كل شيء علي ما يرام
خيري عبدالعزيز عبدالباري
لديه من الأسباب القوية ما جعل منحني الثقة يصل إلي أقصي مداه بعد مضي ستة أشهر كاملة منذ تعينه مديرا عاما بالشركة ذائعة الصيت, أولاها أن كل شيء علي ما يرام.
وفي هذا اليوم بالتحديد بدا ككبار الدبلوماسيين في حلته ونظارته السوداويين, وخطواته المتئدة الواثقة, ووسامته الجذابة, وابتسامته الحيادية. وتابعته العيون في إعجاب, وهو يدلف إلى قاعة الاجتماعات الرئيسية, لحضور الاجتماع النصف سنوي, حيث سيقوم بعرض بيان تفصيلي لإنجازات الشركة خلال الستة أشهر الماضية.
منذ تولي منصبه, وهو شعلة من النشاط المتدفق, وكانت له لمساته السحرية التي كانت أثارها بينة للعيان, وتفصح عنها خزينة الشركة. والأهم من كل هذا هو روحه الخلاقة الوثابة التي تملكت الجميع, وبثت فيهم طاقة وحماسة لم يعتادوها من قبل, ولم يره أحدا يوما منفعلا أو بلا ابتسامته الحيادية.
جالت هذه الخواطر في أذهان الحضور, بينما يصعد إلي المنصة لعرض ما لديه من إنجازات, ومقترحات مستقبلية.
وفيما يرتب أوراقه, ويستبدل نظارته السوداء بأخرى طبية على منصة جانبية خصصت لإلقاء كلمته كان أعضاء مجلس الإدارة يتوسطهم رئيس المجلس يحتلون مواقعهم خلف المنصة الرئيسة, ومن أمامهم اصطف رؤساء الأقسام والعاملين بالشركة.
شعر برعشة خفيفة في حاجبه الأيسر اختفت معها ابتسامته الحيادية على الفور, وامتدت يده في سرعة تستعيد النظارة السوداء, وتؤكد من وضعها.. وأد هاجس هاجمه في مولده, مؤكدا لنفسه أن كل شيء علي ما يرام.. وبلا تباطؤ بدأ يشرح مستعينا بشاشة العرض الاليكترونية, ما لديه من تقارير, ودراسات جدوى, وجداول حسابية, ورسومات بيانية, وأشياء أخري كثيرة هو بارع فيها أشد البراعة.
كل شيء كان عظيما.. وعلي ما يرام.. حتى كاد أن ينتهي..
بدأ الأمر بحالة صمت مفاجئ جاهد ليخرج منها بكل طاقته, فخرجت الكلمات مبهمة متآكلة الأحرف.. وبحركات غير واعية أخذ يصلح من وضع النظارة, حتى أفلتت من بين أصابعه المضطربة, لتظهر رعشة حاجبه الأيسر, وعينيه المتسعتين في رعب وهو ينظر لشيء ما خفي ومخيف.. وتحولت الرعشة في حاجبه إلي انقباضات قوية شملت شق وجهه الأيسر بأكمله... وسقط أرضا, وارتطمت رأسه بحافة المنصة في عنف, وتملكته حالة من التشنجات العنيفة, وهو يجرش أسنانه في قوة, وزبدا كثيفا ينساب من بين شدقيه. كل هذا وسط ذهول الحاضرين الذين التفوا حوله, وقد تباينت النظرات في عيونهم بين الإشفاق والتقزز..
عندما استكان, وبدأ يستعيد وعيه ربت على كتفه أحد العاملين في حنان, وجعل يمسح أثار الزبد من ياقة قميصه, والدماء المتجلطة علي جبهته من أثر الارتطام, وهو يقول مرددا: حمدا لله.. حمدا لله.. كل شيء علي ما يرام..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق