عطر السكون
محمد
صفوت محمد عبد العزيز*
ـ كان صباحا عاديا , العصافير والطيور والمخلوقات كانت
تنظر إلى الوقت فى ترقب , ألقت الشمس
تحية الصباح كالعادة من
شرفتها جهة الشرق وهى تتمطع فى تكاسل ,
عندها كان يفتح الباب الصاج مستعينا بأحد المارة , رش الماء أمام باب الاستديو , جذب كرسيه
الخشبى وجلس على الرصيف
أمام الباب يقرأ أحد الصحف
الصباحية , يشم رائحة الشمس على سطح جلده
المجعد , يشعر بدفء لذيذ, يداعب خصلات شعره البيضاء التى تتخذ شكل هلال مقلوب حول
صلعته, يتطلع فى وجوه العابرين المرهقة ليمارس هوايته المفضلة فى تخمين أعمالهم , الجهات التى يقصدونها , حالتهم
الإجتماعية , هذه المشية الناعسة لفتاة تبحث عن الحب , هذا الرجل الاهث بحقيبته يسعى
للحاق بخزينة البنك , الأرداف المستديرة ببعض الترهل هذه لا تكون ألا لسيدة مجربة , بعدها يذهل عن حركة الشارع الذى
يرتبط به بتاريخ بعيد
, يحلق فى الا شىء , ينساب خيط
من ذكريات باهتة , يبتسم , يقهقه بصوت مجلجل , تدمع عيناه أحيانا
, عند منتصف النهار تفرض الشمس سطوتها على الكون , يعزف
الشارع ضجيجه بألات الضوضاء
, أبواق السيارات , هتافات الباعة الجائلين التى تشبه صرخات حيوانات مذعورة , يخرج العيال من المدارس , يقذفون
الطوب بعبث فى كل الاتجاهات ,
يشكلون سحابة من غبار , لا تتحمل أعصابه هذ ه المقطوعة
الصاخبة ينسحب إلى الداخل : ستديو على بابا للفتوغرافيا الحديثة . يعد كوبا من الشاى على سخان كهربائى
, يرتشف بهدوء صوت المنشاوى , أم كلثوم , يغلق المذياع بعد
نشرة الأخبار , يمدد ساقيه على مكتبه
الخشبى المتهالك وهو يتألم من خشونة ركبتيه
, ينظر إلى الصور القديمة المعلقة
على جدران الاستديو , بعضها يكسوه التراب تماما , والبعض بهتت ألوانه , غزل
العنكبوت خيوطه باطمئنان تام فى زوايا الأطر الخشبية والمعدنية ... ,
يغفو قليلا حتى قبل العصر
, يحدث ذلك كل يوم , لكن ما حدث عقب
عصر هذا اليوم لم يجد له تفسيراً, كان يتناول شاى العصارى , يتلصص على حركة الشارع
من خلف الواجهه الزجاجية , فتاة تعبث بأنامل فتى متكاسل عن الحب بينما يعبث الهواء
بذيل فستانها , نهدان يتقافزان على حبل الغسيل
فى بناية مقابلة , ضرير يضرب بعصاه
الأرض متلمسا طريقه , رجل يتمطع ليحمل حقيبة ثقيلة , سيارة عابرة
بها سيدة تنفخ دخان سيجارتها بعصبية زائدة .... فجأة ضربت عاصفة صامتة الجميع , ساد الصورة
سكون مخيف , حل جمود قاتم على كل شىء , , توقفت السيارات , عصا الضرير صارت معلقة
فى الهواء , بقى ظهر الرجل مقوصا تحت عبء الحقيبة الثقيل , بدا النهدان كقطين
جامدين من المرمر, تخشبت يد الفتاة
قابضة على يد الولد , ذيل الفستان توقف عن الرقص كاشفا
عن أسرار لذيذة , أصبح
الجميع تماثيل باردة , ظل دخان السيجارة
عالقا مشكلا خيطا رفيعا , سكن الهواء الذى ينفذ من تحت أعتاب الباب , بيييييييييييييييييبببب طويلة لا تنقطع , صوت
عبد الباسط فى المذياع كان جليا فى
امتداده المستمر ....... والسماااااااااء
, لم يستوعب , حرك أصابعه , هز
رأسه , تحرك حركات مضطربة داخل الاستديو , اطمأن إلى أن يد الجمود
لم تلمسه , أخذ يتطلع ثانية إلى الصورة , كأن أحد رش الجميع بعطر السكون ,
تمنى أن يصعد إلى السطوح ليشاهد بانوراما الصمت فى كل أنحاء المدينة , تراجع عن
قراره , لا يحتمل أن يبقى تمثالا , حاول أن يتغلب على قلقه ’ أخذ ينظف زجاج
الواجهه الزجاجية , بدأ الزجاج يلمع , تجلت صلعته على سطح الزجاج , لم يفعل ذلك
منذ زمن طويل , لا زبائن تأتى , يفضلون الألات
والكاميرات الحديثة وخدع الكمبيوتر
التى تجعل ولدا يقبل فتاة على سطح القمر ,
كان يرى ذلك مسخا باهتا للواقع , رفض
أوامر أبناءه فى إغلاق الاستديو ...... حياتى كلها هنا
تناول منفضة من الريش , لم تتفهم العنكبوت وهى تجرى هذه الحركة المفاجئة , أخذ
يزيل الغبار عن الشخصيات الجبيسة داخل الأطر والبراويز , يكنس التراب من على وجوهها , تتضح معالمها تدريجيا , هذه الشفاه
المكتنزه لسيدة يونانية , هذا الغليون
لسفير على ما يذكر , الشارب الكثيف لصعيدى أصيل , ... نعم هذا العريس الذى طلق زوجته على باب الأستدسو
أثناء الزفة , لم تعد سيارات الزفة تصطف أمام الباب , أخذ يلمع أكثر
, يعيد إلى الألوان نضارتها ,
تستعيد الشخصيات عافيتها , امسك صورة
كبيرة بدت لفتاة , رش منظف الزجاج , دعك بقطعة من الأسفنج , اتضحت المعالم, فستان
من الدانتيلا , حذاء بكعب عالى , دعك الأسفنجة أكثر , يبدو أنها كانت تتراقص ,
حاول أن ينفض الغبار عن ذاكرته , لم يتذكر , عندما استدار سمع صوت
طقطقة البرواز الخشبى , قفزت الفتاة من الصورة , ترقص , تتمايل , تلف على
قدم واحدة , يتطاير فستانها , يحلق , اضاء مصباح غرفة التصوير , يمسح التراب عن
العدسة , اشعل الكاميرا , يشد بفرح خلفية
بلون البحر , فلاش , الفتاة تقفز من مكان إلى مكان , من وضع إلى وضع , يلهث وراءها , فلاش , يشعر
بإرهاق لذيذ مع ألم الروماتيد , تقف الفتاة على أطراف أصابعها , يلهث , فلاش ,
تجرى ناحية الباب , يصرخ ,. يطلب منها أن تتراجع , تنحى فى دلال , تنفذ إلى الخارج
, ترقص بنشوة وسط السكون , يتابعها من خلف الواجهه الزجاجية بحسرة , ككرة مطاطية يعاود
النهدان القفز على حبل الغسيل , صدح الصوت
:
(اااااااااء
وما بناها ) جلس مستسلما على كرسيه
الحشبى
* حلوان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق