2014/07/06

بزرة مانجة قصة قصيرة بقلم: محسن يونس

بزرة مانجة 
محسن يونس

الجنة كانت فى المنفى ، والنار كانت فى القلب ، وفى اليد ثمرة مانجو ، أين إذن الوطن ؟ شجرة المانجو تزهر تمنح الهواء رائحة ذكية ، هل تعطى ثمرا فى أرض هذا الوطن ؟! قصر عابدين لا تعنيه الشجرة ولا تعنيه الثمرة ، والطقس يميل للصيف ،
أى خرسيس فلاح يمكن أن يأتى بين يديه خيرا ؟! الكأس يحطمها الخديوى متعمدا أو غيظا - هو إلى الغيظ أقرب - يراق على الأرضية الرخام سائل النبيذ الأحمر ، بين شظايا بلوره الذى من قبل لامس شفتى أوجينى ، ولم تحطمه لأنه ليس حذاء ترتديه مرة واحدة فى حياتها ، كم حذاء انتعلته أوجينى فى حياتها المديدة ؟ اثنان وتسعون سنة عاشتها فى الحياة الدنيا هذه الحسناء التى استعمرت رأس إسماعيل وبدنه بلا طائل ، كم مرة استبدلت حذاء اليوم فى هذا العمر المديد ؟! لو كانت القناة نبيذا فكيف يراق على أحد جانبيها ماء عذبا من يد الخائن يسقى به تلك الشجرة ؟!
« الله الله .. لا نبيذ ولا شمبانيا طعم الثمرة ربانى .. «
توفيق وليس موفقا ، شريف وهو ندل ، أشرف تعنى أوسخ ، محسن وهو بخيل ، عترة جبان ، جعبة الأسماء تُخرج الأسماء ، وهى غير بصيرة بالمصير ، أين إذن الوطن ؟! الوطن تراق على جوانبه خيانة تجر خلفها خيانة تلحق بخيانة ، ثمرة مانجو أم كأس شامبانيا مع المعتمد البريطانى ؟! أم هو كأس من الويسكى ؟!
« يا شيخ اسكت واقفل بوابة أسنانك خارج منها يأس .. «
الصورة تملأ الكتب ، أتريد موتا أكثر من هذا الموت ؟! تتكدس ملايين الصور فى الكتب لا أنفاس لها ولا حركة تعانى موتها ، يأتى زمن من الأزمنة يحلو لبعض من يمسك بقبضته ميثاق الطاعة ، ومن يعمل فى معيته أن يستخرجها من سجلات محفوظة لتطبع فى كتب الناشئة عملا من أجل إحياء ما مات ومن أجل اكتساب أرض تصب فى حجر هذا الجميل المسمى الوطن المحبوب من كل أطياف الطبائع والنحل الصالح والطالح العادل والمستبد ، وهو وحظه مع إن حكمة تدور فى المقاهى وعلى نواصى الشوارع وعند محطة الركوب وفى الأسواق تقول : عدوك اللدود موجود داخلك ، القدرة على الصياغة غير القدرة على الفعل ، لكن الناس تعيش حياتها مثلها مثل خميس جمعة الذى أكل بيضا فاسدا ، وتكرع شفا وهنا ، كأس خمر خميس كوب ماء ، ونام ، استيقظ على صوت سنابك أحصنة ، وخطوات تمشى بجزم لها نعل قاس ، وناس تدعوا بالتوفيق والنصرة ، توفيق مرة أخرى ؟ الله يخيبك يا خيانة ، أما النصرة فهى للأسف لمن سيذهب إلى المنفى حيث توجد شجر المانجو ، وخميس جمعة لم يكن يعلم أن فى الدنيا التى يحيا فيها هذه الشجرة ، ومات قبل أن يتذوق ثمرتها ، ثمرته يا ولداه لا تكتمل حتى وهو يخرج من بيته فرأى هوجة وعساكر ، سأل وعرف إن الراكب حصان أبيض هو أحمد عرابى ، وإنه له مطالب وسوف يواجه بها الخديوى ، ومشى مع الركب يتفرج ، فجأة لعبت مصارينه بقسوة ، وشعر إنه لا بد له من دخول بيت الراحة ، تقهقر جريا إلى بيته ، فخرج من الصورة حينما التقطتها عين الكاميرا أو ريشة الرسام ، وهو يشرب كوب الشاى على أبواب المقهى المطلة على قصر عابدين أقسم أنه موجود ضمن اللمة حول عرابى من الأهالى التى اقتنصتهم الصورة لتهديها للزمن والكتب .. يا تعيس بطل الكذب هذا رفاعى ابن شهيرة اللبانة ، وهذا قشتمر تاجر الأقمشة ، و هذا عتريس العايق تاجر ومؤجر حمير النقل ، كانوا معى والله كتفا بكتف ، لكن الله يلعن المغص خرجت بسببه من الصورة .. وهل عاش خميس جمعة صاحب المصبغة بباب الخلق ليرى مناهج التعليم بداية من منتصف الخمسينيات مرورا بالستينيات من القرن العشرين ؟! لماذا تخونه السنوات والعهود و هو ليس من المتحولين الذين ظهروا فى السينما الأمريكية ويعيشون قرونا دون أن يحصدهم هذا الشر برا وبعيد ، حتى يشير بإصبعه الملوث بالصبغة إلى تلك الصورة لعرابى يركب حصانه الأبيض ، ومن خلفه فرسان زملاء ، وعلى يساره عساكر الجهادية ؟! يا حبيبى خميس جمعة عاش فى أولاده وأحفاده ، وشافوا الصورة ، لكن الذى لا تعرفه الصورة أن خميس جمعة كان يهرول بين الناس المصاحبة للهوجة وهو فى عمر الخمسة عشرة عاما ، وبعد خمسة أعوام سوف يتزوج ويزف فى نفس الشارع على ضوء الكلوبات ، عتريس العايق مطرح ما كان الحصان واقف رقص رقصة هز فيها أوراكه ، وشفط بطنه ، ونزل بمقعدته إلى قرب الأرض ، وقفز فجأة لأعلى مع الدوران فى الهواء قبل أن يرتمى فى حضن خميس جمعة العريس ، ظل الناس يحكون عن براعته فى الرقص مثل براعته فى انتقاء الحمار الحصاوى من بين ألف حمار ، عتريس العايق له صورة بالجلباب البلدى وعمامة بيضاء وعصا خيزران يركنها على فخذه ، يشرب كوب السوبيا البيضا معلقة فى مقهى اشترك فى ملكها خوفا من بوار مهنته مع الزمن الدوار ، ذكى ابن اللذينا فإن الأيام القابلة حكمت بالفعل وخلت القاهرة من منظر ركوب الحمير وبقايا فشلها يوسخ شوارعها ، أسفل الصورة جلس مع خميس جمعة وكانت زوجة الثانى على وشك الوضع ، وتمت مناقشة بين الاثنين حول لو جاء المولود ذكرا فماذا يكون اسمه قال : « توفيق .. « مال بعيدا كى لا تصيبه الضربة بظهر اليد ، لم يستطع تفادى الضربة الثانية : « طيب وعرابى ؟! أنت مشيت فى الهوجة ؟! ادخل جوا الصورة يا أهبل ..»
فى الخامسة والثلاثين على قهوة متاتيا بالعتبة الخضرا كان تعبا من مشوار حمل فيه ملابس تمت صباغتها لناس من أصول أتراك أتعبوه فى المساومة على ثمن الصباغة ، علما بأنهم سبق أن اتفقوا على الثمن ، لكن من فعل خيرا وجعل من قلل السبيل صدقة يشرب منها العَطِش ويحمد ربه ، فإذا به يتأمر ، اشرب من هذه خرسيس أدب سيس ، آمرا له بأن يشرب من قلة أخرى، لمجرد الرغبة فى السيطرة والتحكم ، ماعليهم عتاب .. حوّد وجلس طالبا شراب السحلب ، القهوجى قال له الدنيا صيف يا معلم السحلب مشروب الشتاء ، والمقهى يقدم قهوة البن المحوج ، على لسانه يسب ويهب يعمل هُليلة لكن عينيه رأته ، ساعتها عرف وتأكد إنه صاحب الصورة والحصان الأبيض ، الفاتحة تجوز على الميت وعلى الحى ، اجلس يا بنى مالك تقف تبحلق ؟! اطلب لك سوبيا صاقعة على حسابى ، الحصان يا باشا أنا أشتريه ، محسوبك خميس جمعة ومعى خير ربنا ، حصان من يا ولدى ؟! الحصان يا سيدنا أنا كنت شايفك يوم الهوجة ، أحمد عرابى يا أسيادنا احتار دليله بعد عشرين سنة الحصان مطلوب من أجل صورة ، خميس جمعة رأسه وألف سيف يقف بجانب الحصان ، أو يركب فوقه وكان وصيته للمصور إن لقطة الصورة تظهر الحصان بقوامه كاملة مرة ، ومرة رأسه بعرفها مع رأس خميس وهو مرجعها للخلف وناظرا مباشرة فى عيون الناس ، يا ولدى إذا كنت تريد حصانا فالأحصنة فى السوق ، لا يا باشا النفس والهوى فى حصانك أنت ، خذ يا بنى .. خذ بذرة مانجة ازرعها ، أخرج البذرة من جيبه ومسكها فى يده الممدودة ، جبتها من الجنة هناك يقولون عنها سرنديب .. بذرة ؟! الحصان يا والدى سأدفع فيه ما تطلبه من جنيه لألف ..
عمرك يا خميس أهبل .. شاربى أحلقه وأعيش حُرْمة إن ما جعلتك تركب نفس الحصان ومن خلفك عساكر الجهادية .. طيب وهو يا عتريس ؟! .. تركب مكانه ..
عند جنينة الأزبكية رجل مصور التقط من الصورة ثلاثا ، والتقط لخميس صورة وهو فاتح ساقيه على عمود من الخشب ، وظل يقطع فى الصور ويلصق فى الصور ويلتقط المنظر بعد المنظر ، فى النهاية ضحك وظل يهرش صدغه مبهورا بالنتيجة ، عاشت صورة خميس يركب نفس الحصان معلقة بصدر مقهى عتريس وشركاه ، والذى لا يصدق أن خميس جمعة فاز بالحسنيين معا عليه إعطاء ظهره لميدان التحرير اليوم نازلا من شارع محمد محمود سائرا على قدميه حوالى خمسمائة خطوة ، سيجد إلى يمينه أحد البيوت القديمة واجهته قطعة أرض مترا فى متر ترتفع فى هذه المساحة شجرة مانجو من تلك البذرة التى أعطاها عرابى لخميس جمعة ..
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/295146.aspx

ليست هناك تعليقات: