جَورَّبْ
مِعَفِّنْ
هشام جلال أبوسعدة
هالني ما
سمِعت، بل أُصبت بذعرٍ جرّاء ما سمِعت يومًا عن أن سعة طرقات مدينتي الحضرية
الاستيعابية للسيارات هي نصف مليون سيارة وأن العدد الفعلي السائر في شوارعها يصل
إلى اثنين ونصف مليون سيارة، أيّ خمسة أضعاف المفترض أن تكون عليه. ليفيد خبراء
هيئة التعاون الدولية اليابانية (جايكا) JAICA بأنه لو استمر الحال في التنامي في عدد
السيارات فإنه في العام (2020م) ستصطف السيارات في الطرقات بلا حراك. حَتَّى ذلك
التاريخ ستظل هناك مؤتمرات تعقد لمناقشة مشكلات مدينتي الحضرية الحضارية الكُبرى،
إنما سيكون تركيز اللجنة العلمية على آخر ما توصل إليه العالم المتمدين في حل
مشكلاته هو وليس مُشكلاتنا نحن، لأنه علينا أن ننقل عنه آخر
ما توصل إليه علماؤه هو، لحَتَّى نكون متحضرين، نتكلم لغتهم، نحل مُشكلاتهم،
ولحَتَّى تُصبح الورقة العلمية علمية فسيهل علينا العام (2020م) ونحن ما بتنا نلهث
في تيهنا وعجبنا ووقتها سنعلم ماذا أحدثنا بغينا في طرقاتنا ومدائننا؟
المشهد الأول-
الطريق العام
شِتاء يوم نهايةِ العام الميلادي (2020م) امتلئت طرقات المدينة الحضرية
بالسيارات من كُلِّ نوعٍ وفئة وشكل وحجم. زحامٌ خانق، تقف السيارات في الطرقات
بالأيام والليالي، دون حركة البتة. أشادت تقارير الحكومة الذكية الرسمية بما يفعله
مسؤولي الحركة والانتقال في المدينة الحضرية من جهد، مدينة تحولت بغتة في غيبة
لريفية، فعلى الرُغم من التقارير الدولية التي أشارت منذ أكثر من عشرِ سنوات إلى
أنه في غضون سنوات قليلة ستصل سرعة تحرك السيارات في الطريق العام إلى أقل من
عشرين كيلو مترًا في الساعة لم يتحرك أحد لحل مُشكلة التكدس والزيادة السكانية
والنزوح الجماعي من المناطق المُتاخمة للمدائن الحضرية الحضارية الكُبرى. كالعادة
لم يهتم أحد لا بالتقارير ولا بما هو حادث بالفعل في الطريق العام، فالحكومة تعرف
تمامًا أن هذا الشعب ليس له حول ولا قوة، لا يستأهل حَتَّى أن يحكموه هم. شهدت
المرحلة التاريخية الفائتة أكبر جريمة غيرَّ منظمة للاستيلاء على أراضي الدولة،
دخل على إثرِها كِبار قادة الدولة والساسة والمنظرون وعتاة القانون تفصيل السجون
لسنوات. إنما بان أن النظام كان يتكون من طبقات، كلا ليس أربع طبقات واستك مثل
بامبرز الأطفال، إنما زادت طبقات النظام، فكنت كُلما أزلت طبقة ظهرت طبقات ترغب في
الميغة، فحُلِبّت البقرة، لتأتي بعدها طبقات تالية لِحّلبِ ما تبقى.
***
نهار داخلي، قبل طلوع الفجر بساعة، ظلمة كالحة، غرفة نوم صابر حيران، إضاءة
خافتة، ظلالٌ بشريةٍ مُتحركة، صوت صرير حاد يبدو لسلاسل معدنية مُجنزرة متحركة في
تتابع، أصوات المعدن في هدوء الليل تُحدث ضجيجًا عاليًا لا يُمكن تجاهله، لا يُمكن
تحمله، صداع وآلام أذن، دوخة وتوهان، تتعالى معه أصوات سباب آتية من البعيد، كُلما
تحركت السلاسل المُجنزّرة كُلما ازداد هول السباب ارتفاعًا:
-
دماغنا يا عالم.. مش عارفين ننام.
-
الصوت جاي منين يا بقر!؟
-
من عند صابر إياك!
-
يحرق صابر واللي جاب صابر!!
-
ربنا يهدك يا صابر أنت وأبوك!
-
كُلّ يوم وجع القلب ده!
-
كفاية .. حرام..
غرفة نوم شبه مُظلمة، يرن جرس يبدو لمنبه قديم، مُحدثًا صريرًا رهيبًا يهتز
له كيان المكان، يتزامن معه صوت تلفاز صارخ بأغنية لمطرب شعبي مغمور صار حدثًا
عالميًا لكونه يكره الأتوبيس. صوت رجل يبدو فاق من نومه على الضجيج، يبدو معتادًا
عليه، يترنح يدور بينه وآخر أكثر ترنحًا منه حوار ساخر:
-
صحيت بدري النهارده يا صابر يا بني!
-
مرتبط بميعاد، .. السابعة والنصف..
الأربعاء القادم، أنا اتأخرت..
-
يعني بعد أربعة أيام.. طيب ليه قايم بدري كده يا حبيبي!؟
-
إنت عارف يا عمّ حيران الزحمة وقرفها.
-
عارف يا يابني.
-
يا دوب محتاج يومين ثلاثة ويمكن أكثر.
-
المسافة بعيدة!!؟
-
يعني في وسط البلد، نهاية الطريق العام، في الميدان، جنب مكتب البريد.
-
عند البوسطة، أه كويس، أنا كمان عايز أروح أقبض المعاش بتاعي.
***
لاح نور الفجر، يتبين صابر، نحيلًا قصيرًا مُرتديًا
بنطلون جينز قصير لونه كحلي مقلمًا بخطوطٍ رفيعة وفانلة سوداء بحملات تبدو مهترئة
قليلًا. يبدو في مُنتصف الأربعينيات، شعره خفيف، لحيته حليقة شاربه محفوف.
باحث أول في مركز بحوث تنمية المُجتمعات المحلية
المرتبكة، حاصل على درجة الدكتوراه منذ أعوام، أعزب. بجواره حيران الظايط أبوه،
جاوز السبعين، بالمعاش كان يشغل وظيفة حاجب محكمة درب التبانة قبل انتقاله
للمدينة. يرتدي شورت أبيض واصل لحد الركبة وفانلة زرقاء بدون أكمام، شعره منحول
يرميه من ناحية اليسار لناحية اليمين ليغطى مساحة باينة من رأسه الصلعاء، تبدو
مُنيرة.
مُمسكين معًا بسلاسلٍ معدنيةٍ مُتشابكة، تبدو تحمل شيئًا
ثقيلًا، يقتربا معًا مُحركين للسلاسل من نافذة الغرفة، كلما تقدما معًا بان لهما
حائط المبنى الخارجي عليه سيارة ملاكي ألف وماية صغيرة مُعلقة في نهاية السلسلة
مُنحدرة ببطء على الجدار الخشن مُحدثة ضجيجًا وصريرًا يصُّم الاذان. تبدو السيارة
من طرازٍ جديد مصنوع لمواجهة زحام المدينة الخانق، لم يعد في المدينة موضع لقدم
فما بالك بسيارة، لحَتى مواقف السيارات أسفل البنايات السكنية وفي الساحات العامة
اختفت، تنكر لها العامة والخاصة، باعوا الأراضي؛ أجل باعوها، بل لعلهم سرقوها.
يقتربا صابر وحيران بحركة رتيبة تنم عن قرّفٍ بالغ،
يُطلان من شرفة الطابق الرابع في البناية البالغ ارتفاعها ستة طوابق فوق الأرضي،
ينظران معًا للخارج بعد أن جاوزت السيارة سقف الطابق الأرضي أو كادت، يتبين
كالمعتاد الفراغ البيني بين العمائر السكنية بل وكافة الطرقات والشوارع المحيطة
بالمبنى مُمتلئة بسياراتٍ من كافة الأنواع. زحامٌ خانق. من خلال تدوير السلاسل
المعدنية تهبط سيارة صابر على جدار المبنى الخارجي ببطء، يُنزلاها معًا من شباك
غرفة النوم لِتصل لمكان فضاء في الطريق العام يكاد يسع لوقوف سيارة واحدة، بليه
الميكانيكي صبي ورشة الدوكو بيده مسمار بورمة، ناظرًا من أسفل لأعلى.
-
كده تمام، انزل يا صابر يابني خلي حد يعدلها معاك.
قالها حيران بمحبة، يندفع صابر أخذًا الدرج النازل بسرعة فائقة، يحمل في
يده حقيبة سفر جلدية كبيرة، كأنه المسافر، لعلها فيها احتياجات الأسبوع. أجل، يعرف
أنه على سفر، فالمسافة من مكان سكنه لحَتَّى مكان العمل لا تتعدى الخمسة وعشرون
كيلو مترًا تقريبًا، يقطعها اليوم في عدة أيام، يمكن أسبوع. حاملًا في يده سندوتش
صغير يقضم منه قضمات متتاليات، في أقل من دقيقة صابر في الساحة الجانبية للمبنى.
مرتيًا جاكيت أبيض كتان على قميص أزرق سماوي نصف كم، وبنطلون كحلي غامق
وحِذاء رياضي بجوربٍ قصير، ما تزال السيارة مُعلقة بالسلسلة المعدنية كادت أن تلمس
رأسه، يشب بليه دافعًا بالمسمار البورمة المُدبب في الكُلِّ اتجاه، همه الأول جرح
السيارة، عامل في ورشة دوكو، يدفعه صابر بيديه، ينط كالقرد، ينهره حيران من شرفة
الطابق الرابع، ما زال في الأعلى مُمسكًا بالسلاسل المعدنية، يناديه:
-
دور على حد يا صابر يا بني يعدل معاك العربية..
-
حاضر يا عّم حيرّان، فاهم، .. والله عارف! .. والنعمة شايف!! أه يا بويه
أه..
-
خلي بالك من الواد بليه المعفن.
-
غوّر يا بن العبيطة.
يحاول صابر أن يشوط بليه برجله، يلف حول نفسه، يلمح مجموعة رجال أشداء
البنية يعرف أنهم يعملون في المجال منذ زمن يقتربوا مهللين:
-
صابر باشا، .. طالع النهاردة أن شاء الله؟
-
إيديكوا معانه يا جماعة، نعدلها ونخرج بيها على الطريق العام.
-
يا مُسهل يا رب.
-
اتأخرت على معادي.
-
معادك أمتى يا بيه؟
-
كمان أربعة أيام.
-
فين؟
-
وسط البلد.. في الميدان.
-
جنب البوسطة!؟ .. ياه يا بيه .. سفر برضيك.
-
ياه .. ياه .. يا باشا.. اتأخرت ليه كده؟
-
يا بن اللئيمة يا بليه، .. جرَّحت العربية يا جزمة.
-
كان لازم تطلع من يومين يا باشا.. ده فيه ناس بتاخدها في أسبوع.
مُمتليء الطريق الرئيس بالسيارات في صفوفٍ طويلة مُمتدة على مددِ الشوف،
الطريق مكون من ثلاث حارات في كُلِّ اتجاه، تصطف فيه السيارات فلا تجد موضع لنملة،
يمسك أحدهم بالواد بليه يشيله يهبده في حائط المبنى المجاور، ينتفض بليه، يسب
ويلعن بأفزع الشتائم، خالعًا لبنطلونه القصير، مُخرجًا لحيوانه ليبدأ في نطر البول
المُندفع منه منثورًا على السيارة وصابر والرجال، لا يلتفتون إليه، مُنهمكون في
إنزال السيارة من على الجدار، ما زال حيران يدير البريمة العلوية فتتهادى عليهم
ببطءٍ شديد، تتمايل:
-
بالراحة يا حيران باشا..
-
على مهلك يا سعادة البيه..
-
أيوه كده تمام.. تمام تمام..
يقف صابر يحجز بجسده سيارة خلفه، يظل الرجال الأشداء أمامه حاملين له
السيارة لمدة نصف ساعة، اعتادوا على ذلك، فهو عملهم، يأكلوا منه عيش، أولاهم يتجرع
كوب شاي، ثانيهم يأكل رغيف طعمية، ثالثهم يبدو نائمًا وهو واقف، أما الرابع
والخامس فاعتادا على لعب الورق في كُل عملية تنزيل سيارة، فالمسألة باتت اليوم
تأخذ وقتًا مُضاعفًا، إنما الأجرة أيضًا باتت مُضاعفة. يعلن آذان الفجر من المسجد
المجاور موعد الصلاة، تتحرك السيارة التي أمام صابر بالكاد لمسافة تسمح بوجود
سيارة أخرى.
-
الله أكبر.. الله أكبر.. اتحركوا..
يهلل الرجال الأشداء مُعلنين معًا موعد تحطيط السيارة في الفجوة الفضاء
التي بانت في الطريق العام. يُنزلوها معًا برفق يغنون: هيلا هيلا يالله، هيلا هيلا
آه.. يرقص بلية في الطريق مُهللًا ما زال خالعًا لنصف بنطاله، يلعب في حيوانه،
ينقط نقط قليلة. بعد أن بانت المسافة الفضاء كافية لتحتل سيارة صابر مكانها،
وضعوها في عكس الاتجاه، صابر صارخًا:
-
اعدلوها، .. الناحية الثانية،.. كده غلط..
يصرخ كُلّ راكبي السيارات في هذا الصف كُل واحد بكلمة:
-
عطلتونا، الله يخرب بيوتكم!!
-
اتعلموا السواقة بأه!!
-
هي ناقصاكم!!
مُشيرا صابر بيديه في الكُلِّ الاتجاهات مُعتذرًا للناس من حوله يلف يفتح
الباب بقوة، يبدو جرحه الواد بلية في مقتل، يركب السيارة من ناحية اليسار فالباب
الأيمن مُغلقًا. بعد أن أداروها في الاتجاه الصحيح، رنين الهاتف المحمول داخل
السيارة مُتتابعًا، يرد صابر بعد أن جلس في المقعد مُمسكًا بحزام الآمان في يده:
-
أيون.. ركبت، لأ باربط الحزام، عارف عارف السرعة والحوادث، حزام الأمان أهم
حاجة دلوقتي.
-
خد بالك من نفسك يا حبيبي، في العجلة الندامة.
يشاور له حيران من نافذة شباك غرفة النوم، يسحب السلسلة المُدلاة ببطء،
يتشعلق فيها الواد بلية ما زال خالعًا لبنطلونه، تقذفه أمه بشبشب بلاستيك عريض،
خلعته من رجلها بسرعة فائقة، ألقته من نصبة الشاي والتعريشة الواقفة فيها، تحيا مع
بلية وتنام معه فيها، ليس لهما من مأوى ولا يحزنون، هم من المهمشين. هي وهو أطفال
شوارع منذ جاءا للدنيا على غفلة. يسقط بلية في محاولته تفادي شبشب أمه المُندفع
نحوه كصاروخ، جاءت وقعته في بركة مياه البول الذي كان فعلها من لحظات، فلم تجف،
ترك السلسلة بقوة، يخطفها حيران في لحظات، يرفعها، مع سيل من السباب الرائح لبليه،
مُحييًا لأمه بنظرة وغمزة عين، يرفع السلسلة لحد طابقين، ما زال في انتظار مغادرة
ابنه في طريقه لموعده بعد أربعة أيام، يدور حوار:
-
حيران: صابر شد حيلك..
-
صابر : الشدة على الله..
-
حيران: رحلة سعيدة.
-
صابر: أنا الأسعد..
يصرخ سائق السيارة التي في الخلف من سيارة صابر مباشرة:
-
اتحرك يا بني آدم، مش وقت عواطف وحياة أبوك.
-
حاضر حاضر من عينيه الجوز.
-
تسلم عينيك يا عّم، بس اتحرك، الصف كُلّه بيتحرك إلَّا أنت.. عطلتنا..
***
عُطلة، بعد مرور ثلاث ساعات، السابعة صباحًا.. ما زالت الشمس لم تأخذ
مكانها في كبد السماء، الغيوم تملأ الدنيا، رمادية كالحة. الجو مائل للحرارة،
الضباب يملأ المكان، ما زالت سيارة صابر واقفة في مكانها، لم تتحرك مترًا. يمارس
الناس في الطريق العام حياتهم الطبيعية، اعتادوا على أن حركة السيارات تكون كُلّ
ثلاث ساعات مرّة واحدة إلى الأمام. مرّت ثلاث ساعات كاملة، أدار السائقين فيها محرك
السيارة في وقت واحد، اندفعت السيارات إلى الأمام لمسافة ثلاثة أمتار، ثم عادت
فتوقفت تمامًا، شلل، فالكُلَّ يعرف أن أمامه ثلاث ساعات أخرى جديدة حَتَّى يأتي
التحرك التالي، عليهم أن يستفيدوا منها.
انقلب الطريق العام ليُصبح كأنه مكانًا لممارسة النشاطات
الحياتية اليومية، فيه من كًلّ أطياف التعامل البشري. إنما لا مكان لممارسة الحياة
على الأرصفة وبين السيارات، ففي مسافات لا تزيد بالكاد عن المتر في العرض وجدنا من
في السيارات يتحركون ليقفوا في الطرقات، ليستفيدوا من الثلاث ساعات القادمة في
قضاء حوائجهم اليومية. استغل الباعة الجائلين الأرصفة لبيع كُلَّ شيء، في الصباح،
وقت الأفطار، يحمل السائقين معهم ما يساعدهم على قضاء حاجاتهم، لحَتَّى دورات
المياه المعدنية جاهزة يحملوها معهم في داخل سياراتهم، وأحيانًا يحملها لهم
العاملون في هذا النشاط، فلم تعرف هذه البلد شيئًا اسمه البطالة بعد اليوم، فتح
الازدحام الخانق في الطرقات محلات العمل لكافة المهمشون وأطفال الشوارع والبلطجية.
يتمدد صابر في سيارته الصغيرة جدًا، أنزل مسند المقعد الأمامي إلى الخلف،
تمدد ومدد قدميه على مقود السيارة، ألقى برأسه إلى الفوق وراح في سُباتٍ عميق،
المكان من حوله جلبة وضوضاء وباعة جائلين ومتشردين ومتسولين وباعة أرغفة ومناديل
وورق وبخور وفلايات وأمشاط ولعب أطفال: قرود وبط وكلاب، عمائم ومظلات شمس ونظارات
بلاستيك، ملابس داخلية رجالي ونسائي، إنما اعتاد هو وغيرَّه من مرتادي الطريق
العام على ذلك منذ سنوات طويلة، يرن جرس هاتفه المحمول رنينًا مُتصلًا مُتتابعًا:
-
حيران: بتعمل إيه يا حبيبي؟
-
صابر: نايم يا بويه.
-
حيران: بتتكلم إزاي وانت نايم يا حبيبي؟
-
صابر: يعني كنت ابتديت أنام.
-
حيران: إنت فين؟
-
صابر متهكمًا: في الحمام! متابعًا بضحكة رتيبة: يعني حاكون فين يعني في
العربية مستني، الطريق مغلق، ما أنت عارف!
-
حيران: بتتحرك؟
-
صابر: يعني؟
-
حيران: وصلت لفين؟
-
صابر: لا يا حبيبي لسه بدري، أنا في أول الطريق، كلمني بعد يومين، يمكن
أكون اتحركت شوية.
-
حيران: عال عال.
-
صابر: غريبة النهاردة الحركة بطيئة خالص!
-
حيران: يا سلام، كُلّ مرّة بتقول كده!
-
صابر: أبدًا، النهارده غيرّ الشهر اللي فات، كُلّ يوم أزحم من اليوم اللي
قابله.
-
حيران: الجو عندك عامل إيه يا بني؟
-
صابر: يعني حرّ شوية.
-
حيران: حاسب على نفسك تاخد ضربة شمس في الظل.
-
صابر: كله على الله.
-
حيران: فطرت؟
-
صابر: لسه. هافطر دلوقتي.
-
حيران: بالهنا والشفا.
-
صابر: بافكر والله اخد حمام.
-
حيران: عال عال..
-
صابر: وأغيرَّ هدومي.
-
حيران: أهه بتتسلى.
-
صابر: وانت عامل إيه دلوئتي؟
-
حيران: أنا كويس.. يمكن اتحرك كمان ساعة.
-
صابر: رايح فين يا عمّ الريس؟
-
حيران: أجيب المعاش، ما أنت عارف يا بني.
-
رايح البوسطة يعني، معاد القبض امتى؟
-
حيران: القبض شغال، .. فتحوا مكتب بريد الميدان أخيرًا، ما أنت عارف.
-
صابر ضاحكًا: كُنت جيت معايه وصلتك..
-
حيران: لأ أنا هاتمشى، مش محتاج عربية، هاخدها في ساعة.
-
صابر: خد بالك من نفسك.. الطريق ما فهش مكان تمشي فيه.
-
حيران: ربنا يستر..
حل الليل، رُفع آذان العشاء، حركة البيع والشراء ما زالت مستمرة في الطريق
العام، البلد لا تنام، كُلّ ساعات اليوم باتت ذروة. يرتدي أصحاب السيارات ملابس
النوم استعدادًا لقضاء الليل والمبيت أولى لياليه في الطريق العام، بعضهم له أسبوع
خارج من مسكنه في مدينة الرحاب. رجالٌ وسيداتٌ وأطفال يتصرفون كأنهم في منازلهم،
صبايا وأطفال الشوارع يشتركون في تنظيف السيارات تباعًا، فوطة زفرة بلون تراب
الطريق مع اسفنجة لا يتبين لونها، يلغمط الصبايا الزجاج، ليأتي الفتيان للتنظيف، عصابات
إجرامية مُنظمة. عائلات بكاملها تفترش أسطح السيارات للإفطار بعد أول ليلة قضاها
صابر في رحلته لمركز البحوث، ففي الأسبوع القادم لديه اجتماع مهم يُناقش موضوع
جماليات عِمارة وعُمران المدن المُستدامة:
-
أه يا بلد مُتخلفة صحيح!!
قالها ساخرًا مما هو واقع فيه، اضطر للعودة من إعارته، تاركًا أموال النفط
في الخليج لرعاية والده بعد وفاة أمه، يقلع حذاءه الرياضي يُلقيه في الكرسي
الخلفي، يضرب نفسه مرتين بالفردة الثانية، لاعنًا لنفسه:
-
حد يعمل كده يا بن المجنونة؟ .. حد
يسيب البلاد الحلوة هناك ويجي هنا في التخلف ده كله؟
البلد اتعدمت العافية، العاصمة عمّها الفساد والبؤس والقبح، تبدو اليوم
كأنها بلدة ريفية أكثر من ثمانين في المائة عشوائيات، أبنية بدون دهانات، عشش صفيح
وكرتون، سكنى المقابر باتوا أضعاف سكنى البنايات المبنية بترخيص، بعد كُلّ ما فات
يرى المسؤولين أننا لابد أن نلحق بركب الغرب السعيد، مؤتمرات عِمارة وعُمران
خضراء، ندوات دعم الجمال والطابع، حلقات بحث وورش لتطوير الميادين المهمة.
نساءٌ تلبسن قمصان النوم، تنشرن الغسيل على حبال مُمتدة بين أكثر من سيارة،
سقطت حلة غسيل كاملة، بمياه عفنة سوداء على سطح سيارة صابر، انزلقت مُتعدية السقف
مُندفعة من نافذة السيارة المفتوحة، لتمتليء السيارة وصابر بحمام غسيل محصلش. عدى
الليل على خير!؟ طبعًا لأ. إنما كالعادة، جاء نهار جديد، كون منظمه سيدك، متأزم
أكثر من النهار الفائت. يعرف اليوم صابر والشباب والرجال والشعب كُله ميزة التجنيد
الإجباري: الجيش بيقولك اتصرف، الحسنة تخُص والسيئة تعُّم، التعيين اليوم؛ حسب
الأحوال، مزايا التجنيد نومة الخدمة في العراء، سلاحك حياتك، قّفز الشراب فوق
البنطلون يا بعكوك، نظف البيادة يا جُندي، أربط الحزام، إياك شعر ذقنك ينّبِّت
أخضر، الخروج بتصريح؛ إهرب سِلكاوي.
مرَّ اليوم على صابر أكثر من ثلاثة أيام وهو في الطريق العام، قاربت رحلته
على نهايتها، يبدو اقترب من الكوبري المعلق، الرحلة في الطريق العام كوم وفوق
الكباري المعلقة كوم ثاني خالص. يختلط من في الفوق مع سكان البناءات المجاورة،
أغلبهم يعرفون بعضهم، عِشرة من كثرة الإقامة الجبرية.
من طول الرحلات تعارف الشعب في المحاور المهمة المُمتدة، رجال تقرأ الصحف
في الشرفات يتبادلونها مع من يبيتون أمام أبواب السيارات، أطفال صغار يلعبون فوق
الأسطح مع أطفال يلهون فوق أسطح سياراتهم، بائعي الجرائد والعيش واللبن والفول
والطعمية يسيرون بين السيارات لبيع أيّ شيء وكُل شيء، متنقلين بين الشرفات
والنوافذ. أما النظر من شباك السيارة لدواخل الغرف فله متعة أخرى.
الخناقات والصراعات بانت بين كُلّ الناس كأنك في حارة في حي شعبي محلي، ولد
وبنت في سيارتين صغيرتين متقاربتين بيحبوا بعض، أصبحت العلاقة بينهم وطيدة من طول
الانتظار، رجل في شرفة منزل يغازل امرأة حامل في سيارة فيخرج له زوجها بكوريك
السيارة يهبده على دماغه، إنما يلحق به رجال أشداء شبه الرجال الواقفين بالقرب من
منزل العّم حيران وصابر، يخبط صابر كفًا على كف، أصبح مناديوا السيارات أكثر من السيارات
أنفسها، أغرب ما فيهم، كما في سينما الخيال العلمي، النحاسة التي يضعوها على
صدورهم، كأنهم يعملون لجهة حكومية معروفة. إنما لم يُصادف يومًا صابر في حياته
منادٍ واحد في موقف مرّخص واحد يأخذ منه مبلغًا مقابل إيصال، إنما في كُلِّ مرّة
كُلّ واحد فيهم يهبد الجنيه والاثنين واضعهم في جيبه حَتَّى من غيرِّ كلمة شكر
وحيدة.
الغريب والعجيب عمال نظافة الكباري العلوية، فمن كان حظ أمه حلو، من دعت له
أمه في ساعة فجرية أو مغربية، يُعين كناسًا في الكباري العلوي، في كُلّ الأحوال هو
واقف في وضع تعظيم سلام لراكبي السيارات، وجهه دائمًا مُبتسم حزين، لا يعرف صابر
كيف تتزاوج تلك المسألة، ابتسامة وكأبة، يوسف وهبي واسماعيل ياسين معًا، أدوار
هزلية يقوم بها الكناس حامل كيس قماش بفتة أصفر على كتفه وراكبي السيارات
والحافلات والدراجات يناولونه باليمين: مرّة جنيه، ومرّة ربع جنيه، وجبة سخنة،
قميص قديم، فانلة بحملات، لقمة بغموس، لقمة حاف.
-
هوبس حاسب يا حمار، يا بن الجزمة.
-
حصل خير يا بيه.
-
الكوبري زحمة، ارحمونه بقى.
حادثة كُلّ دقيقة، ليتبين الردح العنيف بين الرجال والنساء، والرجال
والرجال، والنساء والنساء، الأطفال والأطفال، بان يوم الحشر في الطريق العام وفوق
الكوبري المعلق، السباب يتطاير في الكُلّ مكان، هرج ومرج، ضحك وبكاء، زعيق بالصوت
الحياني. إنما في هذا البلد لا يضرب أحدًا أحد، السباب فقط وسيلة التفاهم الأولى
والأخيرة، فجأة يصرخ الجميع، حركة يا شباب، ينُط كُلَّ من في الطريق العام مُعتلين
سياراتهم في لمح البصر، جامعين أغراضهم في لمحة عين، تدور المُحركات معًا، تتحرك
السيارات لمسافة ثلاثة أمتار أخرى، تعود لتركن من جديد لمدة ثلاث ساعات أخرى،
لحَتَّى يتم التحرك من جديد.
المشهد الثاني: العِبرَّة بالخواتيم
-
اسمحولي أقلع الجاكيت، الجو اليوم شديد الحرارة.
هكذا اندفع رئيس المركز القومي لبحوث تنمية عِمارة وعُمران المدائن الحضرية
الحضارية الكُبرى المُستدامة الخضراء مُعبرًا عن نفسه ضاحكًا مُبتهجًا أنه سيقود
اجتماعه اليوم في وجود كبار مرؤسيه. لفيفٌ من كبار العاملين في الدولة وأساتذة
العِمارة والعُمران والتخطيط والإسكان والنقل والمرور والسيارات والأنفاق والكباري
المُعلقة، معهم خبراء بلجيك وهولنديون ويابانيون وكوريون وألمان وبعض العاملين في
مجال الطرق من الصين الشعبية.
افتتح الاجتماع رئيس
المركز، متوسط الطول، في نهاية العقد السادس، بقى له شهور على التقاعد، ليُحال
بعدها للمعاش، ليذهب إن كان لديه واسطة ومحسوبية لينال مركزًا شرفيًا في المحافظة
أو شركة قطاع مال وأعمال أو حَتَّى يُعين خبيرًا استشاريًا بمبلغٍ يفوق راتبه
الخيال، أو ينتهي به الحال محاورًا في برامج حوارية وعروض كلامية (توك شو) في
الفضائيات وفي القنوات الخاصة. قصيرٌ، نحيفٌ، شعره أبيض أكرت منحول، مُبتسم في
بلاهة دائمة كعادته، كأنه قد أنهى المطلوب منه تمامًا سنوات وجوده على رأس المركز،
قضى أغلب سنواته المحدودة في مأموريات سفر لخارج البلاد للتريض والعلاج وعقد صفقات
لمكتبه الخاص، وبقية وجوده في الداخل أفنى حياته في التحضير لمؤتمرات وندوات مع
دول أجنبية رغبة في توسعة دائرة المعارف في البلدان المُتقدمة، بلدان ليس لها أيّ
علاقة تُذكر بالدول النامية. تخاله طاووس يسير مُختالًا بإنهائه المؤتمر الخامس عن
التقنية فائقة الصغر وعِمارة وعُمران خضراء. بلد أكثر من نصف سكانه يقيمون في
العشوائيات والمقابر، ليس لهم مأوى حقيقي، تدور مؤتمراته حول تقنية النانو وخفض
الطاقة، عباقرة المسؤولين في بلادنا، يتخطوا الزمن بمراحل، يبدون كأنهم يقضون
وقتًا مريحًا للتسلية، كأن الفقراء والمهمشون وأطفال الشوارع والمساكين وأبناء
السبيل ليس لهم مكانًا في هذا البلد. لديه طبع يتسم به في العادة بعض المُدراء
والمسؤولين في بلدنا، أنه الفاهم والواعي والمُفكر الآراري، يرى أن كلمته يجب ألا
تُرَّد، فحينما يتخذ قرارًا يتحتم ألَّا يُراجعه فيه أحد قط. فبان حال بلدنا كما
هو أمامكم في العشرين سنة الأخيرة، فلا حلول لمُشكلات ولا حياة لمن تُنادى.
إنما هو لأنه بات على
مشارف الإحالة للتقاعد فتراه غيرّ مهتمًا بالمرّة إلاَّ بصورته أمام رؤسائه، يرغب
في أن يُعين خبيرًا. دعى في المجلس الأخير جوقة المريدين معهم عينات عشوائية من
بلدانٍ غربية باتت لا هم لها إلَّا الاصطياد في الماء العكر، يرجون الميغة، فعلى
الرغم من كم علماء دولتنا المختصون في تلك المجالات الحضرية إلّا أنه لا أحد يعبأ
بهم، لكيلا لا يظهر منهم أحد، فيُصبح في الصورة، فيخطف المشهد منهم.
-
بنرحب بالسادة الضيوف، سيكون كلامنا باللغة العربية والترجمة ستكون فورية
في الحال.
هكذا بدأ حديثه، مُبتسمًا في
بلاهة، مُتابعًا حديثه بابتسامة تبدو لئيمة إنما في الحقيقة ينعتونه بالعبيط:
-
جئنا اليوم لمُناقشة كيفية تجميل مدينتنا الحضرية الحضارية، ننتوي هذا
العام كما تعرفون الدخول في مسابقة أفضل مدينة عصرية على مستوى العالم، فكما تعلمون
بلدنا أم الحضارة، أم الثقافة، أم الخير.
-
العبرة بالخواتيم يا سيدي الفاضل.
هكذا اندفع الباحث
صابر حيران مُعبرًا عن رأيه في الحاصل في الخارج، بقى له أكثر من أسبوع في رحلة
الطريق العام، قاطعًا للمسافة من مسكنه للمركز في أضعاف ما كان منذ الحوالي عشرون
عامًا، قبل أن يُشارك المركز والمراكز الأخرى في حل المُشكلات.يلملم ملابسه
المُبتلة برائحة العرق والطعام المُنساب عليه في الأسبوع الفائت الذي كان يعيشه في
سيارته في الطريق العام. مُتأففًا منه الحضور.
-
ابتدينا يا صابر يا حيران! .. يا فتاح يا عليم، عايز إيه!!؟
يباغته الرئيس، ينظر له جسده كله
يرتعش، لا يبالي صابر بعنفوان الرجل، يعرفه مداهن، يجيبه بحماس:
-
باتت مدائننا الحضرية تكاد تلفُظ أنفاثها الأخيرة، فلا سرعة ولا حركة ولا
أمان وبلا سعادة، تلك المسألة تراكمت أنوائها حَتَّى أضحت جريمة في حقِّ هذا الجيل
من المصممين والمخططين، أيَّ أقصد المسؤولين عن عِمارة وعُمران المدينة الحضرية
مُنذ منتصف القرن الفائت لحَتَّى الآن، وأنتم ترغبون في الحصول على جائزة أفضل
مدينة؟ .. أيّ مدينة !؟ .. بل وأيّ أفضلية!؟
-
اتكلم عربي يا صابر، بلاش فذلكة وحياة ابوك، الترجمة الفورية مش فاهمين حاجة.
-
ولا أحنا يا سعادة الباشا..
تتعالى الضحكات في بهو قاعة
الاجتماعات من الموالين لمعالي الباشا رئيس المركز، كُلَّ واحد بكلمة.
-
معاليك صابر مش فاهم حاجة.
-
معاليك صابر عايز يخربها زي عوايده.
-
هو طيب وعلى نياته بس حمار.
-
لازم يعني الفذلكة يا صابر!!
-
عايزين مُترجم يا عّم الحيران.
-
هيه ناقصة ياعّم الحاج، .. خلينا نخلص ورانا عيال عايزين نربيها.
-
ضحكت علينه الأجانب يا بن الحيران.
-
أسكت ساكت.. انت قلت كلمتك خلاص.
لم يلتفت إليهم صابر
كالمعتاد، يعرفهم كذابين زفة، ملئت الغباوة البلد في العهود الثلاثة الأخيرة رغبة
في النهل من الميغة، حَيّد النظام الكُلّ، الواعين والفاهمين، رغبة في السيطرة على
مُقدرات الشعب، فلم يتبقى إلّا المنتفعين. على الرغم من كون الرئيس أكبر
المُنتفعين من النظام إلّا أنه عالم في مجاله، يعرف صابر أنه كان أستاذًا نابهًا
في جامعته، غيرَّ أن الكراسي تجعل من الناصح خائب. يلمح صابر لمعة في عيون الرجل
تنم عن أنه يُريده أن يتابع، يرغب في الاستماع لفرد مُخلص وحيد حَتَّى لو كان
مُختلفًا معه في الرأي، يُشير للحضور بلفتة من يديه وعينيه، فيسكُت الكُلّ
خذلانين، مع ابتسامات لئيمة مريضة:
-
يُمكن القول أن بلدنا بِكُلِّ تاريخها البنائي
الفائت على مرِّ الزمن، تعاني من غيبةٍ واضحةٍ لدور المُختصين في ميدان عِمارة
وعُمران المدائن الحضرية على مستوى التخطيط والتصميم الحضري والحركة والانتقال.
والبينة هنا على من الدعى والعِبرة بالخواتيم، فبنظرةٍ مُتفحصةٍ لكافة مدائننا
الحضرية يمكن التقرير بما يحدث فيها؛ فغول التكدس والتزاحم باين داخل حفرة المدينة
الحضرية الصغيرة نسبيًا، أيَّ أقصد في المساحة المعمورة من الدولة التي لا تتجاوز
الستة بالمائة من مساحتها الكلية حَتَّى أننا إن لم نجد حلًا للخروج منها بمخططٍ
شاملٍ وواعٍ وحيد، فليس هناك ثمة من حلول لمدائن اكتظت بخمسة أحمال ما كانت خُططت
له.
-
يتنهد متابعًا: أما نتيجة لدقة مسألة التمركز تلك، أيّ الوقوف في مساحة
صغيرة من الأرض، فالأرض كانت على مرِّ الزمان سببًا أصيلًا في الحروب بين الدول،
أما عندنا فالمسألة تبدو وكأنها لا تشغل البال، ففي كُلِّ مناسبة يردد المختصون
بأن الخروج من حضن الوادي هو المهم وأن التكدس في المدينة استنفذ كافة الحلول،
إلَّا أن المسألة ما زالت راكنة عند بعض مشروعات داخل المدينة أغلبها عديم
الفائدة، بل لعله يُضيف من عمق المشكلات. لعله حدث في عهودٍ قريبة لنا بداية
الانتباه للمستقرات الحضرية الجديدة خارج المدائن وحولها، إنما على مدار سنواتٍ
بعيدةٍ لم تشهد البلد إلَّا عددًا محدودًا من تلك المستقرات التي بدأت واعدة،
لتنتهي استثمارية، ثم خاصة لأصحاب رؤوسالأموال والقادرين ماديًا. إنما قولة الحقَّ
هي أن الخروج من الوادي يحتاج لخطط قيادية فاعلة وموجهة على أعلى مستوى سياسي.
-
يتنهد ثانيًا متابعًا: فعلى حد
علمي، لم تشهد الدولة في العصر الحديث، دراسة واحدة وحيدة واعدة معنية بمشكلات
المدائن الحضرية عن طريق مُخطط رائد للخروج من الوادي الضيق. أجل، تعددت دراسات
تطوير بعض المدائن الصغيرة، إنما يبدو أنها كُلها دارت حول توجهِ وحيدِ، هو أن
كُلَّ مدينة لها حِلم خاص بها، فمسألة ألف التفضيل تُداعب في الغالب المهتمين بتلك
المسألة. إنما الكُلُّ اليوم في انتظار الدراسات التي يُمكن تقديمها لتلك الجهات
للخروج من الوادي الضيق أولًا، حَتىِّ ينطلق المتكدسون في الداخل نحو الخارج،
بعدها، نهتم بما في الداخل، وهنا يكون كُلٌّ منا في حاله، ونصنع للفاعل تمثالًا
بهيًا، كلما دهن بناية بلونٍ فاتح.
بهت الكُلَّ، حتى
الوفود الأجنبية بان في عيونها ومن تحركاتها أنها لا ترغب في وجود فاهم وواعي
بينهم، كيف يتسنى لها الدخول في سوق الميغة والتربح في وجود مثل صابر الواقف لهم
بالمرصاد؟ كيف سيتم توزيع الغنائم على المعارف والمحاسيب وأصحاب السلطوة والنفوذ
في وجود؟ إنما هم كغيرهم يعرفون أن لا كلام صابر حيران ولا غيرّه سيُغَّير من
الأمرِّ شيئًا؛ فتلك أمة ضحكت من جهلها الأمم.
***
-
مش هتجيبها البّر يا صابر يا حيران!
هكذا تقدم رؤوف علوان
رئيس المجلس من خلف مكتبه البيضاوي مُمسكًا بيد صابر، مُنتقلًا معه لحد صالون
الاستقبال في غرفة مكتبه الخاص الرحبة، مُقدمًا له شيكولاته في ورق سوليفان أحمر
شفاف، يعرف أن صابر يعشق ذلك النوع الفرنسي النادر من الشيكولاته البيضاء. لم
يتذوقه يومًا إلّا في مكتب رئيس المركز، يلتهم قطهة الشيكولاته، ناظرًا لرؤوف
علوان نظرة فهمها الأخير، فناوله واحدة أخرى، فثالثة ضاحكًا. جلس رؤوف فجلس معه
صابر، ما زال طعم الشيكولاته في فمه:
-
يا دكتور رؤوف أنا نفسي بلدنا تتقدم.
-
عارف يا فالح.
-
بس علشان البلد ديه تتقدم لازم تنضف.
-
عايز إيه يا حيران؟
-
البطانة يا دكتور رؤوف، الناس اللي حواليك، معاليك، سيادتك، يا باشا، يا
بك.
-
بلدنا كده ومش هتتغير، وانت عارف.
-
لأ لازم تتغير، ابعد البطانة من الحواليك، هات ناس تانية، هات ناس مُخلصة
للبلد.
-
أنت فاكر إذا الناس اتغيرِّت الحال هيتعدل؟
-
أكيد هيتعدل!
-
أنت طيب أوي! .. مالك يا صابر! .. افهم بقى بلدنا بتغرق.
-
يا ساتر يا رب.. بلدنا عمرها ما هتغرق.
-
والله بتغرق يا صابر.
-
مستحيل، مُمكن تغطس، تغطيها المياه والقاذورات، إنما أكيد هتئِب تاني.
-
يداي الاثنتان على كتفك.. عايز إيه يا عّم صابر؟
-
غيرّ يا دكتور رؤوف البطانة.. غيرّ الفكر، الكرسي مسؤولية.
ينظر له الرئيس نظرة تدل على أنه
يراه مُصاب بخلل، مريض عقلي، لا يُعلق، يتابع صابر:
-
ربنا هيسألك عملت إيه في منصبك!
-
أنا ماشي يا صابر خلاص، التقاعد بعد كام شهر، البركة فيكم أنتم بأه.
-
لأ مُمكن تعمل حاجة قبل ما تمشي.
-
ولا أيّ حاجة يا حبيبي، ما زلت تحلم، عايش في أوهامك.
-
مُمكن تعمل نظام..
-
الشعب يريد إسقاط النظام.. هاهاها.
-
إعمل قواعد، آلية، غيرّ البطانة، غيرّ الأشخاص.
-
بتحلم يا مسكين.
-
وماله..!! .. لو بنطلنا نحلم نموت.
-
أغنية محمد مُنير.
-
غنى كمان .. أنا أقدم شارع فيكي.
-
لو فضلت تحلم هتموت يا صابر..
-
مش مُهم
-
افهم يا حمار النظام أكلته العتة..
-
إنما طبقاته ما زالت ماسكة البلد بيدٍ من حديد.
المشهد الثالث-
في الميدان
-
الشعب يريد تغيير النظام.
-
الشعب يريد تغيير البطانة.
-
الشعب يريد الحرية والعدالة المجتمعية والكرامة.
ليل خارجي، صابر في
سيارته يُشاهد البرامج الحوارية والعروض الكلامية على شاشة حاسوبه الرقمي، أدمنها
كما أدمنها بقية الشعب، ليس للتسلية وقضاء الوقت إنما باتت مُخدر النظام للشعب
الغلبان. عائدًا الساعة من اجتماع المركز مذهولًا، قرروا القيام بحملة نظافة عامة،
وزعوا العقود، طلاء واجهات المباني المهمة بلون رمادي فاتح.. عقد الشركة
الهولندية، مُسابقة لتطوير الميدان والنصب التذكاري.. عقد الشركة البلجيكية، طلاء
الأرصفة بردورة بيضاء وأخرى سوداء وفي الأمكنة المهمة صفراء.. عقد الشركة
اليابانية، شراء أعلام وبيارق لمباريات كرة القدم.. عقد الشركة الصينية طبعًا، مع
صفارات الجودزيلا من جنوب أفريقيا.
مضى عليه يومان في
رحلة العودة، اقترب من قلب وسط الميدان الذي قامت فيه ثورة أسقطت النظام منذ أكثر
من تسعة أعوام، قضى فيها ورود ورياحين، شبان وشابات مثل الورد، الورد مفتح في
الجناين على قولة الشاعر أحمد فؤاد نجم. استشهدوا دفاعًا عن الحرية والكرامة
والعدالة المجتمعية، لم يتبق منهم إلّا صورهم مطبوعة على فانلات بيضاء نصف كم،
يرتديها المنافقين والأفاقين، كذابين الزفة، أهه حاجة تانية بجانب الكوفيه
الفلسطينية، بقيتهم صورًا موضوعة حول جدارًا بنوه بأنفسهم اسموه نصب الشهداء، لحين
الاستقرار على من يفوز في مسابقة تطوير الميدان، هالله هالله. مرّت شهور طويلة، لم
يُحاكم من ذبحوهم قهرًا وظلمًا، ما زال طليقًا من أمر بذبحهم في الطريق العام
والميدان، العجيب، خرج المُناهضون للثورة يُطالبون بمحاكمة الثوار، اختاروا الطريق
العام، بجوار مسجد علامة كان لا يحب الظلم، يعرف صابر مثله مثل غيرّه أن البطانة
باقية، أن الطبقات هي طبقات فوق طبقات.
-
مات النظام عاش النظام.
تحول الميدان بمضي
المدة لساحة شعبية لمدينة ريفية، استغلت بطانة النظام الجديد الهوجة، استفادت من
الطبقات المتتالية المُحاربة للثورة، أتوا بالمهمشين والعاطلين والبلطجية، ركبوهم
الميدان، فرشوا فيه كافة أنماط السلع الاستهلاكية المُعبرة عن الفُحش والغوغائية،
فانلات وشرابات وملابس داخلية، محشي كرنب وكوارع وشيسة آرجيلة، ألعاب أطفال
ودراجات وهواتف نقالة، افترش البشر الخيام، علقوا الأعلام والبيارق كتبوا عليها
بكافة الخطوط كلماتٍ بالعربية كُلّها تدل على تفشي الأمية.
افترش الأرض نساء
حوامل تحملن أطفالهن شبه عرايا، معهم الواد بلية، مازال خالعًا لبنطلونه القصير،
مازال مُخرجًا لحيوانه يقضي حاجته. في البعيد، بجوار مكتب بريد الميدان، عند
البوسطة، يلمح أبوه حيران واقف في طابور مُمتد لمسافة أمتار، جاء يصرف المعاش،
بعلاوة عشرة جنيهات، الغريب تقف أمامه أم بلية صبي ورشة الدوكو، بائعة الشاي، تركت
النصبة، أتتهي الأخرى تصرف المعاش. جاء المأجورين من كافة الأرجاء مُطالبين
بالحقوق المسلوبة، إنما في الحقيقة هم يطالبون باستمرار الغوغائية والفوضى، يتيحون
لطبقات النظام الباقية لحَتَّى الآن ليستفيدوا من المال السايب، بلدنا بقرة تنتظر
الحلب، يأتي إليها في كُلّ فترة من لا يخافون الله، ليس لهم دين ولا ملة، همهم
التربح، السلطة والمال. أما من هم يُطالبون اليوم بالحرية والعدالة المجتمعية
والكرامة بانوا أنهم ليسوا هم من قاموا بتنحية النظام القديم، تبدل البشر، جاءوا
إناسًا غيرَّ الناس.
***
ظلمة كالحة عمّت
الميدان، انقطع البث في حاسوب صابر الشخصي، فرّغت البطارية، تعطل شاحن السيارة.
أمال الفتى ظهر مقعد السيارة للخلف، تمدّد، مَدّ قدميه على مقود السيارة، راح في
غفوة، فاق مُتلفتًا حوله، مًمسكًا بأنغه، لعله اشتم رائحة كريهة، ظنها في البداية
آتية من الميدان، إنما إنها قريبة، ابتسم، تخلص من جورّبه الذي كان يرتديه. قبل أن
يُلقيه، اشتم بأنفه رائحة كريهة شبيهة آتية من مكانٍ ما، تزكم الأنوف، ثم مال
بجسده للأمام، هامسًا:
-
جورَّب مِعّفِّن صحيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق