2014/07/19

"بعض الصمت نزيف" قصة بقلم : عبد القادر صيد

بعض الصمت نزيف
  بقلم : عبد القادر صيد
   صرخة حزن مبحوحة تخبطت ثم تاهت في تجويف آلة العود تحسرا على وتر خلق للنغم و الحياة  نزعه صياد  لينشد به مبكاة البحر..كان هذا هو إحساسه  و هو يفتقد مريديه الذين رباهم على المبادئ فلما لاعبوا الكبار كبروا،لم يعودوا يزورونه في غيبوبته بحجة أنه لا يعي ما يدور حوله كما قال لهم الأطباء..
 يسمع الممرضين الآن يتخافتون:
ـ إنه يحتضر،انتهى أمره .
ـ  خدعوا باضطراب أوصالي ، و تأزم أنفاسي ، و جحوظ عينيّ ، هي مجرد حالة تشنج سطحي ،  ففكري مازال هادئا  كما البحر تتلاطم أمواجه بينما عمقه هادئ ، لطالما فضّلت العمق في حياتي، و فضّل مريدوي ركوب الأمواج..ما زلت أحجز مقعدا في المسرح يا سادتي الأطباء..
   يريد أن يحرّك أوصاله فلا يستطيع ، يكلمهم فلا يصلهم كلامه ، ما يحدث له يشبه الحلم أو بالأحرى يشبه حياته كلها، كلامه اليوم كما كان من قبل  كنز لا يطلع عليه إلا المقربون ،و ما ذلك بسبب توحده أو تكتمه ، فلغز الكنوز لا يصنعه إحكام دفنها ،  و إنما يصنعه جهل الدلائل إليها،لذلك ما وصل إليه إلا القليل الذين ظنهم للأسف النخبة،تساهل معهم في فك شيفرته ، فباعوا الشيفرة ببريق الكراسي ، ما كان عليه أن ينثر بذوره كلها على سطح داره ، لقد حجبت الطيور عنه وجه السماء ،ونزلت عليه الجذور لتخنقه و تقتات من دمه..
    بدأ يقلق من أن يدفنوه قبل أن ترقى روحه ،لا خشية من الموت ، و لكنه لا يريد أن يرحل من الباب الخلفي لهذا الموت البارد  كرخام المستشفى ، يريد أن يستيقظ، و يصفق على آخر مشهد في مرثية مسرحيتهم، كما الغريق يتوسل للبحر ليتفضل عليه بطفوة أخيرة ليودع ببصره العالم..يرفض بشدة أن ينفذ فيه الموت طلقة مسدس مكتومة ..  لذا انتفض انتفاضة  قوية  حينما أعلن كبير الأطباء موته ، نهض من مكانه ، و صرخ ..
 ـ لا..لا..لا.. أنا لم أمت بعد .
لم يسمعه أحد.. دخل في صراخ هستيري ..
ـ لا ..لا.. ما زلت حيا يا سادتي ..
   لكنهم ماضون في ترتيباتهم ، لا يثنيهم صراخه و لا نهوضه من فراشه  ، لأنهم لا يسمعونه ، و لا يرون تحركاته، يحاولون تلقينه الشهادة ، ولكنه يحاول أن يتملص من أيديهم رافعا عقيرته ..
 ـ أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله،لكنني لم أمت بعد..
   أسرت هذه السكينة كبير الأطباء فقرّب أذنه من فم الشيخ كعادته  مع من يتوسّم فيهم شيئا مختلفا، فسمع أصداء الشهادتين تخرج من بئر سحيقة بصوت خافت ، هادئ و مطمئن ..ابتسم ابتسامة خفيفة لأنه مرت عليه حالات مثلها ،حالات لهؤلاء الصامتين الذين يمضون إلى العالم الآخر دون صخب .
  قدر الطيبين أن  يعيشوا صامتين و أن يرحلوا صامتين.. و بعض الصمت نزيف الصراخ !

ليست هناك تعليقات: