهب والتيارات الإسلامية المختلفة، والتي ساهمت في ترتيب العناصر الأسلوبية للمنمنمات والزخرفة الإسلامية لما في هذه المذاهب.
ومن خلال هذه التيارات الفكرية المتعددة التي مارست وجودها على الفنان المسلم والزخرفي الحفصي وعلى العمل الفني الذي استحال ذا بعد باطني ثري بالرموز والإيحاءات الصوفية والذي يساهم في التعبير عن الأبعاد الفكرية الغارقة في الروحانيات، بفضل امتلاكه لخصائص تعبيرية تصور بالخطوط والأشكال، أحوال النفس في بحثها عن حقيقة الله والكون والوجود.

المراجع والمصادر

 ر.برنشفيك :تاريخ افريقية في العهد الحفصي،ج1،دارالغرب الاسلامي بيروت 1988 ص.371.
 م.الزركشي:تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية.تونس 1988.ص.63 .
 نور الدين الهاني: المفردة في الفنون التشكيلية. ص 52.
 عفيف بهنسي : الفن العربي الحديث بين الهوية والتبعية، ص 17.
 - عفيف بهنسي عن أو بوحيان التوحيدي : الفن العربي الحديث بين الهوية والتبعية. ص 17.
 الأشاعرة: هم أصحاب ابن الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري المنتسب إلى أبي موسى الأشعري، تزامنت فترة وجودها مع المعتزلة.
 المعتزلة: ظهرت مع واصل إبن عطاء 110 هـ وهي فرقة كلامية قسمت إلى عشرون فرقة منها الواصلية والناظمية والعمرية وغيرها ويلقبون بالقدرية وظهرت في الدولة العباسية.
 علي اللواتي: المفردة في الفنون التشكيلية (الأسس الفكرية للحيز الجمالي الإسلامي).
 علي اللواتي: المفردة في الفنون التشكيلية (الأسس الفكرية للحيز الجمالي الإسلامي).
 ألكسندر بابا دوبولو : جمالية الرسم الإسلامي،ترجمة علي اللواتي،نشر،مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله،تونس 1972 ،ص 48.

ليست هناك تعليقات: