2014/07/23

فصل من رواية.. بقلم: مصطفى الحمداوي



فصل من رواية 

مصطفى الحمداوي 

اقترب عامل "كاجي" من مقر مجلس المدينة في شارع بناية الرئيس، حاملا الشباك الملون، ووجد على البوابة فارسين يمتطيان جوادين قويين، ويمتشقان سيفين من تلك السيوف الجيدة التي جلبها السيد "مارو" إلى جند وحرس المدينة. كان الفارسان ينظران باندهاش إلى الشباك العجيب المزوق، وحين اقتحم العامل بوابة مجلس المدينة لم ينتبها إليه، لقد تماهت مشاعرهما مع سحر الشباك، وواصل العامل سيره، واقتحم بالصخب والضجيج نفسه قاعة الاجتماعات في مبنى رئاسة مجلس المدينة. وقف الحضور هلعا واستغرابا وهم مذهولون للطريقة التي اقتحم بها العامل القاعة، وفي تلك اللحظة ارتد الباب محدثا دويا قويا تردد صداه في القاعة الواسعة الصامتة. اقترب العامل بعفوية ووضع الشباك الملون على الطاولة الكبيرة ، وسط اندهاش أعضاء وأمناء ورئيس مجلس المدينة. اتسعت أعين الحضور، ولم يفهم أحد منهم ما يجري، وذهب ظن البعض إلى أن الرئيس "تيفساخ"  ربما قد أمر بصنع هذا الشباك، أو نائبه السيد "مارو" لغرض ما، ولكن السيد "مارو" كان أكثر الحضور يقظة، واستطاع الخروج من ذهوله الشديد بسرعة، فسأل عامل "كاجي":
- ما هذا؟
- كما ترى يا سيدي.. إنه شباك، وقد صنعناه في ورشتنا.
نظر السيد "مارو" مليا إلى الشباك بانتباه شديد، وبعد لحظة صمت طويلة نسبيا، سأل مرة أخرى:
- أي ورشة تقصد؟
- ورشة "كاجي" يا سيدي.
صمت السيد "مارو" قليلا قبل أن يواصل استجوابه للعامل:
- أعرف أنكم قد تصنعون حدوة بغل أو حدوة حمار مثلا، وبعض الأشياء البسيطة كشحذ السكاكين والسيوف، وتستطيعون طبعا صنع شبابيك نوافذ متواضعة، ولكن كيف استطعتم صنع هذه التحفة؟!.. لا أصدق في الواقع!
أجابه العامل بزهو:
- بلى يا سيد "مارو".. لقد وفد إلى ورشتنا حداد مدهش، إنه يستعمل التصوير على الجلد، قبل صنع هذه الأشياء، وأنا من ساعدته، لقد أنجزناها معا.
أطال السيد "مارو" النظر إلى الشباك، بدا له جميلا أكثر من أي شيء آخر، ويحتوي على قدر غير مألوف من الإبداع، بل شعر وكأنه أمام سجاد زينة مصنوع من خيوط حرير نادر، ومن نسج أنامل عذارى متمرسات في المهنة، وهبت في نفسه رائحة "سانيس" وأنوثتها الهائجة، وشم رائحة فتاة مجهولة بارعة الجمال، وفي لحظة ما أحس وكأنه أمام صورة سحرية تتحكم في مشاعره. لم يفهم السيد "مارو" تفاصيل الأشكال على الشباك، ولكنها عكست في نفسه صورا مألوفة ولم تكن غريبة عنه، وهذا الأمر هو ما أثار استغرابه وإعجابه أكثر من أي شيء آخر، كما أن الألوان جعلته يحس وكأنه في بيته، أو في مجال كان دائم الحضور في نفسه وأمام عينيه، وتساءل بصوت حائر كتمه داخله: كيف استطاع هذا الحرفي تشكيل هذا الشباك الباهر؟!
- سأذهب لرؤية هذا الرجل لو سمحتم، يمكنكم إكمال الاجتماع، واتخاذ القرار الذي ترونه ملائما.
رد أحد أمناء المجلس:
- خذ معك هذا الشباك يا "مارو"، يكفي، لقد رأيناه.
صمت السيد "مارو" قليلا، وقال:
- لا، سيبقى هنا.
ركب السيد "مارو" جواده وطلب من العامل الالتحاق به، مشى بهدوء وسط شوارع وأزقة المدينة، وبدا مغمورا بإحساس غريب يجتاحه. شعر أن هناك لمسات سحرية غير عادية في الشباك، وأدرك أن الحرفي لن يكون إلا شخصا استثنائيا جدا، ومتمكنا من صنعته لأبعد الحدود. في الطريق إلى ورشة "كاجي" كان السيد "مارو" يتلقى تحيات الحرس، وضباط الجنود وعلية القوم في مدينة "أرتو"، وخيم مساء رطب راسما طقسا كئيبا على المدينة، التي فاجأها فصل خريف مبكر. بينما بدأ عمال المدينة وأصحاب المحلات والمتسوقين يستعدون للعودة إلى منازلهم.
اقترب السيد "مارو" من ورشة السيد "كاجي"، وتراءت له من بعيد مجرد ورشة عادية وصغيرة، تشغل بناية قديمة لا تكاد تلفت انتباه أحد لولا الضرب المستمر لمطارق العاملين اللذين يزاولان فيها عملهما اليومي. نظر السيد "مارو" حوله وتأمل شجيرات النارنج التي أصبحت أكثر طولا بفضل العناية المستمرة التي تحظى بها، وشعر بالزهو للجمالية الأخاذة التي أضفتها الأشجار على الأزقة والشوارع. وقف أخيرا بجواده أمام حدادة السيد "كاجي"، وفجأة وقعت عينيه على شاب بهي الطلعة، منشرح الملامح، شاب يبدو موسيقيا، أو شاعرا قوالا أكثر منه حدادا بعضلات مفتولة، يفترض أن تكون قوية، وأكتافا عريضة جدا. ولكن السيد "مارو" ما كاد يتخلص من هذه التصورات حتى أحس باستغراب، وشعر أن الشاب مختلف بالفعل، وأنه غريب في كل شيء، وبالتأكيد فانه لن يكون من أبناء المدينة ولا من جِوارها، لفه ذهول في الوهلة الأولى، ولما كان من طبع السيد "مارو" السيطرة بسرعة على انفعالاته، فقد استطاع سريعا الرجوع إلى صفاء ذهنه:
- كيف حالك يا سيد "كاجي"؟
رفع العجوز رأسه محاولا رؤية الشخص الذي يحدثه، وسرعان ما عرف من خلال نبرة الصوت الواثق أنه السيد "مارو" نائب رئيس المدينة، وقائد الجنود والحرس العام:
- بخير.. بخير يا سيدي.
- تلقينا شباكك، ونريد أن نعرف من صنعه، هناك تساؤلات ينبغي تفسيرها.
أجاب العجوز "كاجي" مشيرا إلى "اسمسيه" متبرئا:
- هذا الغريب يا سيدي، لقد طلب عملا، فقلت له برهن على مؤهلاتك، والنتيجة كما رأيت، ولقد بعثت لكم الشباك؛ لكي لا أخرج عن قوانين الصنعة في المدينة.
نظر السيد "مارو" إلى "اسمسيه" وخاطبه بلهجة جادة، وبنظرة فيها البعض من الترفع البسيط، ولكن ذلك التصرف لم يبدر من السيد "مارو" إلا بسبب ضعف باطني شعر به حيال الشخص الغريب الذي يقف أمامه شامخا كشجرة من أشجار النارنج اليانعة:
- ما اسمك أيها.. ال.. ؟
رد "اسمسيه" الذي ظل طيلة الوقت صامتا، لقد أدرك بحس ثاقب أن الرجل الذي يحدثه بهذه اللهجة لن يكون إلا كبيرا في قومه، ولهذا أجابه على نحو مثير لدهشة "كاجي" وللسيد "مارو" أيضا.
- دعني أخمِّن، ستكون أحد جنود المدينة، ولعلك تكون بمرتبة قائد سرية تؤهلك لتتحدث بهذه اللهجة، ولكن هذا لا يهم، وأنا ما جئت إلى مدينة "أرتو" إلا لطلب عمل شريف، وإذا كان هناك ما يستدعي استنطاقي، فينبغي أن أعرف السبب.
رد السيد "مارو" بهدوء وبحكمة ممزوجة ببعض الغمز الخفي:
- نحن لا نروم استنطاقك أيها الشاب، ولكننا نريد استفسارك حول أشياء معينة، وهذا من حقي كنائب لرئيس المدينة وقائد عام لجندها وقائد عام لحراسها، وأكبر تاجر للسجاد في المنطقة أيضا.
نظر إليه "اسمسيه" وطيف ابتسامة ساخرة لطيفة ترتسم على وجهه كالظل:
- أفهم أن هذه اللباقة في الحديث لا يمكنها أن تتأتى إلا لرجل بقدر مقامكم.. أقصد أكبر تاجر سجاد في المنطقة.
رد السيد "مارو" وهو يتحفز للكز جواده استعدادا للمغادرة، لقد شعر بضيق لم يعرف كيف يتصرف حِيَالَهُ:
- على أية حال، سيكون اجتماع أمناء وأعضاء مجلس المدينة قد انفض، وبالتالي يجب أن يكون لي معك حديث مهم يوم غد.
ابتعد السيد "مارو" من دون أن ينتظر رد فعل من أحد، وفي ذلك الوقت ظل العجوز "كاجي" يرمق "اسمسيه" بنظرات محملة بغضب وأسى عميق، أسى لم يجد طريقه إلى عيون العجوز منذ أن ماتت زوجته الرائعة الأولى "كيريا" قبل سنوات طويلة جدا جراء إصابتها بمرض الفالج. بلع ريقه بصعوبة، وأدرك أن هذا الشاب يحمل في ثناياه الشر والشؤم، وندم على إعطائه الفرصة لصنع ذلك الشيء البشع الذي اعتقد أنه يكون شباكا، وهاهو يلطخ سمعته في مجلس المدينة، وربما أصبح بدوره متورطا في جرم لا يعلم كنهه، ولا يعلم تداعياته، لقد غادر السيد "مارو" غاضبا، ولن يمر غضبه ببساطة طبعا:
- انصرف أيها الغريب.. لا أرغب في رؤيتك هنا أبدا وإلا هشمت رأسك.
لم يقل "اسمسيه" شيئا، لقد شعر، بأنه وضع أول خطوة في المسافة الشاسعة التي تفصله عن نجمة فينوس الحقيقية، فينوس الإلهة الفتاة التي سيطرت على تفكيره لزمن طويل، ولاحظ أيضا أن نظرات استغراب ساكنة "أرتو" نحوه قد هربت مع ريح المساء الباردة، أي كيمياء كان يحملها جسده، أو أي لعنة؟! ودع "اسمسيه" السيد "كاجي" الغاضب، وكذلك العاملين اللذين تعلقا به، ولم يحبا أن تجري الأمور على ذلك الشكل. أخذ "اسمسيه" كيسه الرث المصنوع من القنب، ثم دفع للعجوز "كاجي" مقابل المواد الأولية الحديدية التي استخدمها، مع تعويض مناسب عن الوقت الذي استغرقه في ورشة الحدادة لصنع الشباك، وحين خرج من ورشة العجوز "كاجي"، وجد الظلام قد بدأ ينزل ثقيلا ومملا على المدينة. شم في نفسه رائحة الحديد والصباغة التي استعملها في تلوين الشباك، وشعر بأنه مقرف، وأن هيئته توحي بكونه شحاذا، أو بالأحرى متشردا كما هو في الواقع. أخذ يجوس الشوارع والأزقة المظلمة اللهم إلا من مشاعل متفرقة بعيدة نصبت في أهم وأكبر الشوارع. شعر بالتعب، وشعر بالجوع والنوم، ولم يكن معه ما يكفي لشراء طعام أو لحجز حجرة في خان رخيص. بحث عن مكان آمن يبيت فيه في الشارع، ولكن لسعات البرد القارص أبعدت بسرعة هذا التفكير من ذهنه. بعد سير طويل انتبه إلى إسطبل أحد الخانات، فكر أيضا في أن يقضي فيه ليلته، ولكنه سرعان ما تذكر أن صاحب الخان قد يفكر في تقديم الكلأ للجياد والبغال والحمير في أي لحظة، وبالتالي سيكتشف وجوده حتما، وحينذاك سيجد السيد "مارو" فرصته سانحة لينتقم منه، وستلفق له تهمة السرقة، ومن جهة أخرى قد يتعرض لخطر دهس البغال والحمير لجسمه حين يأخذه النوم. جلس، حين انعدمت كل الحيل أمامه، في زاوية حائط بناية قديمة تحجب الريح الباردة، ثم انكمش على نفسه. حاول أن ينام، لكن البرد بدأ يلسعه بقسوة، برد لم يتعود عليه في بلدته الصغيرة البعيدة "دريو"، فكر في الأيام الجميلة التي قضاها في منزل السيد "كانسو"، وتذكر "تيرينا" التي حممته بيديها الناعمتين، وأصبغت عليه عناية أنثوية لا يمكنه نسيانها، "تيرينا" التي يشده إليها حنين خاص، حنين لشخصها ولروحها الجميلة أكثر منه خوف عليها وعلى مصيرها، لأنه يعرف بأنها نشأت هنا، وسيكون لديها معارف هنا لا شك، وبالتالي فـ"اسمسيه" يعتقد أنها في مأمن، ولكن السؤال المحير: لماذا هربت منه حين كانا فوق جبل الغجر؟.. هل افتعلت قصة مرافقته إلى مدينة "أرتو" كمبرر للهروب من عزلة خلاء لا يمكن لإنسان عاقل أن يعيش فيه؟! وبينما هو منشغل في هواجسه وتساؤلاته، أيقظه وقع حوافر جياد قوي على الأرض، إنها فرقة من بضعة حراس مراقبة يجوبون النقط المظلمة في المدينة. وقفوا بمحاذاته تماما، حتى أنه شم في أنفاس الجياد رائحة شعير فاسد. خاف أن تدوسه حوافر الجياد، وترفس رأسه أو طرفا من أطرافه، نهض بسرعة، فسأله أحد الحراس:
- ماذا تفعل هنا أيها اللقيط؟

- لا شيء.. كنت أحاول أن أقضي ليلتي في هذا المكان، أنا غريب عن المدينة، هذا كل ما في الأمر

أطبق الصمت على الحراس، حين سلطوا عليه ضوء المشاعل التي كانت في أيديهم، لم يتكلم أحد منهم، واعتقد "اسمسيه" أنهم ربما يكونون في نفس حالة الدهشة والذهول التي كانت تحتوي كل من تقع عينيه عليه لأول مرة، ولذلك حاول الانسلال من بينهم مبتعدا، غير أن أحد الفرسان أشهر في وجهه السيف وخاطبه بحزم:
- تقدم أمامنا، هناك مكان آمن تستطيع المبيت فيه، وفي الصباح سنعرضك على قائد الحرس لينظر في أمرك.
بعد لحظات وجد "اسمسيه" نفسه مرميا بين مجرمين وشحاذين، وقُطَّاع طرق وبضعة من الغجر. فكر:
_ أنا في السجن إذن، وسيعرضونني غدا على قائد الحرس، وقائد الحرس ليس إلا السيد "مارو"، يا لها من صدفة!
 لم يستطع "اسمسيه" النوم بسبب الجوع والبرد ورائحة النتانة التي تفوح في المكان، وظل يسمع من حين لآخر ضراطا يمتد طويلا كإيقاع موسيقي عشوائي مزعج جدا للسمع، وما فتئ ذلك الضراط يتفجر ملعلعا على شكل رعد قريب، وانتشرت رائحة كالطاعون جراء فُساء كادت تودي بتوازن ذهنه. ورغم كل شيء توسد كيسه المصنوع من القنب، ليجد نفسه قد نام نوما مضطربا. غير أنه استفاق في النهاية مرعوبا على وقع شلال من ماء نتن كان ينهمر على وجهه، ولم يكن ذلك الماء إلا بول ثلاثة صعاليك لم يتبين هيئتهم بسبب ظلمة الصباح الباكر، وبسبب البول الكريه الذي تغلغل في عيونه:
- انهض أيها الكلب الأجرب، هيا أرنا ماذا يوجد في كيسك؟
ولحسن حظ "اسمسيه"، دخل الحراس في تلك اللحظة إلى السجن، السجن الذي لم يكن إلا عبارة عن مغارة صغيرة محفورة أسفل جبل صغير:
- هل يوجد هنا شخص باسم "اسمسيسيسيه"؟
هكذا نطق الحارس اسم "اسمسيه" محرفا، ولكن "اسمسيه" عرف بأنه هو المطلوب، ولذلك قال وهو يمسح بكم يده وجهه، ويبصق على الأرض بقايا حموضة بول متخمر تسرب إلى فمه كعصارة أوراق شجرة دفلى:
- نعم، أنا هو يا سيدي.
- تقدم إلى الخارج، السيد "مارو" يطلبك في مقره.
                                              ***
نهض "اسمسيه" بصعوبة من مرقده في السجن، وتقدم نحوه أحد الحراس وسط عتمة تُغَيب كل الألوان والأشكال، تلمس الحارس يدي "اسمسيه" ووضع عليهما أغلالا حديدية ثقيلة:
- اللعنة، بولك يشبه بول عجوز مريض بذات المعدة، أنت في هذا العمر وتفعلها في نومك!
قال الحارس بتأفف وهو يشم رائحة بول نفذت إلى خياشيمه رغم نتانة السجن، الذي لا يمكن تقريبا تمييز رائحة معينة واحدة بالذات من بين الروائح الكثيرة الكريهة المتفشية فيه. قبض الحارس على "اسمسيه" من قفاه، ثم قاده أمامه كما يقاد لص في سوق. وفي مخرج السجن سمع "اسمسيه"، وهو مغمض العينين، أصفاد الباب الحديدي الضخم تغلق:
- هل صُنع هذا الباب في ورشة السيد "كاجي"؟
سأل "اسمسيه" الحارس بعفوية ساخرة، وهو يداري أشعة شمس فاجأت بصره، الذي تخمرت فيه عتمة مطبقة طيلة الليل والصباح.
- كُف عن هِزارك غير الظريف أيها الشاب النزق، لولا تعليمات السيد "مارو" لكسرت رأسك بعُقب هذا السيف.
لم تستطع أقدام "اسمسيه" حمله، وبدا فاقدا تماما للقوة بسبب شغل أمس الشاق، وبسبب الجوع الذي يطوي معدته حيث أنه لم يتناول طعاما منذ ضحى أمس. وقادت فرقة الحرس المكونة من خمسة أفراد "اسمسيه" المصفد الأيدي، الذي ظل يبذل جهدا جبارا لكي يستطيع جرجرة رجليه، ولكنه عجز في الأخير، ثم سقط تاركا جسمه في يد الحارس القوي، الحارس العملاق الذي لم يتورع عن توجيه لكمة محكمة أسقطت "اسمسيه" على الأرض فورا وهو يتلوى ألما. خاطبه الحارس الفظ: لا تمت الآن أيها الكلب الأجرب، نحن بحاجة لتبقى حيا، على الأقل إلى أن نسلمك للسيد "مارو". وفي النهاية انهار "اسمسيه" تماما، لقد فقد كل قواه دفعة واحدة، وفي تلك اللحظة مر السيد "جينيو" ومعاونيْه على العربة التي تنقل القمامة من أمام أبواب المنازل والمحلات. وقبل أن تبتعد العربة، صاح قائد فرقة الحراسة مناديا:
- يا.. أنت، "جينيو"، تعال.. نحتاج عربتك لبعض الوقت.
أدار السيد "جينيو" البغلين اللذين يجران العربة باتجاه فرقة الحراسة، وحينذاك لم يكن "جينيو" في حاجة ليفهم الموقف، فقد رأى الحارس العملاق يرفع "اسمسيه" عاليا ويرميه في العربة فوق قشور الخضار المتعفنة، وفوق أحشاء السمك النتنة، وبراز رُضَّع أصفر مائع تسبح فيه الحشرات، وقماش لنساء حائضات، وماء أسود هو عبارة عن عصارة لكل القذارة الممكن تخيلها. وبينما كان "اسمسيه" يحاول تغيير وضعيته وسط القمامة، وجد رجله تغرق في جسم جنين ميت متفسخ، وحام حوله ذباب كبير الحجم، وأصبح عرضة للسعات البعوض، وكانت العربة تهتز في سيرها السريع، و"اسمسيه" يترجرج وسط جحيم من الوسخ العجيب، وكأنه يعوم في بركة ملوثة بمجاري مياه قذرة، ودماء داكنة متعفنة لمجزرة قديمة لم تعرف النظافة أبدا. حين وصلت العربة أمام باب بناية الرئيس، سحب الحارس "اسمسيه" من العربة، وأنزله بعنف إلى الأرض. انصرفت العربة بعد أن تركت في جسم "اسمسيه" الكثير من قذارتها ورائحتها العطنة. أدخل الحارس العظيم الهيئة "اسمسيه" مجرجرا إياه من القفا، ثم دخل به إلى باب بناية الرئيس.
وبينما كان الحارس الضخم يجر "اسمسيه" وسط البناية النظيفة التي تلمع جدرانها وأرضيتها البرّاقة، استمر خيط من ماء متخثر عفن يتبع خطوات "اسمسيه"، وكانت هناك أيضا بعض بقايا القمامة التي ظل الكثير منها ملتصقا بوجهه وثيابه وشعره. أدخله الحارس بعد أن استأذن السيد "مارو"، السيد "مارو" الذي لم يصدق في البداية ما يراه بعينيه، أشاح بوجهه، وراح ينظر بعيدا من خلال النافذة العريضة وقد ارتسمت على تقاطيع وجهه الوسيم المدهون بزيت تزيين، علامات تقزز لم يستطع إخفاءها رغم المجهود الجبار الذي بذله. وقال من دون أن ينظر إلى "اسمسيه":

- من فعل بك كل هذا؟

 أجابه "اسمسيه" بصوت لا يعكس شكله التعيس:
- أنت يا سيد "مارو".
 التفت السيد "مارو" إلى "اسمسيه" مستغربا:
- كيف يمكنني أن أفعل بك هذا؟ ولماذا؟
- بسببك طردني السيد "كاجي" من الشغل، ولم يكن لدي مال لآكل شيئا، أو لأحجز حجرة في خان متواضع، ووجدت نفسي متشردا في الليل، وحرسك هم من قادوني إلى السجن، ثم أتوا بي في عربة "جينيو" مدفونا وسط القمامة.
 همهم السيد "مارو" وقال بصوت خافت، وكأنه يخاطب نفسه:
- قد يكون ما قلته يا.. ، صحيح، سآمر من يأخذك حالا إلى بائع ملابس وإلى حمام، ثم إلى مطعم، وسنحجز لك في خان جيد لمدة أسبوع، يمكنك اعتبار ما نفعله مجرد تعويض بسيط عن المتاعب التي لحقت بك بسببي.
                                                ***
  كانت العصافير الصغيرة تغرد في حديقة منزل الرئيس "تيفساخ"، وتصل سمع "سانيس" تلك التغريدات البديعة، فتنشر في روحها إحساسا بسعادة لا توصف. لقد حلمت، في الليلة الماضية، عدة مرات بذلك الشاب البهي الطلعة يزورها في مرقدها، ورأته في منامها يرتدي قميصا أبيضا ناصعا، وكان يقول لها إن مدينة "أرتو" تكرهه، و لكنها كانت تغضب وترد بعصبية: لا، إنها لا تكرهك، مدينة "أرتو" لا تكره أحدا، والشاب يقول لها: ولماذا يفعلون بي هكذا، وحين كانت "سانيس" تود أن تسأله توضيحات أكثر، كانت صورته تبتعد عنها شيئا فشيئا.. لتغيب في النهاية.
 استحمت "سانيس" بسرعة وسط رغوة صابون صلصالي أحمر، ولم تطفئ هذه المرة الفقاعات التي نبتت بكثرة على جسدها البض. وبينما كانت تهم بمغادرة فناء المنزل، رأتها الخادمة "بيرينة"، وكانت "بيرينة" على وشك إنهاء إعداد طعام الفطور، فطلبت من "سانيس" البقاء لحظة، لأن الفطور جاهز تماما تقريبا، لكن "سانيس" قالت إنها منشغلة جدا، وستعود بعد قليل لتتناول وجبة الفطور. لم تستغرب الخادمة "بيرينة" مثل هذا السلوك من "سانيس"، فقد تعودت عليه. وفي ذلك الوقت أيضا انشغل الرئيس "تيفساخ" بمراجعة بعض التقارير، التي جلبها معه أمس من مكتبه؛ ليتحقق من خراج الفلاحين والتجار والقيمة المدونة على ورق جلدي ملين، والأموال التي عرضت أمس في الاجتماع، وبقية الفلاحين الذين عجزوا عن دفع الخراج بسبب التلف الذي لحق فلاحتهم، أو المحلات التجارية التي أصابها الإفلاس، وكانت للرئيس "تيفساخ" السلطة التقديرية لإصدار الأحكام بناء على التقارير التي يتلقاها، وبناء أيضا، وفي كثير من الأحيان، كما كان يفعل في السابق حين كانت صحته جيدة، على وقوفه ميدانيا على الحالات ليرى مدى صحة ما يدون في التقارير وما يوجد على أرض الواقع، غير أن صحته المتدهورة، منذ بضعة سنوات، لم تعد تسمح له بمزاولة عمله ميدانيا وقد فوت العديد من صلاحياته إلى بعض أمناء وأعضاء مجلس المدينة.
تناول السيد "تيفساخ" فطوره بمعية زوجته السيدة "واري"، ووجد ذلك اليوم ممتعا، وقد قال لزوجته إنه يشعر بصحته تتحسن، وأن آلام المفاصل قد خفَّت عليه، وأنه تغوط من دون شعور كبير بالألم، فقد أصبح مرض البواسير أقل شراسة من قبل. واستطاع الرئيس  بعد ذلك أن يتجول قليلا على طرف الجدول الذي يجري خلف منزله الكبير، وراقه منظر الماء وهو ينساب بين الأحجار الملساء الملونة، وبين بعض أعشاب جميلة مبهجة للنظر، وتناهت إلى سمعه تغاريد الطيور الفرحة المتقافزة بين شجرة سرو وأخرى، ورأى من بعيد قطعان ماعز ترعى في الخلاء، وشعر لذلك بنشوة غامرة تتسرب إلى روحه العميقة، وعاين بعض الجنود، وهم يتدربون في ساحة ليست ببعيدة، وكانوا بارعين في استعمال السيوف ورمي الرمح وركوب الخيل، وملأه الزهو، لقد أصبح لـ"أرتو" جيشها القوي الخاص، ولن يجرؤ بعد اليوم أحد  على مهاجمتها. شعر الرئيس  أنه منشرح وسعيد، وحينذاك فكر في السيد "مارو" الذي استطاع بحكمته وحماسة شبابه أن يحول المدينة على النحو الذي أصبحت عليه الآن، كما استطاع أن يحمل عنه حملا ثقيلا، وكم تمنى السيد "تيفساخ" لو رضيت ابنته "سانيس" بهذا الشاب الرائع زوجا لها، خصوصا بعد معركة الذئاب، وبعد الوضع الاعتباري الكبير الذي أضحى السيد "مارو" يتمتع به في "أرتو".
غادرت "سانيس" المنزل من خلال باب الحديقة، وصادفت ذلك اليوم طقسا مشمسا عكْس أمس، واستطاعت أن تشم رائحة زهور الأقحوان وأريج النارنج الفواح، ورائحة أشجار السرو البعيدة التي يحملها نسيم بداية الشتاء الذي بدا لطيفا ذلك اليوم. ورأت "سانيس" الطيور المهاجرة تعبر السماء بأسراب طويلة. مرت بمحاذاة مخزن سجاد السيد "مارو"، وهو مخزن مغلق دائما، ولا يُفتح إلا حين يتم سحب كميات من السجاد منه لتصديرها إلى خارج مدينة "أرتو". وجدت "سانيس" في النهاية نفسها في شارع بناية الرئيس الذي لا بد لها من عبوره للوصول إلى وسط المدينة بمسافة أقل. وفجأة بدأت تشعر بارتجاج عنيف يهز جسدها كله، وأحست بجذب مغناطيسي غريب يجرها إلى مكان معين من بناية الرئيس، وحين أصبحت تقف قريبا من البوابة الكبيرة، شعرت بدوخة، ولم تستطع أن تتماسك، وكادت تجد نفسها تنقاد إلى داخل البناية، ولكنها قاومت بشدة حتى تمكنت من الاقتراب من شجرة نارنج، ثم أطبقت على جذع الشجرة بكلتي ذراعيها، وتمسكت بها وهي تشعر أنها تكاد تنجذب إلى داخل بناية رئاسة مجلس المدينة.
سمعت بعد عدة لحظات ضجة وضوضاء أمام البوابة الكبيرة، ورفعت عينيها لتستطلع الأمر، وقبل أن تفقد الوعي تماما كانت قد رأت ذلك الشاب البهي الطلعة، الذي طالما رأته في أحلامها، رأته يُدفع بفظاظة إلى الخارج، ويرتدي أسمالا بالية، معفرا بقذارة ووسخ في كل جزء من جسمه، وانبعثت منه رائحة عطنة لا تحتمل. لكن "سانيس" في تلك الفترة القصيرة جدا الفاصلة بين يقظتها وفقدانها للوعي، كانت قد رأت في الشاب أيضا إشعاعا ينبعث من روحه العميقة كنور سماوي مرشوش بأنفاس الآلهة. وتسربت إلى روحها تلك الموجة الغامرة من النور؛ لتشعل داخلها حريق عاطفة غريبة نحو هذا الشاب الذي طالما رأته في أحلام يقظتها وصحوها.
استفاقت من دوخة قصيرة ألمت بها، وشعرت برجفة تهز جسمها الرشيق، ونظرت تلقائيا إلى المكان الذي رأت فيه ذلك الشاب البهي الطلعة، ذلك الشاب القذر الذي يرتدي أسمالا رثة وملطخة بالوسخ، ذلك الشاب الذي تنبعث منه رائحة عطنة، ولكن روحه تبعث نورا باهرا تسرب إلى أعماقها كقطرة ماء باردة في يوم شديد الحر. نظرت إلى السماء، فوجدتها قد تحولت إلى لون رمادي قاتم، ورأت الطيور التي تعشش غالبا في ثقوب أبنية المدينة تهرب متوجسة إلى كل جهة، وهبت فجأة ريح غبارية غير معتادة. نهضت "سانيس" واحتواها خوف مفاجئ، ونظرت حولها، ورأت بضعة حراس في أمكنة متفرقة، وبعض العابرين والعمال المنهمكين في تشذيب أشجار النارنج وسقيها بالماء اللازم، وبعض عمال نظافة الشوارع والأزقة. بدأ العرق ينزل من جبينها، وشعرت بضيق يخنقها، وشعرت بذلك الشاب البهي الطلعة ينظر إليها من بعيد كما رأته دائما في أحلام منامها ويقظتها، وكان يبتسم بكآبة، وكان مرحا وحزينا في الوقت نفسه. ركضت في الأزقة عائدة إلى منزلها، واندلعت داخلها حرارة غير عادية اجتاحت كامل جسدها في الأخير، وسرعان ما اختفت هذه الحرارة حين ابتعدت من وسط المدينة. وفي النهاية وجدت نفسها قريبة من منزلها، وواصلت الركض بقوة إلى أن ولجت فناء المنزل:
- سيدتي "سانيس"، هل طاردك من جديد؟
قالت الخادمة "بيرينة"، وهي تقصد الفتى الغجري "تواهي" الذي حاول ذات مرة أن يختطفها، أجابتها "سانيس" وهي ترمي جسدها الممشوق على السرير:
- نعم، إنه يطاردني دائما، بل أشعر به هنا والآن، وفي منامي أيضا.
أيقنت الخادمة "بيرينة"، حينذاك، أن "سانيس" تتحدث عن ذلك الشخص المجهول، وغير الواقعي، ذلك الشخص الموجود فقط في مخيلة "سانيس"، واطمأنت، لأنها كانت متوجسة منذ أن أخبرتها "سانيس" عن ذلك الفتى الذي انتزعت منه الخنجر لأنه حاول قتلها. أعدت "بيرينة" حماما فاترا لـ"سانيس"، وأفرغت في حوض الماء بعض الروائح المنشطة وماء الورد. نزعت "سانيس" ملابسها قطعة قطعة، وتدلى شعرها مجعدا بندقيا كأمواج هادرة، وبدت كإلهة فينوس في ألقها وأبهتها، والجمال الذي يحيطها. وضعت أقدامها بهدوء في حوض الماء، ثم استلقت بارتخاء بجسدها الجحيمي، وأخذت الصابون الصلصالي الأحمر، وراحت تمسد به جسدها تمسيدا لينا أدخل النشوة إلى نفسها، وخلال ذلك كانت ترى الشاب البهي الطلعة ينظر إليها بإعجاب، وكان يبتسم، وكان قد تخلص من قذارته وكرهه لمدينة "أرتو"، وكانت "سانيس" سعيدة لذلك. وحين تكونت رغوة كبيرة حولها، أخذت فقاقيع الصابون تنبت على خصرها النحيف وفخذيها ونهديها، و"سانيس" تستمتع بإطفاء كل فقاعة ببطء وبنشوة لم تشعر بمثلها من قبل.

ليست هناك تعليقات: