بقلم : عبد القادر صيد
لم يكن يحمل شارة (press) ليحمي نفسه من القذائف ، فالقذائف لا تستثني أحدا ،و
إنما كان يحملها ليستأذن بها عند تصوير الناس أثناء صدمتهم و المفترض أن تكون لحظات ضعفهم،وحين
شرع في عمله وجدهم يصورونه،عوض أن يصورهم، يصورون ضعفه ، بل و ينحتون لحظة اندهاشه
.. و دون أن يحرجوه كانت أعينهم تزف إليه التعازي .. كان يحس بهذا ، كما كان يحس بافتضاح
أمر من أرسلوه .
ـ من الحمق أن نخاف من قانون يسري على الجميع ، فنحن
جميعا تحت القصف، و نسبة التعرض للخطر متساوية !
هكذا
كان يجتر هذا المفهوم ليصبّر نفسه ،و يخفف
الانفجار المكتوم داخله ، و يرتب فوضى وجدانه،
و بهذا كان يحاول أن يخرج من القوقعة التي توهمه أنه مستهدف أكثر من غيره. متى سيتعود
على الدماء مثلهم ؟و متى يتصالح مع منظرها ليتعامل معها كمفهوم و كلون لا كأشباح
تخدش الجلد،أو كنباح كلاب تهيج الوجدان و تجنن الخيال ؟ هل سيتخلص من هذه الصدمة
المربكة عند رؤية الناس يفقدون بعض أعضائهم أو كل أعضائهم؟ وإلى متى سيتستمر بحيرة
ذهنه تتلوث كلما رأى شخصا يتشوّه؟! ربما هو شخص
عادي و هم فوق العادة ! يبقى مما لا شك فيه
أن ما يحدث في المدينة هو الذي فوق العادة!
ـ حينما توقن أن هذه الصواريخ النازلة ما هي
إلا أوسمة تصطفى بها السماء من اختارته للارتقاء ، فأنت تقترب منا ، وحين تراها دنانير تلمع من بعيد ، ثم تنزل
لتبعثر شمل الخوف..فأنت مثلنا.. في انتظار ذلك تمتم معي :إن تكونوا تألمون..
هذا ما ألقاه في
روعه شاب مرّ عليه بسرعة البرق و لم ير
طيفه.
ـ سمعت بأن الذعر
يطوف في المدينة ولم يجد مكانا يستقر فيه ..سيتسلل إلى قلبك حتما إن لم تملأه بالغضب و الانتقام..
اغضب و دع الذعر يبيت في العراء أو يرجع إلى من أرسلوه ،فإن الذعر جبان لا يبيت
إلا بين أهله ، في انتظار ذلك تمتم معي: و ترجون من الله..
كانت هذه وشوشة شخص
آخر ..
ـ انظر إلى السماء،
ما ينزل منها هو بذور الرجولة ،كل مكان
تسقط عليه ينبت فيه و حواليه رجال .. في انتظار أن تنبت تمتم معي : إن
يمسسكم قرح ..
قالها شخص غريب ومر
دون انتظار.
لم يشك لوهلة أن هناك مغناطيسا يجلب هذه
القنابل ، إنها تشم رائحة الديناميت في عروق هذا الشعب و تشتاق لمعانقته ..من قدور
مطابخهم يصعد بخور التحدي.. قدرهذا الشعب أن يكون مدرسة لقياس مدى المقاومة
الإنسانية و صبرها.
حاول
أن يتأقلم مع وضعه الجديد، أن يتجاوز مرحلة الحدث ، ويتطلع إلى ما بعد القتل و
الجرح و الإعاقة ، أن يفكر فيما بعد القصف وما بعد العدوان،حتما سينتهي هذا
العدوان، و لكن إلى متى ستستمرّ آثاره؟!
ترى كم من معاق سيحتاج إلى من يعينه؟ و كم
بيتا فقد معيله؟ و كم طفل تيتم؟ و كم امرأة ترملت؟ و كم، و كم ،و كم ؟ باب من جهنم
يفتح بهذه الأسئلة ، فلنترك همّ الغد للغد.
الناس هنا لا يفكرون في الغد ، لأنهم لا
يفكرون إلا في الصمود ، و لا يترقبون إلا رد المقاومة ..لقد ألغوا كل الصداقات
الزائفة ، و غيروا فصيلة دمائهم حتى لا يحتاجوا إلى إسعاف أحد..فكل قذيقة تحرق
جلدا من جلود أبنائهم فإنها بصقة في وجوهنا، و كل انفجار دمر عائلة فإنه تأبين لرجولتنا..
ها هو الآن يتحسس نفسه ، و يحاول أن يتأكد من أنه
هو، لقد امتلأت رئتاه بمادة الحياة ، بمادة الديناميت ،زال عنه ضيق التنفس،وتناغمت
أنفاسه مع أنفاسهم ،ارتاح كثيرا لهذا الإحساس الجديد ،لكنه شك في أن تكون قد ركبته
نفس أخرى، كما خشي أن يفقد هذه الروح إذا
رجع إلى بلاده .. تمنى لو يبقى مكان القصف ليستنشق المزيد من بخار الحياة .
هنا ،
و في هذه اللحظة فقط بدأ يفكر فيما ينقله إلى العالم .. هل بإمكانه أن ينقل
الجريمة كاملة كما هي ، إن ذلك من أكبر المستحيلات ، فكل صورة دمار مرتبطة بصور
أخرى و بأشخاص آخرين ، و إذا نقل لهم فيديو فإنه لابد له من رابط مع غيره من الفيديوهات
مع آلاف الشروح ، فلنفرض أن هذه المرأة مثلا تبكي ابنها الشهيد ..فلابد أن يشير
إلى أن زوجها قد سقط شهيدا قبل سنوات،وأن أخاها قد استشهد منذ شهور، و أن أختها قد
عانقت الشهادة في السجن منذ أيام..
فالشهادة نسب
يربطهم
والشهادة وراثة في
الجينات بينهم
و الشهادة وشم على
جباههم
والشهادة جنسيتهم
والشهادة تكتب في
شهادات ميلادهم
وهكذا هي سلسلة لا
أول لها ولا آخر من الشهادات .
و فجأة رمى آلة
التصوير من يديه قائلا :
ـ أستطيع أن أرسم للعالم
لوحة فيها براق الشهادة يصهل لتفتح له أبواب الجنة ..في غزة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق