قراءة في مجموعة (أغنية لآخر القادمين )
للشاعر أحمد الشادي
أ.د. فائز طه عمر
يشدو الشاعر أحمد الشادي حزنه في قصائده , لعله يجد فيها تعويضاً عمّا فات , أو عن فرح يرتجيه طال انتظاره , في سياق حزن يوميّ مزمن مفض إلى تحريك خيال شعري , يصنع البدائل التي قد يرضى بها الشاعر فيكتفي بإنشاد ذلك الفرح المُرتجى شعراً , حتى بدا هذا الشعر هو فرحه , أو لنقل هو المعادل الفني لهذا الفرح المنشود , وقد ننشد معه ذلك الفرح إن استطاع تخييله في نفوسنا العطشى إليه , بعد أن أتعبتنا المحن , و ألفنا الأحزان , و صار الإحباط طابعنا , فالشاعر أحمد الشادي , في مجموعته الشعرية الجميلة (أغنيةٌ لآخر القادمين) الصادرة عن دار (تموز/ رند) في دمشق 2011م , والمطبوعة على نفقة قصر الثقافة والفنون في تكريت ، استطاع وهو مُكللٌ بحزن عميق أن يصنع عوالم فرح , في سياق شعري تصويري أوهمنا بتحققها فغنينا معه , ولكنها كانت أغان خاصة لكل مغنٍ على النحو الذي شاءت له أقداره أن يغني به , وهو , بهذا حقق شرطاً مهماً وعميقاً من شروط شعرية الكلام , وهو التخييل الذي من دونه , لا يُعدّ الكلام شعراً , وإن كان ذا موسيقى متحققة في الوزن والقافية أو في غيرهما .
وقد كان حزنه المُكتنف أغوار نفسه دافعه إلى البحث عن فرحة عساه يُحققها في لغته الشعرية التي رسم بها معاناته العميقة :
للفرحة في لغتي لغة أكتبها بين شراييني
فهو أوجد لغة خاصة له , إن انبثقت من اللغة المتداولة , كتبت بدم الهم والمحن والترح الذي بدا غير منته لديه .
وهذا التصوير الشعري للفرحة المُرتجاة حققه الشادي لمحق حزنه , أو في الأقل , للإفلات منه , أو لعله يستطيع اغتياله ( اغتالُ بها حزنَ سنيني ) , لذا فهو يُعلن أن شعره سيكون شعراً يغنّي به فرحه الأمل , كما قلنا , مُوزّعاً إياه بين سطور أعماقه ( شعراً في كلّ دواويني ) , عليه كان الشعر , عنده , مما نؤكده ,هو الحلّ أو هو السبيل المُفضية إلى إيجاد هذه الفرحة , فالشعر فرحته , وبه يصرّف انفعالاته , و يحقق ذاته , ويتجاوز واقعه ليعيش حُلمه :
الشعر محض انفعالات يفيض بها قلب تطاير من أعطافه الشّررُ
فلا عجب , هنا , أن تراه يتغنّى بشعره و يشخّصه و يمنحه بُعداً إنسانيّاً , حتى يُصوّره على أنه هو , فيكاد يكون الشعر هو أو هو الشعر , في عشق صوفي لا ينتهي ولا تُحدّ مدياته يأخذ من طبائعه ومن روحه ومن رغبته في حياة أبهى وأجمل , فالشعر لدى الشادي وسيلة تقويم وأداة تغيير , فلم يكن ترفاً , ولا رغبة منتهية بصنع قصيدة , بل هو سلّم للإرتقاء الانساني , وليس مطيّة مطامع وكذب وإفك , على أن بعضهم يوظّفه في هذه السبيل , وليس الذنب ذنب الشعر :
ما ذنبُه الشعر إن زاغت ضمائرهم فقام بنحره الأفّاكُ و البَطِرُ
بل إن الذنب على الشاعر الذي ساق شعره في طريق مُفض إلى أهداف وأغراض بعيدة عن الصواب , بحسب ما يراه شاعرُنا .
ويبقى الحزن نشيده وشجوه , فهو ملازمُه , حتى أنه يُعلن أنه سيُضطرّ للتعايش معه , أو اللهو عنه , باللجوء إلى امرأة يرتمي بين ذراعيها , لعله ينسى فشله في محاولته اغتياله أو مُداراته :
و دعيني
بين ذراعيك
لأنسى
أني وَجلٌ
فأصالح حزني .
بيد أنه يجد نفسه , مع كل ما قاله , راسخاً أمام المُتغيّرات , لتمتعه بالأصالة وصدق الانتماء , فغير ذلك عبث وزبدٌ وهباء .
وهو لا يفتأ يُعلنُ قلقه الذي غار في أعماقه واكتنف مشاعره , والذي دلف به إلى سكون وتأمّل , لعلّه يكتشف ذاته , أو يجد منفذاً , بيد ، أنه لا يهتدي لمنفذ يُخرجُه من أزمته التي تجلّت في ظنونه وهواجسه , فهي تكبّلُه , حتى يكتشف أن لا مفرّ أمامه إلا باللواذ بأعتاب طفولته , عساه يجدُ فيها نفسه الضائعة .
ولم يكن شعر هذه المجموعة الشعرية الشادية الشاكية الشاجية مقتصراً على شؤون الشاعر الذاتية , وتصوير انفعالاته و همومه الخاصة , بل تحدّث عن هموم وطنية وعربية ودينية امتزجت بذاته أيضاً , فعليها تربّى , وفي أفيائها تعدّت اهتماماته لتشمل قضايا عديدة , تقف قضيّة فلسطين واغتصابها في مقدّمتها , فقد رافق اهتمامه بها مراحل عمره ولا سيما طفولته , ( يا قدس عشقناك صغاراً ) فهو , في هذا الخطاب يؤكد المنحى الجمعي في حب القدس وما يتعلق بها من ذكريات التاريخ العربي الإسلامي الذي عشقه الشادي و انشده أغنية من أغانيه الأثيرة , وهو هنا يومئ , أيضا , إلى تنشئته الدينية وعاطفته الصادقة تجاه القدس التي كانت مُنطلقه في بثّ همومه القومية والإسلامية , مُعلنا عن رغبته في تجاوز حال السكون والعجز والنكوص التي تعيشها الأمة , ليعود بعد ذلك إلى تلمّس الطريق المُفضي إلى الخلاص المتمثل بالرفض البنّاء والتمسّك بالهدف , وعدم التسليم أو الاستسلام للأعداء , والإعداد لتحقيق وسائل الخلاص .
وللعراق موقع القلب في قصائد الشادي , في مجموعته هذه , فهو أبوه , أي سبب حياته التي هي منحة الله له , و هو يُوصيه وعلى ابنه أن يستجيب , مما أبانه في قصيدته (وصيّة أبي العراق) التي أنطق بها الشادي وطنه موصياً أبناءه , ومؤكّداً معانيها بوسيلة التكرار, بقوله :
أ بنيّ لا
أبنيّ لا
لا لا بُنيّ فلا تبع
فالتربُ يعشقُه الرجال
بحضنه تغفو الحمائم .
ومن غير العراق يحتضن أحلام أبنائه , ولعله يحقّقُها لهم , إن تمسّكوا بتربته , فلا يبيعونها , لمن يدفع أكثر , و الشادي يعتزّ بعراقيّته , و يحبّ العراق حبّ فناء و توحّد , هو حبّ صوفيّ خالص نقيّ (جميع العراق أنا ) , فالعراق فوق رؤوس أبنائه ,وهو موئل آمالهم وموطن ذكرياتهم , وحبّهم له ولد مع ولادة أيٍّ منهم , و الشادي أحدهم , بقوله :
طفلا ولدتُ يفورُ حبُّك في دمي صِرتُ العيون أنا و صرتَ مَطالعاً
وهو لا ينسى وجع العراق وهمّه , حتى وهو يُناجي الرسول الأعظم في ذكرى مولده الشريف التي تزامنت مع الذكرى الخامسة للعدوان على العراق واحتلاله البغيض , في قصيدته ( الخمسُ الشّداد ) , قال فيها :
عُذراً إليك رسول الله إنّ دمي بركانُهُ من صدى الأحداث يشتعلُ
تجيء ذكراك و الأعلاجُ في وطني و جرحُ دمعي عليه تنسجُ المُقلُ
وهكذا أنشأ الشادي عدة قصائد تغنّى بها بالعراق وحبّه , وبكى همومه وألمه ورفض احتلاله , داعياً إلى مقاومته , مما يُحسبُ له أدباً مقاوماً وطنيّاً , في وقت خرست ألسن الكثير من الأدعياء .
والشادي , بعد أن يعود إلى هدوئه , ويخفف من حماسته البيّنة , في النبرة الخطابية للكثير من قصائده , لا يجد في نفسه سوى الخشية من انتصار الشرّ , مما يُفضي إلى (أن تطغى لغة الحزن على بوح الكلمات) , فهو يعيش أزمة واقعه المرّ في الأحوال كلّها , ثائراً كان أم ساكناً , فواقعه الذي يعيش مأساته هزّ مشاعره , فتجلّت , من بينها , عاطفة الخوف من كلّ شيء , وعلى كلّ شيء : ( أخشى , أخشى , أخشى لا حدّ لآخر ما أخشى ) , ومع هذا تراه مُعلّقاً بأمل يراه عند الآخر , ولا سيما في عيني حبيبته فمن ( دون الأمل
الطافح في عينيك
لا تحلو القصيدة ) .
فالشاعر يعيش ثنائية الخوف والأمان , واليأس والأمل , وبين هذا وذاك يطرح منظوره في القضايا والأحداث وسوء الأحوال , بنفس تصويري مُفعم بمشاعر وطنيّة وعربية وإسلامية صادقة , كما رأينا , عبّر عنها بقوالب شعريّة توزّعت بين قصيدة الشطرين العربية التقليدية , و قصيدة التفعيلة أو الشعر الحرّ الذي كان مجاله في التداعي والانسياح وراء مشاعره والاسترسال مع آماله , في بوح لأسراره , وما في داخله من هواجس , بيد أنّه وظّف شعره القريض ذا الشطرين , في أكثره , لمعالجة أو لتناول القضايا على نحو حماسي حاد النبرة , على أننا لا نُطلقُ الأحكام هنا , ففي قصائده الحرّة ظهرت ومضات حماسية خطابية أيضا , نحو قوله :
فيا بائع الوهم تمهَّل
هل أعددت جواب الغد ؟
و غير ذلك كثير .
وقد امتلك أحمد الشادي نفساً شعريّاً واضحاً استجابت له مقدرته وخزينه اللغوي الذي صبّه في سياقات تعبيرية مُوحية , قوامها وسائل فنّية كثيرة وظّفها في تشخيص غير العاقل , أو لتجسيد المعاني , أو لتقريبها أو المبالغة في قولها , في أنساق شعريّة مُؤثّرة , فهو يُصوّر الفرحة ( كأسا نشوى من سحر العطر المكنون ) , و يشخّص حزنه الطويل كائناً حيّاً يرمي إلى الخلاص منه باغتياله , ببدائل مُستمدّة من وجوه نيّرة باسمة , وأفكار تُطفأ مثل النار , و كثيراً ما شبّه , واستعار مُصوّراً وموحياً بمعان ودلالات مفتوحة يرصدها قارئ متمكن من قراءة تواكب قدرة الشاعر وتحتمل القصد عنده , فالشعر لديه كائن حيّ يصرخ ( كقيثارة الأحلام ) , و ( الشعر حرّ ) و (ما ذنبُه الشعرُ ) , وهكذا كان شأنه مع الأشياء والظواهر والمشاعر , في جمهرة من العبارات التصويرية التي منها : (زورق الروح ) ( خارطة الأحلام ) ( تتصارع الكلمات ) ( وما زالت حروفي في الهوى تحبو ) ( راسما في الرأس دُرّا لامعات ) ( مر بقربي كالمرجل يغلي يقذف حمماً وشواظاً من كلمات ) ( هكذا الأشجار تحني رأسها خجلاً لقامتها النحيلة والقصيرة ) وغير ذلك مما اغترفه الشادي من مصدرين رئيسين , هما اطلاعُه على الأساليب الفنية التصويرية في الشعر العربي القديم والحديث والمعاصر , ومُخيّلته التي أمدّته بأسباب إبداع صور خاصة به , انبثقت من قوّة مشاعره وعمق حزنه وتفاعله مع قضايا الوطن والأمة , ومن حُلمه في فرح آت .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق