2014/05/30

هنا يموتون مرات عديدة ..قصة بقلم: إبراهيم حسين

هنا يموتون مرات عديدة
إبراهيم حسين

عرفت الآن يا أحمد انك كالآخرين وانك لست الموكل من الله لإصلاح المدائن كن معتدلَ الحزنِ إذاً فلست نبيا كي تحزن لكل عين مفقوءة بلا سبب منطقي والطريق لقريتنا طويل طويل زرع وماء ونهر يجلب أسماكاً غريبةً ومحاراً وأمواتاً, لا تعرف من أين يبدأ ولا إلى أين منتهاه
كانوا يضعون أصبعهم في منتصف صدرك ويسألون (من هذا ؟) تجيب ولم يعتد لسانك تشكيل الكلمات بعد (أمح) الآن وقد كبرت ينادونك (أمح)ما يزالون.. وتذكر أن أباك قبل أن يرحل ويتركك لجدك ضربك مره لأنك كتبت بين( الله اكبر) حرفَ واو كبيراَ وضربك بعد ذلك كثيراً كلما خلا جيبه من الدخان.. ولا تذكر أبدا أنك فرحت بعمق ربما سعدت قليلا عندما صفقت لك (نشوى) مرتين عندما أجبتَ بأن (ثاني أكسيد الكربون ) يعكر ماء الجير.. جدك الذي أدخلك المعهد الأزهري ظناً منه أنك هكذا ستمجد أولياء الله ويقول وهو لا يعنى بشرح (إذا سألت يأرب أين الطريق إليك ؟ جاءك النداء خلى نفسك وتعالى ) جدك الذي ينطق بالحكمة تعتقد انه عظيم وتمنعك عظمته من أن تسأل معنى .. هنا كنت تجلس .. أسفل النخلة الجرداء والتي يخرج من جذرها نخلات صغار في احتضانهم الطويل .. تجلس .. تمسك صنارتك بقوة كأنما ستصطاد سمكة ضعف وزنك .. والبيوت هناك حوائطها متكئة بعضها على بعض.. تحاول التماسك أمام الأيام والمطر.. تمر شتاءات و شتاءات تصير السكك طينا وتطلع الشمس تحاول تجفيفها للعابرين ولكن الكثيرين يتلوثون بالطين .. يخيل إلىَّ كما يخل إليك أن قريتنا كحجر ملق بنهر يمر الماء سريعا أو بطيئا .. رائقا أو عكرا و لا يتحرك
في كون الله الواسع تحدث أشياء.. تُبنى مدائن وتهدم صوامع ونحن نستخدم نفس المحراث المرسوم هناك على جدران المقابر التي يحتضنها الجبل.
 وعندما جاء التغيير كان مدهشا
باعوا غلالهم .. لم تكفَّ .. اقترضوا مقدما على الزرع الأخضر من الخواجة هارون ليشتروا جهازاً يشاهدون فيه أناساً أمثالهم يتحركون .
يحق للنسوة ألآن أن يشاهدن المسلسل ويتفاعلن معه.. يدعون للمظلوم من قلوبهن ويسبون الظالم وينتظرن يومه الأسود الآتي حتماً
أمسى الرجال الآن يسهرون حتى نشرة التاسعة .. يدلون بآرائهم في السياسة وهم يبللون أوراق البفرة بأطراف ألسنتهم الخشنة .. يعيدون بها تشكيل سجائرهم يحتسون العرقي حتى إذا ما رأوا الشيء الواحد اثنين أو أكثر ..شعروا بأنفسهم خفافا يضحكون دونما سبب.. عادوا لبيوتهم يستندون على الحوائط و أقدامهم لا ترى روث البهائم كي تتجنبه.
والنهر هو النهر يحوى أسراره والطريق الساخن الساخن.. يدخل من فتحات أرجلهم يأخذ من أقدامهم طبقة .. يعودون إلى سيرتهم الأولى .. يحدث بينهم رابطه ما.
صنارتك لم تغمز بعد وصبرك كذلك لم ينفد.. عندما لمحته قادما, جسداً منتفخاً حتى ملأ ملابسه تماماً.. الأولاد يقذفونه بالطوب .. غريب .. يقولون انه بعد أن يمكث بالقاع أياما يخرج ممسكا بالحشائش والطين .. ينتفخ حتى يوشك على الانفجار.. وكلما سمع صوتاً على الجسور ركن إليه طالبا دفنهُ وستره عن أعين المتطفلين.. هكذا يكررون
لم يكن ثمة شيء جديد ولكن الجديد ما فعلت أنت..خلعت ملابسك ونزلت النهر أحسست بقشعريرة.. تلك التي تبدأ من عند القلب وتمتد إلي باقي الجسد.. ربما الخوف..ربما صدمة الماء الأولي..سحبته.. أخرجته..قلبته لتري وجهه
عيناه مفتوحتان بهم أثر خوف..أثر رجاء..أثر لأشياء أخري لا تفهمها ككلمات جدك..ساعدك الأولاد بالمسحاة القديمة حفرتم له حفرة ووضعتموه بها..رغم أنها لم تكن مريحة وإنها بالكاد تخبئ الجسد المتورم..إلا أنه أكثر حظا من أناس كثيرين مروا بالنهر..تجري ذات الشمال وذات اليمين وتكرر(علي المهل يا جماعة..بالراحة يا جدعان!)
(دا ميت يا عم أمح هو بيحس؟!)
وأكثر حظا من آخرين كثيرين سيمرون ولن تكن أنت يا أحمد كي تدفنهم.. أهلتم عليه التراب, وأنت تقرأ ما تيسر لك.. حاولت أن تتذكر ما قرأته في كتب الأزهر عن قدسية الموت وحرمة الأجساد والغريق الغريب خاصة الذي ما أن يسمع صوت النسوة اللائي يغسلن في النهر ملابس أولادهن الصغار وأوان الأكل والاستحمام حتى يركن اليهن ولكنهن يزيحونه بالعصي الطويلة مرة أخري لعرض النهر
الكون يلفظ من كل جهاته بأناس كثيرين
بضع كلاب جاءت تتشمم وهي تثني ذيلها بين أقدامها.
أناس يأتون يسبقهم الخفير الذي تعرف كما يعرف الجميع ويسكتون أنه يسرق الأخشاب التي يتدفأ عليها ليلا من الحقول القريبة والأسطح الواطئة
قصير الجسد والرقبة والأصابع..ليس به شيء طويل سوى بندقيته العتيقة , يصرخ وهو ما يزال يهرول (مصيبة ..جبت مصيبة ياعم امح) يعيد رفع التراب مرة أخرى (اتركوه لحال سبيله أو اذهبوا به للجانب الأخر) يتكلم عن المركز والعساكر و الضابط الذي يسب كل من يقابله ويمعن في سبه هو بالذات كأنما كان بإمكانه منع كل خطايا البشر .. سحبه من حفرته .. صار للميت وجه بشع بعدما اختلط التراب بالماء وامتلأت عيناه بالسواد .. يقف ويشير بيديه إلى الجانب الأخر (هنا مركز وهنا مركز) يتكلم ما يزال عن تحقيق سيجرى وكلام سيكتب وسؤال سيظل معلقاً                     أما الجانب الأخر فخفر آخرون سيسألون وسيهانون.
أصررت أنت وراقت للأولاد اللعبة ولكن أهل الجانب الأخر رفضوا..علت أصواتهم .. تداخلت .. صارت أزيز يمر براسك .. لا تفقه شيئاً مما يقولون ماذا في دفن ميت طلب ستره .. اتفقوا على أن يلقوا به مرة أخرى .غريب. .. تصرخ.. تضرب الأرض بقدمك .. ولكن من يأبه لك أحمد .
والبكاء واجب في الختام كما في لحظة البدء .
جاء جدك .. يجرك من فتحة جلبابك حتى ترك خطاً أحمرَ حول رقبتك
(يا كفرة ياأولاد الكلب .. بني آدم طلب الدفن ) يسحبك جدك بيد من معدن ..لا يجيب..لم يعد عظيما ولا ينطق  بالحكمة ..تكذب كتبك المدرسية .
الجسد يتهادى بطيئا .. يدفعونه بالعصي الغليظة.
الأولاد يقذفونه بالطوب .. الأسماك الصغيرة تقترب ..تأخذ قضمه ثم تعود للقاع.. غريب وسيظل .
وأنت عرفت الآن أنك كأنا كجدك كالآخرين.
وأنك لست أحدا كي تحزن لكل غريب مقتول بلا سبب منطقي.    

ليست هناك تعليقات: