|
ياسر محمود محمد
الروبوت الطيب .. الجميل .. ذو الرأس الفضي الأصلع المشوش بعريقات سلكية شاعرية
، ومناطق فارغة منزوعة من الرأس أكثر سريالية . ذو الأذن الربقة والعيون السوداء اللامعة
مفضض ما حولها ، وقد انتشر طيف العريقات حولها حتى عبر الأنف المصقول إلي أن وصلت العريقات
إلي الشفتين الرقيقتين اللتين تنحدران في أصول وراثية روبوتية إلي الجد الروبوت الأول
.
بينما نغزتان معدنيتان قائمتان لحمل
الرأٍس وجعله يدور في دوائر رأسية ، والجسد النحيف المتناسق كأروع آيات التناسق.
أحست فجأة الروبوت " ت
1212 " من طائفة الأمهات الروبوتية بسكين يشق قلبها البلاستيكي عبارة عن فرق جهد
عال ، وهي تنظر إلي صورة الروبوت الضحية " المقتول غدرا " علي يد احد أفراد
الآدميين الذين يعيشون في مستعمرة منبوذة فوق تابع الأرض الوحيد .. القمر !
لقد سيطرت الروبوتات الجينية المتحولة
علي الأرض في سنين معدودة ، بعد الثورة الروبوتية الآلية لهذا الجيل المتطور ، لم ينج
من تلك الثورة سوي درة إبداع الأرضيين .. مستعمرة
القمر التي كانت أكثر الأماكن تطورا والتي أنشأت بفضل الإنسان شبه المنقرض القديم .
عادت الروبوت " ت 2012
" إلي ذكرياتها وهي تتأمل الروبوت المقتول غدرا ..
-
كان طفلا .. ولم يكن
يستحق تلك الميتة .. قالت لنفسها
-
كان جميلا ، عذبا
، ككل أطفال الربوتات ، اعتدلت فجأة وركعت علي قدمين معدنيتين أصدرتا صوتا موسيقيا
وهي تتلو بصوت ثنائي الترددات صلاة وثنية للربوت
الجد الأول .
-
كلنا من أم واحدة
.. هي أيضا أب واحد ، الروبوت المتفرد الأول .. الذي تطورت تقنياته لتتناسل أحقاب الروبوتات
عن طريق مصانع مقدسة تنتج أجزاءنا المعدنية ذات الحرمة الأبدية علي كل من ينتهكها .
في قاعة المحكمة ذات اللون البنفسجي
بدرجات عدة .. اصطفت كائنات معدنية مختلفة الشكل والتكوين في مجموعات تضم كل نوعية
منها ، كانت الكائنات في وضع الوقوف في صفوف متوازية دقيق ما بينها من مسافات إلي حد
مذهل ، بينما جلس نخبة مختارة منهم حول منضدة عالية عليها أجهزة معقدة يبدو أعلاها
أشبه بلوحات رقمية تعمل بلمس الأصابع ذات العرقفتين
المعقوفة لها . كانت النخبة ترتدي حرامل وردية عليها خطوط بحروف مبهمة ، ربما هي لغة
خاصة مقدسة للروبوتات الأوائل ، تزين جبهة الواحد منهم قرص بلاتيني في حجم العملة المعدنية
التي تنطق قيمتها والتي يتعامل بها العاديون من الروبوتات في المجتمع الآلي فوق الأرض
.
كانت لمبات عدة تنير وتطفئ في أوقات
مختلفة بينما تبدو في العتمة شاشات معدنية عملاقة ثم تزول مع لمس أحد الروبوتات المعاونة
للنخبة .. وكأنها تجربة لها .
الروبوت ( ت 2012 ) من طائفة الأمهات
الروبوتية تلمع في عينيها المعدنتين بريق لشرارة كهربائية غاضبة . بين حين وأخر ..
فيما هو أشبه بالبكاء وهي تنظر
إلي الكائن الآدمي رقيق الجلد .. أشعث الرأس طويل الشعر .. عفن الثياب التي لم يبدلها
منذ فترة ، تتصاعد منه رائحة نفاذة وقد نمت عضويات صغيرة في أطراف أصابعه العلوية والسفلية
مما يشير إلي طول مدة احتجازه ( سجنه )
لم تكن مدة الاحتجاز قد طالت بسبب
نقص عوامل التحري في الجريمة ف(الروبوتات قادرة علي معرفة أي سر .. وأي غامض بفضل تكنولوجيتها
)
وهذا النص من الكتاب المقدس للروبوت
الأول .
لكن السبب في طول مدة الاحتجاز هي
الرغبة في إذلال الآدمي ، كما كان يحدث من
الآدميين في سجل الروبوتات الأولي قبل الثورة ، و إجبارهم علي العمل خدماً و عبيداً
في كل مكان في كوكب الأرض .
كانت الروبوت ( ت 2012 ) من طائفة
الأمهات تحدث نفسها معزية إياها عن أن ذاك الذي قتل الروبوت الجميل الطفل قد أُذل بما
يكفي و سوف يلقي جزاءه العادل بعد قليل .
* * *
أُطلق صفيراً دام لفترة ليست بالهينة
في قاعة المحاكمة البيضاوية .. فسكتت علي إثره تدريجياً الهمهمات المدينة و المنددة
و الشاجبة للبشري المسكين ، الذي رقد منزوياً في الطرف الأيسر للقاعة . . و غمغم الروبوت
المساعد للروبوتات الخمسة حول المنضدة القائمة في شمال القاعة ببضع كلمات و افتتحت
علي إثرها الجلسة .
* * *
قالت الأم لنفسها
- ها قد جاءت لحظتك . . لحظة القصاص ، أن أمثالك ممن لازالوا في مستعمرة القمر
و لم تختطفهم القوة الروبوتية لا يعرفون أننا درسناهم حق الدراسة من حيث تكوينهم البيولوجي
و الجسدي و المخي المتخلف .
ثم استدارت بطرف عينها الآلية خوذة
بللورية ركبتها روبوتات ترتدي شارات خاصة فوق دماغ البشري الأعزل ، و الذي بهت في مكانه
دون أن يستطيع حراكاً في وسط هذه القاعة الجامدة ذات المشاعر الصلبة الجافة .
بدت علي الروبوت الأم الراحة . . و قالت لنفسها
-
لن تكذب علي الآن
، فهذه الخوذة تظهر دماغك علي الشاشات الضخمة ثم واصلت بنبرة معدنية داخلية :-
-
أنتم نفسكم يا بني
البشر عرفتم الرنين المغناطيسي في أواخر عهدكم .
راجعت الكمبيوتر الداخلي و الذي أورد لها المعلومة بأن ذلك كان في أواخر القرن
العشرين .
ثم راجعت تفاصيل المعلومة بدقة
و هي تجترها عبر كل خلاياها الكهروضوئية ( و بسرعة كوراكية لم تعرفها أبداً هذه الكائنات
المتخلفة في أدمغتها ) ( كانت الجملة السابقة تدور بخلدها في نفس الوقت الذي تجتر فيه
المعلومة فالروبوتات تقوم بأشياء عدة في وقت واحد ) .
إن هذا التقنية تسمح بتصوير مناطق
الدماغ البشري المختلفة لمعرفة تأثير التغير المغناطيسي للدم في المخ عن طريق اكتساب
أو فقد الأكسجين فالمناطق النشطة – خاصة في خلال الكذب أو استرجاع معلومة من الذاكرة
– يتغير النشاط المغناطيسي لها لاحتياجها إلي مزيد من الأكسجين حين يبدأ البشري في
الكذب .
و يصرخ جهاز خاص كما تسمعه الروبوت
الأم الآن . .
-
أنت تكذب يا بشري
!
لقد دارت نغمة راحة داخلية كهروضوئية في أنحاء
الروبوت الأم و هي تسمع العبارة .
" نعم إنه يكذب . . و بالتأكيد سيعدم نتيجة لكذبه "
العبارة ( أنت تكذب . . يا بشري
) . سمعها كل من في القاعة و أصدروا أصوات فرحة بها في شكل صغير متقطع عندما صدرت من
الجهاز غير المرئي الذي يحكم كل قاعة المحاكمة و قد ظهرت الدماغ البشرية بألوان حمراء
فاقعة في أجزاء منها فوق الشاشات التي تبرز و تختفي من العدم :
كانت الروبوتات قد سمعت رئيس المحكمة
و هو يقول :-
-
لقد أشار الجهاز بأنك
كاذب . . عند سؤالك ( هل تكره الروبوتات ) ؟
عض البشري علي شفته السفلى نادماً و هو يحدث نفسه
في غيظ – من أين له أن يقول أنه يكره الروبوتات ؟! يكره كل تلك المشاعر الآلية المصطنعة
و المجتمعات الروبوتية التي لا تعرف ما كان يشعر به هو و أقرانه البشر .
من أين له أن يصرح بذلك و هو بين
كل هؤلاء الروبوتات التي تمتلكها شهوة الانتقام .
انتابت الروبوت ( ت 2012 ) من طائفة
الأمهات فرحة كهروضوئية خاصة و انتظر الجميع السؤال الثاني
-
ماذا كنت تفعل أثناء
محاولة الروبوت الطفل " ميومي " " القبض عليك " ؟
أجاب البشري ، إجابة ما . . علا بعدها الهتاف
مرة آخري عقب صراخ الجهاز كما سمعته الروبوتات بلغتها مرة و بلغة البشري مرة آخري
.
-
أنت تكذب يا بشري
!
جهاز كشف الكذب عن طريق دماغك يشير بأنك تكذب
عندما كنت تقول بأنك كنت ذاهباً للروبوت الطفل " ميومي " لتعمل لديه خادماً
حسب قانون معاملة البشر الأول .
تحركت الروبوت الأم - دون أن تدري
- مسافة ضئيلة جداً للخلف و هي تغمغم بينها و بين نفسها :
-
ها قد حانت لحظتك
. . أيها المتبقي من هذا الجنس البائد . . ستُعدم بالتأكيد .
قالتها و في عينها نظرة تشف شاركها فيها كل من كانوا من جنس واحد في القاعة
الضخمة .
قال الروبوت الحاكم للقاعة :-
-
و الآن ، إلي السؤال
الفاصل .
-
هل قتلت الروبوت الطفل
" ميومي " عندما حاول القبض عليك ؟!
كانت إجابة البشري فورية فعلاً لكنها كانت مستنكرة
و في صوت خائف . بينما يضرب بيديه علي الحواجز غير المرئية التي تحجزه فتصدر منها شرارات
متقطعة
عقب إجابته مباشرة . . حطمت الروبوتات
قاعة المحكمة بضجة هائلة ، و سقطت الروبوت الأم مغشياً عليها نتيجة أزمة كهروضوئية
في خلاياها لزيادة أحمال الطاقة ، حيث لم تحتمل نتيجة جهاز كشف الكذب الدماغي و أخذ
المكان يضج بالشرارات المتطايرة و الروبوتات الآلية تحطم كل من في طريقها حتى وصلت
إلي البشري المسكين بتواطؤ من الحراس الآليين. . ثم فتكت
به . . و بكل قسوة .
* * *
كانت إجابة البشري التي صنعت كل ذلك هي
-
لم أقتله صدقوني أيها
الروبوتات السادة . . أقسم أنني لم أقتله . . كل ما حدث أنني وقعت فوق جسده المعدني
الضئيل حينما كان يحاول القبض علي فانكسرت دماغه .
صرخ بعدها الجهاز في القاعة و بلغة الروبوتات .
-
أنت صادق . . يا بشري
-
لقد كانت الجريمة
حادثاً عرضياً !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق