2014/07/09

المحاربون .. كما عرفتهم. بقلم : سمير الفيل

المحاربون .. كما عرفتهم.

بقلم : سمير الفيل ..
   من السهولة بمكان أن تكتب عن حرب أكتوبر ، ومن الصعوبة جدا أن تكتب ، وبين الحالتين محاولة للإمساك ببعض الخيوط التي تنسج سجادة الروح التي نقشها أبناء مصر من محاربين ، شهداء وأحياء باقون.
في الصف الثالث الإعدادي ،  كنا قد انتهينا للتو من امتحان الشهادة ، ورحت أسير في شوارع دمياط ،أشارك الناس شعورهم الجارف بقرب المنازلة بيننا وبين الأعداء ، والله هذا حدث . رسمت بعض اللوحات بالشمع ، ونزلت الصقها على جدران المدارس القريبة من سكننا على امتداد شارع الجلاء .
كان رجال الدفاع المدني ينقلون في سرية المحفات التي تطوى ، وأجهزة ” الكيما ” لزوم ضربات الغاز المتوقعة ، وكان راديو صوت العرب هو الأعلى صوتا حيث يصرخ أحمد سعيد بصوته المجلجل متوعدا إسرائيل بضربة قاصمة .
 من خبرة الناس بما تحمله الحرب من معاناة في حرب 1956 ،  راحوا يطلون اللمبات وألواح الزجاج باللون الأزرق، ويخزنون المواد التموينية من زيت وسكر وجاز وأرز وصابون ، سوف يختفى بعد ذلك، فعلا.
في 5 يونيو نشبت الحرب ورأيت بعيني عدة مقاه بشارع الجلاء تفتح الراديو على آخره ، وتكتب ما ينطق به المتحدث العسكري من سقوط طائرات العدو على ألواح الزجاج ، ومع كل بيان يزداد التهليل حتى حدث أنني رحت في مرة بالملابس في بقجة المكواة لعم سعد المكوجي ـ وهو رافع أثقال عالمي وقد اعتزل اللعبة منذ سنوات ـ رأيته شديد العبوس ، ولما سمع جلبة المحتفلين في خارج محله ، سمعته يكلم نفسه ويكلمني : المجانين. البلد مهزومة وهم بيهللوا !؟
كان يتصنت لصوت منخفض ينبعث من راديو خشبي قديم ، لإذاعة البي بي سي التي تبث موجاتها من لندن. بعد أيام القى جمال عبد الناصر بيانه الحزين ، وخرج الناس تلقائيا يرفضون الهزيمة في 9 و10يونيو ،
 وبدأ بناء الجيش المهزوم من جديد ، وقبل أن يرحل جمال عبد الناصر وهو يودع أمير الكويت في 28 سبتمبر 1970 بعد وقف الاشتباكات الدامية بين الوحدات الأردنية والمقاومة الفلسطينية ، كان قد أشرف على الرتوش الأولى في خطة الحرب المبدئية ، رافعا شعار : ” ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة” .
كان أهلنا في بورسعيد قد هجروا في مدارس دمياط ورأس البر ، واستمر الصراع حتى ومصر منكسة الأعلام بصد هجوم الدبابات الإسرائيلية في رأس العش ، وبإغراق المدمرة ” إيلات” ، وبمواجهة قوات الصاعقة في شدوان للمظلايين الإسرائيليين ،  وإجبارهم على العودة من حيث أتوا . وقد التقيت بعد ذلك بالفريق مدكور أبوالعز ـ وهو من قرية ميت أبوغالب ـ وحدثني عن طلعتين جويتين قام بهما سلاح الطيران المصري في 14 و15 يوليو 1967 دمرت فيها مواقع للعدو في عمق سيناء دون أن يفقد طائرة واحدة ، وكان قد أسند له قيادة هذا السلاح فجهز ملاجيء ودشم تحمي الطائرات الرابضة على الأرض .
دخلت معهد المعلمين سنة الانكسار ( 1967 ) وجاء لنا زملاء من بورسعيد والسويس والإسماعيلية منهم نصرالعيسوي الذي حكى لنا لأول مرة عن الصواريخ التي تنزل كالمطر على مصافي الزيتية فتخطيء هدفها،  وتقتل الناس في بيوتها ، ويسيل الدم في الشوارع. كان من بين منانخرطوا معنا في المعهد محمد الطرابيلي الذي لحن لي بعد التخرج وخلال العمليات ،أغنية شهيرة أثناء الحرب ترددت على مقاهي المدينة: ” عدينا القنال يا بلدي عدينا القنال. واشتلناكي يا مصر جوه صدرنا.. ودموعنا الغالية يا بلدي .. سالت ع الخدود.. زغرطت في بلدنا وغنت .. طلقات البارود. في صدر عدونا.. عدينا .. عدينا القناة ” ..
تخرجت من المعهد كأول الدفعة سنة 1971 ، وعينت في مدينتي ، وذهب زملائي للبدرشين والعياط ، وحدث أن تم تأجيل التجنيد لثلاث سنوات نظرا للعجز الفادح في أعداد المدرسين ( امضى أخي ماهر  6 سنوات ونصف من عمره مجندا بسلاح المركبات) . ذلك التأجيل القسري حجب عني فرصةالمشاركة في الحرب ، لكنني أذكر يوم 6 أكتوبر سنة 1973 جيدا ، حيث كنت معلما بالصف الأول الابتدائي ، وبعد خروجنا في الثانية ظهرا سمعنا جلبة، وأعلن عن نشوب الحرب. كان يوم سبت ويوافق العاشر من رمضان ، وسمعت لأول مرة بنوع من الحذر المذيع صبري سلامة يذيع البيانات العسكرية ، وهذا المذيع كان هاديء النبرة ، وله برنامج جميل اسمه ” على الماشي “.
خشيت أن تتكرر المأساة السابقة ، ورأيت أن اتصل بصديقي محمد علوش لأستطلع رأيه في الموضوع ( إذ أن صديقنا الثالث محسن يونس ، يخدم بسلاح الدفاع الجوي ) فأخبرتني الأسرة أنه حسب التكليفات سيبيت في مدرسته بعزبة البرج الإعدادية ، فركبت عربة أجرة إلى هناك ،واضطررت للمبيت معه ومع بقية المدرسين في فصل من الفصول على البلاط ، ومع مرور “قول ” عسكري للجبهة ، سمعت أصوات القذائف الصاروخية المرعبة قادمة من البحر ،بهدف تحطيم الدبابات التي كانت في طريقها للجبهة.
وسط ظلام دامس خرجنا للاستطلاع فوجدنا رجال الشرطة العسكرية يوجهون السيارات ، آمرين إياها بإطفاء مصابيحها ، وظلت أصوات الارتطامات تتوالى حتى شقشق الفجر. في نفس الليلة كنت قد كتبت قصيدة بعنوان ” رسالة من شهيد إلى أبيه الفلاح” وحدث أن أرسل المذيع محمد الشناوي من ” إذاعة الشعب” مذيعا شابا ليجري معنا حوارات ثقافية قبل معرفة أمر الحرب ، فسجلها ، وأذيعت في اليوم التالي على شبكة البرنامج العام.
صدرت جرائد الصباح ،وهي تحمل بشائر العبور ، وتأكد أهل البلد أن الجيش المصري في طريقه لتحقيق إنجاز محترم . كانت السعودية ودول عربية أخرى قد سارعت بقطع إمداد البترول عن الدول المؤيدة لإسرائيل ، ومنها هولندا وبلجيكا ، وبعد أيام قلائل وسط تقييد الإضاءة علمنا بوصول طليعة كتيبة دبابات عسكرية قادمة من الجزائر ، اخترقت شوارع دمياط الرئيسية في طريقها لجبهة بورسعيد ، ولا أنسى هذا الاحتفاء الأسطوري بهؤلاء المقاتلين الذين شاركونا تجربة القتال ، حدث هذا في الجبهة السورية بإمدادات من كتائب عراقية ، وحدث كذلك في الجبهة المصرية بكتائب رمزية كويتية وسودانية . 
لم أشارك في الحرب إذن، لكنني كنت أتابع ما يحدث على الجبهة بقدر من القلق والتخوف ، وكانت الطائرات الإسرائيلية من طراز فانتوم قد بدأت الإغارة من جديد على المطارات العسكرية في الطريق الفرعي لرأس البر ومطار شاوة بالمنصورة والجميل ببورسعيد حيث كنا نشاهد تصاعد الدخان بعد انتهاء الغارات ، ونسمع أصوات سيارات الإسعاف وهي عائدة محملةبالجرحى. بعد أيام عاد أول جندي رفع العلم في القنطرة شرق ، ليدفع بعلم إسرائيل بالنجمة السداسية واللون الأزرق حيث عرض على الناس داخل فاترينة زجاج بمبنى المحافظة ، وانتشر مجهود التبرع بالدم في أغلب شوارع المدينة ، وفي المستشفيات وأقبل عليه الشبان والفتيات . 
كان كل بيت فيه محارب أو أكثر ، فأجلت الأفراح وهي عادة ما تكون قليلة في رمضان ، وأصبح من المعتاد أن نفتح الراديو على أغاني تلك الحرب تؤدى بنبرة حماسية واثقة مع قدر من البهجةالخفية : ” راجعين” ، ” باسم الله” ، ” عبرنا الهزيمة” ، ” وأنا على الربابة باغني “، عرفنا وقتها أن بليغ حمدي كان ينام في الإذاعة التي لم يغادرها فور نشوب الحرب إلا بعد أن قدم للمكتبة الموسيقية أروع الألحان. كان تحت بيت عائلتنا محارب قد رجع من حرب يونيو ملتاث العقل ، ماشيا على قدميه ، أسمعه يفزع في الليل ، ويقوم يفتح الشباك ويصرخ : يا هوه.. اليهود.. يا هوه. فيسرع أهله بإغلاق الشباك .كف طوال فترة الحرب عن أن يفعل ذلك لكنه عاد في الفترة الأخيرة ليكرر نداءه . كنا قد تعودناه ولم نعر للأمر انتباها .
كان يسكن البدروم مع أسرته وأراه دائما ببيجامة مقلمة بخطوط طولية وفي جيبه علبة سجائر رغم أنه لم يكن يدخن! 
 عم محمد النبوي سلامة هو شيخ الأدباء ، ونجلس دائما على الرصيف المواجه لمحله ويسمى ” مقهى العزوني” .
من هناك نبدأ تجمع الشعراء الشباب ، وننطلق إلى بعض القرى والأحياء لنلقي قصائدنا. كان الإحساس عاليا بأن هذا الحاجز من الخوف الذي فاق الحد قد كـُسر تماما. فبعد هزيمة يونيو سنة 1967 تحدث البعض عن نساء حوامل يهوديات أسقطت طائراتهن ،برعن في المناورة ، وعن دشم خرسانية لا يمكن اقتحامها ، خط ” بارليف “لا يمكن للقنابل الذرية أن تهدمه. لذا فعبور القناة ،وتخطي الساتر الترابي بخراطيم المياه وأسر مئات الجنود من الجيش العبري مثل إعادةاعتبار للذات المقاتلة ، وسطعت أسماء محاربة عظيمة مثل الشهيد احمد حمدي الذي استشهد وهو يصلح عطب أصاب إحدى كباري العبور ، والعميد عادل يسري الذي قطعت ساقه فحملها وواصل قيادة كتيبته حتى تم إخلائه ميدانيا ، وفي كبريت صمد رجال الصاعقة وظهرت بطولات إبراهيم الرفاعي وابراهيم عبد التواب ومحمد زرد ، وشفيق سيدراك ،وصلاح حواش .. محاربين من أبناء هذا الشعب العفي الذي أمكنه أن يتجاوز الهزيمة الثقيلة بعد حوالي ست سنوات.
وفي طليعة من أعطى المحاربين دفعة معنوية قوية الفريق سعد الدين الشاذلي والذي وقعت بعد ذلك خصومة بينه وبين الرئيس السادات. حدثت الثغرة بعد وقت في المفصل القائم بين الجيش الثاني والجيش الثالث ، وحاول الجنرال ” شارون” أن ينقل العمليات من الشرق إلى الغرب ، ونجح جزئيا في ذلك غير أن قوات المقاومةالشعبية تصدت للجنود المعتدين كما حدث في الجناين وكفر عبده وعند مدخل السويس ،واضطرت إسرائيل للقيام بمئات الطلعات الجوية لهدم السويس على من فيها حتى تم وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية في 25 أكتوبر 1973 ، وحدثت مفاوضات الكيلو 101 بين المصريين والإسرائيليين وتولى المفاوضات الفريق عبد الغني الجمسي ، وحدث في 25يناير 1974 فض الاشتباك الأول على الجبهة المصرية.
بعد حوالي عام من نشوب الحرب ، جندت بسلاح الهاون بالكتيبة 16 مشاة ، ومقر قواتنا كان عند منطقة الدفرسوار ، وهناك رأيت بعيني الكراكات المصرية تنتشل الأحجار الضخمة من مجرى قناة السويس وتشكل منه ما يشبه الهرم .
كانت التدريبات تجرى على قدم وساق في سرابيوم ،وضرب النار يتم أسبوعيا في قمة فايد على الأهداف الثابتة والمتحركة. بعد شهور تم الدفع بكتيبتنا لتحتل ” تبة الشجرة ” بسيناء ، وكانت الفرصة متاحة كي أجلس مع المحاربين الذين اشتركوا في ” العمليات ” وأكتب عن الحرب من وجهة نظر غير رسمية ، حيث البطولة للمحارب المصري ،  لا للقادة فقط .
     كنت قد قابلت المقاتل/ الشاعر مصطفى العايدي في أول إجازة ميدانية له بالجبهة فأهداني خوذة باللون الزيتي أحضرها من سيناء بعد أسره لطيار إسرائيلي ، أغار على مواقع سريته داخل سيناء ، وقد أقمت وقتها معرضا مصغرا في مدرستي بقلب مدينة دمياط .
في اليوم الأخيرللمعرض اختفت الخوذة فكتبت بعدها قصتي القصيرة ” كيف يحارب الجندي بلا خوذة؟” وفازت بالجائزة الأولى لأول مسابقة تقيمها القوات المسلحة .
    بعد انخراطي في الجندية أكملت حواري مع مجموعة المحاربين ، وكتبت رواية ” رجال وشظايا ”، وهي من أوائل الروايات المصرية التي عالجت فكرة الحرب، والتي حصدت المركز الثاني في روايات أدب الحرب .
بعد سنوات طويلة نقبت في الذاكرة لأكتب رواية أخرى عن نفس التجربة بعنوان ” وميض تلك الجبهة ” كما عالجت فكرة تجنيد العسكريالبسيط في جيش عرمرم تنتفي فيه الخصوصية وتسود الأوامر الصارمة ، والعيش الخشن ،وهذا لا ينفي فكرة البهجة والمرح وخفة الدم التي تسود العلاقة بين المجندين ، فيميلون للتسامح والمسالمة و” ضرب الدنيا صرمة ” بتعبير نجيب الريحاني ،بالرغم من عبارات خالدة في قاموس العسكرية المصرية :” الحسنة تخص و السيئة تعم ” ، ” لو قرصك تعبان ما تتحركش من مكانك ” ، ” أطع ا لأوامر ولو غلط “، ” حاجتين تحافظ عليهم : سلاحك ، و… يزك” .
      حتى في أوقات القهر ، هناك خيط لامع من النكت المصرية التي تبدد جو العبوس ، وهو ماظهر بعد 30 سنة من خلال مجموعة ” شمال .. يمين”، والتي كتبت عنها وكالةأنباء ” رويتر” فور صدورها . تجولت فترة تجنيدي التي تقل عن عامين في مواقع عديدة : المحسمة ، الدفرسوار ، سرابيوم ، تبة الشجرة ،وخضنا التدريبات الأولية في صحراء المعادي ووادي الملاك ومنطقة العامرية ، وركبنا معدية رقم 6 ، تلك التي استشهد أمامها مباشرة الفريق عبد المنعم رياض ، فصار يوم 9 مارس عيدا للشهيد.
    في الدفرسوار كنا نتدرب 24 ساعة بلا نوم ، ودُفعنا مرتين لاحتلال خط الدفاع الأول حين كانت تتعثر المفاوضات ، وخضت الليل في أثناء البحث عن ” جراية ” ( الخبز الميري )حين كانت تتعطل عربة التعيينات ، وشاهدت الرياح تشتد في الليالي الشتائية فتكشف عن حفر عميقة ، نجد في جوفها جنود من حروب سابقة ، فندفنهم ونقرأ الفاتحة على أرواحهم الطاهرة . صادفتنا أيام صعبة حين كانت نفس الرياح الشريرة تسفح بالرمال حفر الذخيرة فنظل ساعات نطهره لتعود الرمال تطمرها من جديد ، فشعرت بمأساة ” سيزيف ” ، وهو يدفع الصخرة صعودا مرهقا للجبل .
آمنت بضعف الإنسان وقوته حين كان يمرض ” نفر ” منا ، فنحمله على أكتافنا باتجاه السرية الطبية، وبعد محاولات إسعافه ننعطف باتجاه ” عازق ” محفوف بالأشجار كي نشرب الشاي ونسمع ألحان سيد درويش والشيخ زكريا أحمد، فنحس بأننا لم نفقد آدميتنا . أدركت من تجربتي ،مجندا في سلاح المشاة بالفرقة 16 مشاة ـ وهي التي خاضت اعنف المعارك في الحرب ـ أن العساكر البسطاء المنحدرين  من أصلاب الفلاحين والعمال والموظفين الفقراء هم الذين خاضوا الحرب ببسالة ، وحين عادوا من الميدان لم يذكرهم أحد بكلمة ، لا ترددت أسماؤهم في نشرات الأخبار ولا عرفهم المؤرخون .
     تشكل في عقلي يقين أن المقاتل المصري لم يكن بهذا الشكل الكاريكاتيري والمبالغ فيه حين يدخل في منازلة مع عدوه، صحيح أنه يتمنى الشهادة ويقاتل من أجل نيلها ،  لكنه في ذات الوقت يدافع عن حياته ووجوده ، مطيحا بالعدم ، وهو بذلك المعنى يدفع البلاء عنه وعن بيته سواء في الصعيد أو  الدلتا أو  في سيناء أو الواحات ، حين يعود خالعا الأفرول الكاكي والبيادة ، فسوف تنساه الدولة، كلية ، ولن تمنحه ميدالية ولا نيشان ولا وسام .الأوسمة محجوزة سلفا للقيادات العليا .. ( تقريبا هذا هو ما استخلصه الكاتب الراحل محمد الشربيني من قراءة ديواني ” الخيول ” 1982 ليقدم عرضا مسرحيا باهرا ، هو :” غنوة للكاكي والعفرة والحرب” .
القيادة مسئولية بكل تأكيد ، ورغم اعترافنا بوطنيتها وسمو أخلاقها فهي ليست الوحيدة التي خاضت الحرب ،ولكن هذا هو الشكل المتعارف عليه.
      قابلت قبل انخراطي مباشرة في الجندية المحارب محمد عبدالعاطي وهو صائد الدبابات الذي حطم حوالي 23 دبابة ، وجدته إنسانا بسيطا كان يجيد التصويب على الهدف ، وبقوة أعصابه ورباطة جأشه ورغبته في أن يقدم خدمةلبلده ” شيبة قش ـ شرقية ” .. كان تميزه.
     كثيرون سقطوا على محاور القتال في القطاع الأوسط وعند الحد الجنوبي وفي عمق سيناء مع تطوير الهجوم . أولئك وغيرهم لم يحظوا بالرعاية الواجبة ، وحين حدث الانفتاح الاقتصادي داس السماسرة ورجال الأعمال بأقدام غليظة على مشاعرهم، وتجنبوا أن ينظروا في وجوههم ، أو يشاطرونهم شيئا من أحزانهم المشروعة،  وتكاليف معيشتهم المتقشفة .
    هذا ما كتبته في قصصي القصيرة الأولى ، ربما كان أشهرها :” النحيب ” ، ” الأيام الرمادية” ، ” وداعا للدم العقيق ” ، ” قرنفلة للرحيل وخوذة ” ،” 24 ساعة ” ، ” المجذوب “، ” الساتر” ، " الصفعة "  .
وضعتني تلك القصص المبكرة والتي كتبتها بناء على ذكريات وحكايات المقاتلين في الأطقم المساعدة :سرايا المشاة ، م/ ط ، م/ د ، الرشاشات ، الإشارة ، الهاون … على جدول أعمال الأدب الذي يعالج فكرة الحرب. لم أقع في شباك الدعاية الفجة ، والصوت الزاعق والنبرة الإعلامية التعيسة. كنت وما زلت أبحث عن الإنسان وسط ضجيج الحرب ، وقصف المدافع وانشطارات القنابل. ما برح مشهد الجندي الذي استشهد في الحرب ممسكا بقوة بندقيته في الحفرة البرميلية يهزني ، ولا يفارق ذاكرتي ؛ فهو يوميء ، ولو بصورة غامضة عن فكرة الاستشهاد ، ولعل كتاباتي تعلن عن انحيازي الواضح لأهلنا المحاربين من أجيال اكتوت بنار الحرب فطهرتها ، ولم تطهر القلوب الخانعة ولا النفوس الضعيفة المترددة.
سلام على شهداء الوطن. لم أتصور أن تمر بي اكثر من 40 عاما ، فأرفع يدي بالتحية للعلم الذي صانه المحاربون ، وعمدوه بالجرح والدم الطاهر الزكي .

ليست هناك تعليقات: