قراءة في مجموعة " فتاة البحر " [1]لأحمد طوسون :
الغلالة السردية تحوي رغبات وذكريات وشاعرية
د.مصطفى عطية جمعة
يتحلى العالم القصصي لأحمد طوسون بما يسمى " الغلالة السردية " ، تلك المقدرة الفنية التي تجعل القاص قادرا على جذب المتلقي في طياتها، ليسبح في ثنايا الطرح ، وتجعله متعايشا مع الأحداث ، هامسا مع الشخصيات ، وأيضا تتعايش معه الشخصيات بعدما يفرغ من قراءته . هذه الغلالة ، تقيم علاقة حميمية بين المتلقي والنص القصصي ، ليسبح مع الإيهام السردي ، الذي يجره لتعرف شخصيات جديدة ، ومواقف متعددة في الحياة.. إن عالم " طوسون " القصصي لقطات وملتقطات من الحياة ؛ يبرع في تعميقها ، وجعلِها مكتملة الملامح ، دون الاكتفاء بالوصف الخارجي للأحداث والشخصيات ، ويأتي سرده عادة ببنية المشهد ، وما فيها من حوار وسرد ، وفي ثنايا السرد ، تتداعى ملامح الشخصيات، ويضاف إليها ما يثري السرد ، دون أن نستشعر اقتحام المؤلف الضمني نصه بافتعال ، أو تقديمه خطابا مباشرًا ، زاعق النبرة والهدف .
*******
" الرغبات المنقطعة " ربما يكون المفتاح الأقرب لفهم العالم السردي في هذه المجموعة القصصية ، فجلُّ قصصها يدور حول رغبات في نفس الشخصيات الرئيسية ، تسعى جاهدة لنيلها ، ولكن العوائق أشد ، لتظل الرغبة عالقة في النفس وقد تتحول إلى علقم أو ألم ، يمكث في الأفئدة ، ويخلف مرارة في النفس المتلقية.
يبدو هذا من القصة التي حملت اسم المجموعة " فتاة البحر " ([2])، فالبطل يتأمل الأنثى في جلستها على الشاطئ ، ويستبد الخيال الذَكَريّ به ، فيراها عارية الجسد ، تداعب الأمواج أقدامها ، ولأنه فنان تشكيلي ، فإن ذاته ترسمها ملكةً في الحسن ، وتعجز ريشته أن تصور هذا الجمال الحسي والروحي ، إنه يقف خلف أسلاك كوخه على شاطئ البحر ، يتأمل هذه المرأة الوحيدة ، والتي يكتشف أن خياله المحلّق الجامح قد نسي أنهما في فصل الشتاء ، بدليل ارتدائها ملابس من الوبر والصوف ، وأنها غارقة في الحزن ، فاقدة البهاء .
هي رغبة منقطعة ، رغبة في الأنثى ، فجعلت امرأة – قد تكون كبيرة أو شابة – جالسة وحيدة على الشاطئ ، عنوانا لعالم فنان تشكيلي ، فشل في التعبير عنها في لوحته ، مثلما فشل في الاقتراب منها ، وما بين الفشلين ، تصبح الرغبة ألما في نفسه ، كما جاء في ختام القصة : " لا تحيد بعينيها عن البحر ، وملامحها تكتسي بإحساس مزيف بالارتداء " . فهي غارقة في أحزانها ، غير واعية بمن يرقبها ولا بما في نفسه من رغبات .
وعلى هذا النحو تسير نصوص المجموعة ، فقصة " قربانة "([3]) تخوض في الحب المحرم – افتراضا- بين مسلم وفتاة مسيحية ، تكبره بسنوات ، وقد طارد البطل فتاته ، وعلم أنها تساعد أمها في صنع القرابين ، يحصل على "قربان" ويحفظه في دولابه ؛ فربما يكون عوضا عن حب مكتوم أو رائحة من حبيبة لا تعلم بمكنون فؤاده .
أما قصة " كادر خارج المشهد "([4]) فإننا إزاء قضية أبطال أكتوبر والمقاومة الشعبية بعد مضي سنوات على بطولاتهم ، فقد ارتكنت البطولات في ذاكرة الكبار ، وغابت عن ذاكرة الشباب الذين عرفوا هؤلاء من الكتب المدرسية وبرامج التلفاز التقليدية ، في المناسبات السنوية ، إنه البطل " سعد " الذي يتذكر يوم خروجه على المعاش ، مستحضرا يوم عودته من الجبهة، وأياما في الحرب وبعد الحرب. تعالج القصة حياة هؤلاء الأبطال ، الذين قدموا الكثير للوطن ، ولكنهم وجدوا عدم مبالاة من أهل الوطن ، فالرائد جمال يرفض طلبهم منه أن يعمل أي عمل بعد تقاعده من الخدمة ، ولو في جمعية زراعية لأن قدميه مبتورتان . تأتي رسالة النص واضحة ، فالوطن وأبناءه يعتزون بذكرى الحرب ، وبالنصر العظيم، ولكن الذاكرة الجماعية تنسى الأسماء ، بينما ذاكرة الأفراد تحتفظ بها ، وتعيد إنتاجها في أعماقها . ربما يكون موضوع القصة مطروقا نوعا ما ، ولكن تظل القضية حاضرة ، قضية الحفاظ على ذوات الأبطال وأسمائهم ، كي تكون الذكرى موثقة بالأسماء وليس بالأحداث فقط ، راسخة في الوجدان وليس في كتب التاريخ والوثائق فحسب.
*******
السرد الشاعري هو الملمح الأساسي في أسلوب هذه المجموعة ، ويبرع السارد في الوصف السردي الممتزج بجماليات الصورة والرمز ، والاستخدام المرهف للمفردات والتعبيرات ، وربما كانت أجواء القصص معينة له في ذلك، فالرغبات شأن نفسي خالص ، يستبد بالقلوب ، ويحرّك السلوك ، وفي هذا الاضطرام الذاتي ، تُصهَرُ الكلمات ، لتكوّن تعبيرات جديدة ، وصورا بديعة . يقول في قصة فتاة البحر : " تلك القوارض الشائهة لا تسمح للأخضر أن ينبت بأرضي .. ، حتى قاع البحر وصلوا إليه .. ، مارسوا لذتهم في تنسيق العالم وفق هواهم ... لا صدى لكلماتي إلا صمت قارص " ([5]) . نسمع من ثنايا الكلمات تأوهات نفس البطل / الفنان ، الذي يلقي بلائمة انصراف المرأة على القوارض، ويكون الأخضر ( تعبير لوني ) بكل ما فيه من دلالات النماء ، ولنكتشف أن القوارض إنما هي إدانة للعالم الذي جعل هذا القلب الراغب في النشوة يعيش في صمت بارد ، يكوي أعماقه .
*******
هناك العديد من العلامات – وفق الرؤية السيميوطيقية للنصوص – تشكل الدعامات الدلالية للرؤى السردية ، ففي قصة فتاة البحر ، يكون " البحر " علامة على الخيال الجامح الذي ألحّ على الفنان الحالم ، وهو أيضا الجاذب للأنثى الجالسة على المقعد ، تنظر لأمواجه غير عابئة لمن حولها، فهي : " لا تحيد عن البحر وملامحها تكتسي بإحساس مزيف بالارتداء " ، ليظل البحر علامة على الحب والخيال وأيضا الوهم والزيف .
وفي قصة " قربانة " ، فإن القربان الذي ناله الحبيب من صديقه، وكانت محبوبته (المسيحية ) تصنعه مع أمها ، علامة على علاقة الحب من طرف واحد، حب لا أمل فيه ، بحكم التقاليد وأشياء أخرى ، ونفاجأ بأن أم الحبيب تلقي القربان في القمامة، من دولاب ابنها بعد تعفّنه ، ليكون علامة على الحب وأيضا على تكسّر علاقة نشأت في صمت ، وتعلقت ذكراها في صمت ، معبقة بالألم .
ونفس الأمر في قصة "تلك الرائحة" ، فإن الرائحة المنبعثة كانت علامة أولية على التداعي السردي الذي جعلنا نعيش مع الخادمة " فتحية " ، وكيف بنت غرفة لها أعلى البناية ، وصاحبتنا الرائحة لنتعرف على سكان العمارة ، وأيضا على موت القطط في شقة " الست فوزية " إحدى الساكنات بالعمارة ، وكانت تحية سبب التعرف على الرائحة، وسببا أيضا لتنظيف الشقة ، وإن ظلت الرائحة في أنوف الكثيرين، أما تحية فرعت قططا أخرى ، واهتمت بنظافتها ، مدركة أن الست فوزية جعلت القطط ونيسة لها ، ولعل هذه رسالة القصة الأساسية ، البحث عمن يؤنس النفوس عندما تكون الأجساد وحيدة في سكناها .
وفي قصة " ما لم يحدث بعد " ([6])، فإن هناك علامتين في السرد ، الأولى "الصمت " الدال على العلاقة بين الموظفة وزميلها في الغرفة ، تتعجب من صمته الدائم ، وتستغرب زميلاتها في العمل من صمته معها ، وهو البشوش الجذاب في حديثه ونكاته ، حتى بعد طلاق الموظفة ، فهو قد لازم الصمت . وقد تعمّد المؤلف الضمني إغفال اسمي البطل والبطلة ، لنعيش أجواءً أخرى من الصمت السردي ، فقط نتابع الأحداث في قفزاتها الزمنية ، متعجبين من صمت الرجل الذي يقابله شوق ثم كلمات من الأنثى ، ولا نملك في نهاية القصة إلا أن نقرر أن الصمت علامة على الحب أو هو حب صامت ، أما العلامة الثانية في القصة فهي التدخين ، فالموظف الزميل يستأذن منها ليدخن أول سيجارة في الغرفة ، أما باقي السجائر فيخرج لتدخينها في الردهات ، وفي نهاية القصة ، تلتقط الموظفة – بعد طلاقها - السيجارة منه ، وتشعلها لنفسها ، لعل الصمت ينجلي عن كلام ، ولكن هيهات ، فقد أشعل هو سيجارة أخرى، والصمت عالق بنفسه ولسانه .
وفي قصة " تعريشة سندس "([7]) فإن الألفي دولار هما العلامة على الرغبة في الخروج من أرض الوطن ، مثلما كانتا علامة على الستر عند الموت عندما كانت مدخرتين عند أم البطل للحظة الوفاة ، لقد هرب الابن في صندوق بإحدى السفن، وغرقت السفينة ، وتعلق البطل ببعض الأخشاب مسترجعا صورة الزوجة والابن رضيع الضاحك والأم المنتظرة .
*******
النهايات : جاءت معلقةً وفارقةً وغامضة ، لتشكل ملمحا بارزًا في بنية النصوص ، فإذا كان القربان المحطم نهاية فارقة غامضة في قصة قربانة ، فهو أيضا يتشابه دلاليا مع نهاية قصة فتاة البحر ، حيث تظل الأنثى محملقة في البحر، لا تلقي بالا لمن تسمّر في وقفته مترقبا حركاتها ، في لقطة ثابتة الحركة أو بالأدق معبرة عن جمود الرغبة لتصبح ذكرى . أما نهاية قصة " كادر خارج المشهد " فهي تتقارب مع عنوانها في الدلالة ، فهناك المشهد وهناك من هم خارجه ، وللأسف فإن من هم خارجه الأبطال ، ومن بداخله فهم المحتفلون والمتفرجون . تأتي النهاية دندنة بصوت البطل : " وعضم ولادنا .. نلمه نلمه ، ونعمل منه مدافع " ([8]) ، فالعظم المتناثر رمز لهؤلاء الأبطال المنسيين من الذاكرة الجماعية ، ومن المشهد الاحتفالي ، وهؤلاء هم المدافع الحقيقية التي كانت وستظل حامية للوطن . أما قصة " تعريشة سندس" فقد تعلقت قلوبنا برغبة البطل أن يأتي أحد لإنقاذه ، نهاية مفتوحة الدلالة تحمل أملا واسعا في حياة ، وربما ندما وإدانة على اختيار فعل الهروب ، وحلما بالصغير الذي يرقد في أحضان الأم .
*******
تمثّل هذه المجموعة محطة مهمة في مسيرة إبداع أحمد طوسون ، وتعبر عن نضجه الفني ، وشفافيته في التقاط الأحداث ، وقدرته على النفاذ في أعماق الشخصيات، وتعبر أيضا عن ثراء عالمه السردي وتنوعه .
وأخيرا تظل رغبات النفوس على بساطتها أو ضخامتها هي العلامات الأهم في حياة الشخوص ، مثلما تأتي النهايات المعلقة مثل أمور كثيرة في حياتنا ، ننتظر حسمها بأيدينا ، ولكن نفاجأ أنها تعلق بأنفسنا ، وتتكفل الأيام بتحويلها إلى ذكرى ؛ حزينة أو أليمة أو مريرة أو حلوة ، إلا أنها ذكرى تؤنس نفوسنا عندما ننفرد بها في خلوتنا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق