"المتلاسنون" بالفساد في وزارة الثقافة
أحمد طوسون
خلال ثلاثين عاما أغمضت الضمائر عيونها عن انتهاك القيم النبيلة ، وأعمت البصر عن تبديد المال العام بكافة أشكاله سواء بالنهب الصريح أو بمنحه عطية لذوي الحظوة من الأصدقاء والأحباب والمقربين أو بتبذيره في نشاطات استعراضية ومهرجانات لم تكن تبتغي إلا تجميل الوجه بمساحيق كاذبة.
خلال ثلاثين عاما تلوث المبدعون الذين التحقوا بالعمل بقطاعات وزارة الثقافة بالبيروقراطية الوظيفية.. وصارت الأوراق والمستندات أهم من الفن والإبداع وصارت اللوائح والقوانين تشهر في وجه المبدعين كسيف المعز كلما استدعت الحاجة إليها، وتدخل إلى بياتها الشتوي وسباتها العميق لتمرير ما مال إليه هوى وقلب المسئولين!
ذلك الإرث الطويل الذي تحتشد به دواليب العمل الثقافي يبدو الآن مثل لعكة يلوكها البعض وينفخها مثل فقاعة في وجه البعض الآخر هذه الأيام بمناسبة أو بدون!
والغريب أن حديث الملاسنة بالفساد داخل أروقة وزارة الثقافة يأتي من أهل البيت من الموظفين والسدنة، بينما عكف المثقفون والفنانون المتعاملون مع الوزارة وأنشطتها بالفرجة عن بعد وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء.
ولست مع من يرى فيما يحدث ظاهرة إيجابية، إذ تنطلق كثير من الملاسنات تحت دافعية البحث عن تعديل الحالة الوظيفية والموقع الثقافي وإضافة المزيد من المكاسب والمزايا تحت وطأة الضغوط في ظل السيولة التي تعيشها الدولة.
وهو أمر_ فيما أراه_ لا يثمر إلا عن تغيير وجوه، بينما ما نطمح إليه هو تغيير النظرة والسياسات والفكر.
وإذا كان الصوت الجلي في الشارع المصري يطالب بإعادة هيكلة وزارة الداخلية لما ارتبط تاريخها بانحرافات وقمع وإهدار لحقوق الإنسان لمس أثرها القطاع الأكبر من الشرفاء في هذا الوطن، فإن كافة مؤسسات الدولة تعاني نفس الداء باختلاف المردود حسب أهمية المرفق وطبيعة المتعاملين معه.
والإصلاح وإعادة هيكلة المؤسسات بقدر ما هو إرادة حقيقية يجب أن تتوفر عند صانع القرار، بقدر ما يستوجب إسناده إلى مؤسسات مختصة في علم الإدارة ولا يجب ربطه بتغيير الأشخاص فقط، لأن الارتكان إلى تغيير الرأس وحده ارتكان إلى معيار الشخص وكفاءته التي ستتفاوت حتما من شخص إلى آخر!
ومصر ليست في حاجة إلى مزيد من استنزاف الوقت والطاقة، بقدر ما هي في حاجة إلى الخطوة الأولى على طريق الإصلاح.
وسيل الملاسنات الذي يتدفق عبر ردهات وغرف وزارة الثقافة وغيرها من الوزارات لن يزيد جروحنا إلا قيحا، بينما علينا أن نترك المخالفات إلى ساحة النيابة والقضاء ونشرع جميعا في صياغة عقد مستقبل هذه المؤسسات ولوائحها الحاكمة وطرق الرقابة المناسبة لكل مؤسسة التي تكفل عدم انحرافها عن المسار أو تباطؤ الخطوات نحو الإصلاح.
وأنا مع المقولة الشهيرة التي تقول: " أن ما لا يدرك كله لا يترك كله".. فإذا ما كان مصير التغيير والثورة في بلادنا ما زال غائما.. فعلى كل قطاع من قطاعات الدولة أن يضغط من أجل الإصلاح وإعادة الهيكلة وفق ضوابط عامة ومجردة، واضحة وشفافة لا ترتبط بإرادة شخص ولا تميل مع هواه، بدلا من أن يكتفي كل قطاع بالملاسنة والبحث عن تبادل المقاعد وفق لعبة الكراسي الموسيقية الشهيرة..
لأن ساعتها لن يكسب أحد إلا حصادا جديدا من القيح والألم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق