مدرسة الفخراني الفنية
فؤاد قنديل
قد لا يدرك البعض بشكل محدد وناصع المعنى الدقيق لكلمة " الفن " ، ودون الدخول في دائرة المفاهيم التى صكها الفلاسفة نقول ببساطة : إن الفن هو القدرة على التعبير عن فكرة ما أو موضوع معين بطريقة غير تقليدية بحيث تتحقق المتعة والإبهار.والفن بهذا المعنى لا يقتصر على الفنانين التشكيليين والكتاب والشعراء والممثلين والموسيقيين ومخرجي المسرح والسينما والراقصين والخطاطين ، وإنما قد نجده متجليا لدي لاعب كرة ماهر وعند بعض الطهاة ومصممى الأزياء بل لدى بعض النقاشين والطهاة والإسكافيين وأحيانا لدى المدرسين والحرفيين ، وأساس الفن هو الخروج على المألوف أو تحويل المألوف إلى غير المألوف ، وإعادة إنتاج القديم ليصبح جديدا تماما بما يفضى إلى المتعة وإثارة الفكر ، والفنان عادة لا يستطيع مغادرة الواقع إلا بركوب أحصنة الخيال ومن تعذر عليه امتطاؤها سقط ، ولذلك أرفض بشدة قول بورخيس: من سوء حظ العالم أنه واقعى ، ومن سوء حظه أيضا أننى بورخيس
أي أن من سوء حظ العالم أنه ابتلى بذلك الفنان الكبير ومن ثم فهما مختلفان ، والحق أن حظ العالم حسن جدا لأن هناك من يماثل بورخيس كي يعيد تشكيل العالم القبيح ويضفى عليه الجمال .
لا أجد غضاضة في أن أقول إن الفنان يحيى الفخرانى قد بلغ أقصى درجات النضج الفنى بعد أن عثر على ذاته العميقة والحقيقية منذ عدة سنوات مع شيكسبير في " لير " ومع الكبير يسري الجندى في
" جحا " وبعد ذلك مع الكاتب البارع عبد الرحيم كمال الذي يبدو أنه التقى أيضا قرينه، وتألقا في "الشيخ همام " و"الخواجة عبد القادر" ثم في "دهشة".وقد سبق للفخراني أن قدم عشرات الأفلام والمسلسلات لعل من أفضلها سينمائيا " حب في الزنزانة "و" مبروك وبلبل" و"إعدام ميت " و " محاكمة على بابا " و "عنبر الموت " و" للحب قصة أخيرة " ومن أفضل أعماله الدرامية للتليفزيون " ليالى الحلمية " و" زيزينيا " للكبير عكاشة ، وقد بذل الفخرانى جهده الفنى في المنظومة الإبداعية المتاحة لكن معظم هذه الأعمال وغيرها كانت – في ظنى – محاولة للبحث عن النغمة الصحيحة ، فالأرواح مخلوقة لأرواح محددة لن تجد ذواتها إلا معها .. والفخراني لاعب كبير يبحث عن ملعب يتسع لقفزاته الروحية والفكرية وتأملاته اللانهائية .. والفن هو اللعبة المفضلة للأطفال وبعض المجانين والفخراني طفل ومفكر مجنون عاشق للحياة ويطمع في أن يعينه الفن على تأكيد حبه للوجود ونقل العدوى إلى المشاهدين ليتبعوه . الفخرانى إنسان بسيط للغاية ولكنه منشغل بالقضايا الكبري ويحاول أن يجيب على أسئلة الوجود كالحياة والموت والمصير ودور الدين والمال وقسوة السلطة بكل أشكالها واستبداد الفكر البطريركى " الأبوي" القامع للحريات والقاهر لأحلام أجيال لم تولد بعد.
من يريد أن يدرك معنى الفن فليتأمل الفخراني وهو يؤدى دوره ببراعة لا نظير لها مستعينا بكل ملامحه الجسدية والنفسية ورموش حواجبه وعوجة أصابعه واحتقان وجهه وبريق عينيه وبمشيته الحائرة وإقدامه وإحجامه وتردده وكلماته الحالمة والمضطربة والمترددة والمتناقضة التى تضغط عليها أفكاره المجرورة خلف مشكلات الكون العاصفة بالبشر المساكين .. لقد رحب الفخرانى أن يكون ممثل العبيد البسطاء في مواجهة الأقدار التى تتأبي تجلياتها أحيانا على محاولات العقل سبر أغوارها. ولذلك أثق أنه الذي دعا كمال - وهو اكتشاف مصري جميل – كى يعمل على صياغة دراما تليفزيونية مصرية لمسرحية الملك لير تلك المسرحية الرائعة التى قامت للغرابة على أساس هش ، فكل هذا البناء البركانى ارتكز على فكرة غير إنسانية ويندر أن تحدث مع أي أب فقد حُرمت ابنة من الميراث لأنها امتنعت عن التصريح بحبها المفرط لأبيها وهكذا تبدأ التعاسة ويتزلزل كل يوم جانب من عمارة القيم ويعم الدنيا ظلام لا فجر له .
استعرض كمال والفخرانى خلال الأحداث معاناة قرية - أية قرية على الأرض – من استبداد السلطة التى لا تمتلك الأجساد فقط بل والأرواح أيضا حيث نري أهل القرية بل والخفراء كائنات يضربها الحرمان ويلاحقها الخوف ، والباسل " يحيى الفخراني"سلطة مطلقة يكاد يحيى ويميت ، وفي يوم يقرر أن يوزع ثروته على بناته الثلاث ، وفي غياب شريعة عادلة يتصور أن أساس المنح هو تعبير كل بنت عن حبها له ،ومن ثم أغدقت عليه بنتان المديح له وتحفظت الثالثة فحرمها ، لكن بنتيه اللتين تمتعتا بأمواله أصبحتا مصدر تعاسته بفضل أطماع زوجيهما لتبدأ امبراطوريته في الانهيار وينتهى مجنونا في طرقات القرية التى اختار لها الكاتب اسم " دهشة " وهو ليس اسم قرية بقدر ما هو صفة لذروة الفن التي سعى إليها الفخرانى بإصرار وأمكنه بثقافته وإحساسه المرهف وعشقه للشخصية أن يحقق هذه الدهشة . وقد اجتذبت هذه الرؤية شابا موهوبا وواعدا هو ابنه شادي الذي يتوهج وتتفتح آفاقه في مدرسة أبيه إلى أن اكتمل المثلث.
ولأن الكتابة أصل كل عمل درامى فقد أهدانا كمال كتابة مُعتقة ومُحلقة وعابرة للأزمان والرؤى ، وكمال مبدع لافت يعكف بروية على فكرته ويهيئ لها عالمها الإنسانى ويرسم شخصياته بذكاء ودقة بوصفها مصدر الصراع وساقية الدراما ثم يجري على ألسنتها حوارات بليغة تفيض بالقوة والحكمة ولا تعرف الثرثرة والترخص . والكاتب لابد غاص في عادات وتقاليد المصريين وحيواتهم الخصيبة واستمع طويلا للسير الشعبية وتجول في حوارى التاريخ وتفرغ لتأمل أحوال الشعب الذي تركض على جسده الخيول والكلاب حتى ترسخت في لاوعيه جبال من التجارب والعِبر ، وهكذا تشكل هذا الفريق المميز من الموهوبين وعلى رأسهم الفنان الذي صعد وحيدا نحو القمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق