المثقفون والثورة
( الثوابت ، المحاذير ، المستقبل )
د. مصطفى عطية جمعة
قلبت ثورات الربيع العربي الأوضاع الفكرية ،
وزلزلت كثيرا من الأمور المستقرة خلال العقود الأخيرة التي سبقتها ؛ فكان لزاما
على النخبة المثقفة ،مراجعة قناعاتهم ومواقفهم ، حيث يقععلى النخبة-على اختلافات
تياراتها السياسية والفكرية وبوصفهم طليعة المجتمع –المهمة الكبرى في قراءة الواقع
، واستشراف المستقبل، في ضوء مفاجأة الثورات بالنسبة للجميع، على الأقل في فعل
الحدث ، وليس في إرهاصاته ومقدماته ، وبالتالي تقود العامّة وأيضا السلطة ،
وبأمانة وموضوعية وإرشاد إلى سبل الأمان الاجتماعي والمجتمعي .
إننا لا نستهدف مناقشة حالة كل
قطر– شهد ثورة - على حدة ، ولا الظروف والملابسات المحيطة بكل ثورة ، فمن المسلم
به أن هناك عوامل متشابهة، واختلافات منذ لحظة البدء والمسار والمنتهى إلى الآن .
وإنما نستهدف تقديم رؤية شاملة ومؤَسسة تخص تعامل المثقفين مع الثورات ، على ثلاثة
مستويات : الثوابت والمنطلقات ، المحاذير والمهالك ، المستقبل والتطلعات.
فأما الثوابت فتعني الأمور المتفق عليها ، والمبادئ التي لا يمكن التنازل
عنها ، ولا التفريط ولو جزئيا فيها ، ولا المساومة حول قواعدها .
فالثابت الأساسي أن الوطن أرضية تسع الجميع دون إقصاء لأحد ، على أساس ديني
أو طائفي أو فكري أو فئوي أو عرقي.وتأتي حرية الرأي والمعتقد والحركة والنشاط
حقوقا يدافع عنها اليساري لمن كان يمينيا ، ويذودعنها القومي لمن تمسّكواقتصر في
رؤيته على الوطن القطري، مثلما يحمي الإسلامي حقوق من نادى بالعلمانية في كافة
أوجهها ، وبالطبع رفض الاعتقال والقهر والحظر وتبني الخطابات الإقصائية في حالة ،
والتكفيرية في حالة أخرى ، والاستئصالية في حالة ثالثة، وإن حدث هذا ، فيكون دور
المثقف تجميعياإرشاديا وليس تفريقيا، مشددا على الأسس والمبادئ ، نابذا التفريعات
والهامشيات ، مؤكدا على أن الفكر – وإن شذ وتشدد – لا يُحارَب إلا بالفكر ، فلا
معنى أن يتمترس المثقف خلف الشرَطي ما دام الأمر متعلقا بحرية الفكر والمعتقد في
الإطار الإنساني .
أيضا ، يقع على عاتق المثقف ترسيخ
هدف النهضة والحكم الصالح الرشيد ، الذي يواجه الفساد والمفسدين ، واضعا نصب عينيه
الانتصار لمصالح الشعب ، وحماية ثرواته ، وعدم استئثار ( فرد أو عائلة أو شريحة ) لقطاع
اقتصادي ، واحتكار المناصب في وزارات بعينها ، فقد أصبحت بعض الوزارات السيادية ،
ذات الرواتب الخيالية ، أشبه بالقبيلة في فخوذها ، والعائلة في روابطها ، أما عامة
الشعب ، فلهم الوظائف الدونية .
إن الهدف من الثورات ليس إيجاد نظام ديمقراطي تتنازعه الطائفية والفئوية
والحزبية ، وإنما وجود منظومة سياسية قادرة على فرز الصالح من الطالح ، ليتقدم
القيادي الموهوب ، متبنيا البرامج الطموحة، التي يمكن أن تضع الدولة ضمن كوكبة
النمور النهضوية ، مثل : ماليزيا ، تركيا، البرازيل ، سنغافورة .. ، وكما يقول
علماء السياسة ، فإنه مع وجود قيادة قوية راشدة ، وحكم يرسخ حريات الشعب وحقوقه،
والجدية في تنفيذ برامج التقدم المعتمدة على سواعد الجماهير ، وثروات الوطن ،
والخطط الاستراتيجية ؛ وفي خلال عشر سنوات ، يمكن أن يحقق الوطن نهضته،
وينطلق من التبعية الاقتصادية إلى التنمية المستدامة .
والثابت الأهم ترسيخ مبدأ
التداول في الحياة السياسية، من خلال آليات ديمقراطية أساسها الانتخاب الحر الشفاف
. وخصوصا في الحياة الثقافية، فليس من المقبول اعتماد قاعدة الدور الذي يلفّ على
أفراد شلة بعينها، فيفوز من عليه الدور بالتزكية ، على أن ينفّع أفراد شلته ،
لنفاجَأ بنفس الوجوه في اللجان والمؤتمرات والسفريات وهلم جرّا .
أما المحاذير فهي المنجيات من
مهالك ، المانعة من السقوط في مدارك . فلا يعقل أن يترك المثقفون المخلصون القيادة
الثقافية والفكرية لمثقفين آخرين من الشيوخ والمدّعينغير المنتجين إبداعيا ، والثوريون
يعلمون جيدا أن هؤلاء المتجمدين المشهورين ما برزوا إلا بمداهنتهم للنظم المستبدة،
والسكوت عن القمع، ويعلمون أيضا أن هؤلاء سابقوا لنيل الجوائز والأوسمة ، غير
ناظرين إلى طغيان من أعطوهم ولا استكبارهم في الأرض ، فهذا أحدهم قد أعلن موافقته
على التنازل عن الجائزة الممنوحة له من حاكم سقط سريعا وصريعا أمام الثوار، في نفس
الوقت الذي رفض - وهو الأكاديمي المرموق إعلاميا – إرجاع قيمة الجائزة المالية
المليونية ، التي نالها ، لأنه على حد قوله قد ضاع في غلاء الحياة ! وهذا آخر ،
كتب قبل الثورة مفجرا قضايا هامشية بعيدة كل البعد عن هموم المواطن البسيط ، وبعد
الثورة ركب موجة الحرية ، رافعا عقيرته بالأحلام والشعارات ، في الوقت نفسه الذي
لم يجد أي غضاضة وهو يصعد إلى منصة المسرح ليتسلم جائزة ثقافية رسمية ، كان هو مقترحها
ورئيس لجنتها . أي أنه صار مؤسس الجائزة ، ومحكّمها ، ومانحها ، والفائز بها .
أيضا ، لا يمكن الوثوق في
مثقفين ، اختاروا القفز على الحبال بين نظم عديدة ، فبعضهم غازل الحقبة اليسارية وهو
شاب ، ثم تبوّا المناصب في الحقبة الليبراليةالمصطنعة كهلا ، وحين تقاعد آثر أن
يكون على مقربة من الأنجال الصاعدين في الحياة الثقافية ، فالمهم بالنسبة إليه أن
يكون في دائرة الشهرة ، تحت أضواء العدسات وأمام كاميرات الفضائيات ، حيث المكافآت
لازمة لظهوره ، ومقابلا لأحاديثه بالفصحى المسكّنة ، الهادئة ، المدافعة ،
والمبررة .
وهناك من المثقفين ، من جعل
الإعلام ملاذه ، فلا يفرق بين الحكومي والخاص ، فلديه القدرة على العزف حسب اللحن
المطلوب ، والتلوّن سريعا ، ودائما ما في كلامه خطوط للرجعة ، يمكن أن يعود إليها
، مستشهدا ومدللا . وهناك مثال للتفكه في المجتمع الإعلامي ، عن ذلك الصحافي
الدكتور الأديب السياسي الباحث الاجتماعي .. ، تلك هي النعوت التي تصاحبه لدى ظهوره
إعلاميا ، فيتندرون أنه ظهر في ليلة واحدة في خمس قنوات ، مكتفيا بتغيير سترة
بذلته مرة، ورابطة عنقه مرة أخرى ، حاصدا مكافآته مقدما من كل قناة .
أما عن المثقفين والمستقبل ،
فيبدو أن حدث الثورة كان مفاجئا لهم، فانخرط الجميع في توصيفها ، وشرح مسبباتها ،
ولكنهم لم يفكروا فيما بعد الثورة مجتمعيا ، مثلما لم يفكروا كيف ستكون أحوال
الثقافة مستقبليا ، فهل كان الحدث أكبر منهم ، أم لم يرتقوا له فكريا ؟ وفي كلتا
الحالتين ، على النخبة أن تستشرف المستقبل ، على أسس أهمها : تقديم ثقافة راقية تنهض
بالفكر والذائقة ضد التسطيح الثقافي والفني الذي يسود الآن ، الاحتفاء بالمبدعين
الحقيقيين المنزوين ، وتحرير المنابر من الوجوه المحنطة ، والآراء المكرورة ، ووضع
خطة ثقافية علمية ، تكتشف المبدعين ، وتنهض بهم ، وتقدّمهم للمجتمع.
والأهم الاضطلاع بدور التوجيه
والإرشاد لفئات المجتمع وشرائحه المختلفة، لإيجاد وعي حالم بالتغيير ، قائم على
تنفيذه ، فالثقافة قاطرة الأمة ، والمثقفون الحقيقيون يقودونها ، واضعين نصب
أعينهم أن الثقافة الحقيقية لا تنحصر في التعبير عن رأي ، وإنما في بناء عقل واع ،
وتأسيس شخصية وطنية ، تعبر عن هويتها ومكوناتها الثقافية
والحضارية ؛تبني وطنها فلا تهرب منه بالهجرة خارجيا أو الانكفاء ذاتيا ، تواجه
مشكلاته بالعلم والحلم والحماس والنشاط الذاتي ، مخططة لاستغلال ثرواته ، لا السكوت
عن نهبها ، فهدفها : نهضة مستدامة، للجيل الحالي والأجيال القادمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق