2014/08/09

غريب الأطوار قصة بقلم : عبد القادر صيد

غريب الأطوار
 بقلم : عبد القادر صيد
    غريب الأطوار ..هكذا يسمونه ..النظّارة السوداء الآسرة غربال لا يسمح بالمرور إلى حيز الاهتمام إلا لتلك النظرات الملفوفة بالتعظيم لشخصه ، و إلا لتلك التي تضيع أمام غموضه و تضطرب بإزاء لغزه، كما هي أيضا تغربل الناس ،فلا تسمح برؤية إلا الأشخاص المهمّين، يظهر ذلك جليا في حركات رأسه .. يسري من هذه النظّارة تيار كهربائي يصل إلى حلقه فيدس فيه  قساوة  مبحوحة مدفونة فيها تعويذة من جرعات الثقة بالنفس ممزوجة بدبيب الاستخفاف و أطياف الوقاحة ، ويضفي نوع فاخر من السيجارة على منظره فخامة إضافية .. يبدو الدخان المنبعث من رئتيه إفراز مصنع بورجوازي يضطرم  حقدا و ازدراء ضد الفقراء  و منظرهم.
    سدى ذهبت جهودهم في التقصي عنه ، و عن وظيفته ، فسيارته و وثائقه كلها على رقم العاصمة ،  يبدو من  خلال كلامه المختصر ، ومكالماته  الهاتفية المقتضبة أنه من شرق البلاد،  لا اختلاف في أنه مبالغ في التحفظ ، كأن وراءه لغزا ، فلم تتعود إدارة هذا الفندق الفاخر التعامل مع هكذا شخصية. هو ينزل عندهم منذ سنوات  بصفة رجل أعمال ، لمدة عشرة أيام في السنة ،يؤدي مراسم الشخصيات المهمة ، صحيح أنه ليس هناك قانون يفرض على الزبون الإفصاح عن مكانته في المجتمع ،لكن العرف عندهم أن  معظم الزبائن تظهر علاقاته بعفوية  بمجرد حجزه الغرف، لذلك يكاد كل العاملين في الفندق يموتون ليعلموا أهمية هذا  الزبون .. و يبقى  كما سموه غريب الأطوار .
   النظافة المبالغ فيها ، و اللياقة الصارخة، و الهدوء الذي لا يعلمون ما يخفي وراءه ..كلها أشياء تحيرهم ..ترى من يكون؟! لم يجدوا أيضا تفسيرا لعدم تكرمه  عليهم بالبقشيش  كعادة من يظهرون في مثل حالته، لم يتكرم على أحدهم و لو مرة واحدة منذ أن شرفهم بضيافته. لماذا يكتفي بشرب القهوة فقط في الفندق ؟ أين يتناول بقية وجباته ؟لا شك أنه يتناولها مع شخصيات مهمة أغلب الظن أنها سياسية .. يكفي أن مالك الفندق يوصي بالاهتمام به ليعتبره الجميع شخصا مهما بلا منازع .
   ما زال منذ أكثر من نصف ساعة يرتشف فنجاة قهوته  ببطء شديد  لا يخلو من استشفاء كلما رآه ينقص كأنما يمارس عليه حرب استنزاف ،  يرشق كل من في مقهى الفندق بنظرات مجهولة الهوية شحذتها النظارة السوداء التي تبدو  كقضبان سجن تقبع خلفها عيناه، لا شيء يروقه في كل ما يرى .. تحامل كبير ضد المكان إلى درجة أن نبضات قلبه صارت دقات قنبلة موقوتة في عدها التنازلي ، في أي لحظة يمكن أن تنفجر ، و مع ذلك فكلما اقترب منه شخص ليكلمه لا تنفجر ،و إنما يلاقيه بالترحيب و الطيبة ، و هذا ما يزيد أيضا في غرابة أطواره.
   فجأة دخلت الشرطة تبحث عن شخص مشبوه ، سمع بعضهم أن المبحوث عنه تاجر مخدرات  تم التبليغ عنه من قبل فاعل خير ،  انصبت شكوك الجميع حول هذا الضيف،وقف الضابط من خلف مكتب الاستقبال يراقب بطاقات الإقامة ، و يقرأ الأسماء             و الوظائف بدقة ، و عندما أمسك بطاقة هذا الزائر العجيب  مررها بسرعة دون التدقيق فيها ، و لكن عون أمن الفندق  قال:
ـ هذا الشخص يبدو غريب الأطوار ، لا أحد ، يعرف مهنته بالضبط ..
ـ دعنا منه ..
قالها ، و أكمل البحث في البطاقات المتبقية ، و فجأة  توقف أمام  بطاقة أحدهم ، و أخذ يدقق فيها جيدا ..
ـ لا أستبعد أن يكون هذا هو المبلّغ عنه ..
ـ من المحتمل أن يكون غريب الأطوار شريكه..
ـ لماذا تصر على إلصاق القضية بغريب الأطوار؟! لا علاقة له بالموضوع  أصلا ،لا من قريب و لا من بعيد ..
  تعجب العون من تأكيد الضابط  على نفي الشبهة  عن غريب الأطوار.. أتراه يعمل مع الشرطة؟! أم تراه هو صاحب البلاغ ؟ كل الاحتمالات مفتوحة !!
  بعدما تم اقتحام غرفة النزيل المشتبه به ، و إلقاء القبض عليه مع حقيبة المخدرات ، خرج الضابط مع رجاله ، و عندما مروره على غريب الأطوار غمزه بعينه غمزة رآها معظمهم، تحرّج تحرجا شديدا ، و انكمش قلبه مثل كتلة من الرصاص ذائبة قذف بها في الماء.. لأول مرة يرونه ينزع النظارة ، و تظهر عيناه تتلاعب كزئبق لم يجد هيئة يستقر عليها. الجماعة حسبتها إعلانا عن انتهاء مهمته .. احتار في  أمره ، هل يبقى في مكانه ، أم يغادر؟ ظّل  باهتا ومسمّرا  على كرسيه ،فهو يجهل المهمة التي أنجزوها، كما يجهل سبب هذه الغمزة .
  أخيرا قرر الصعود إلى غرفته  ، جمع أمتعته ، و نزل ليخبر عون الاستقبال بمغادرته، طلب منه العون التأني ، و عندما  أصر على المغادرة ، أعلم مالك الفندق  بأمره ، فدعاه إلى جلسة في  مكتبه ، و هناك تم حوار بين الكبار، اقتنع فيه غريب الأطوار بالبقاء الأيام التي بقيت دون مقابل ، مع  منحه هدية الفندق  السنوية وهي مبلغ معتبر  للزائر الألف تقدم كل الصيف.
  بقي مالك الفندق  بمفرده في مكتبه ، و تحت يده ملف غريب الأطوار منذ أن شرف الفندق ، مكتوب فيه ما يلي:
   غريب الأطوار محاسب و مسير في محطة بنزين ، يوفر بالكاد سنويا مبلغا ليحجز به غرفة في الفندق ، يستلف سيارة ابن عمه الذي يحمل نفس اسمه ، كما يستلف منه من حين لآخر، غداؤه و عشاؤه  أثناء إقامته لمجة  خارج الفندق ، و يرجع السبب في تصرفه هذا إلى أنه  يريد أن يتقمص دور الغني لأسباب  نفسية مجهولة .
  تحصل مالك الفندق على هذا التقرير بفضل علاقاته الخاصة ، لم يكاشفه بهذا التقرير،و لم يشأ أن يحرمه من  التداوي بالجرعات  العشر من نظرات الاحترام  كل سنة .
   خرج غريب الأطوار، و هو يتنفس الصعداء ، فقد توقع أن  يكونوا قد اكتشفوا  أمر اختلاسه للمبلغ السنوي الذي يقضي به هذه الأيام . لم يكن في قرارة نفسه يعتبر فعله سرقة، و إنما انتقاما.. هو مجرد انتقام  على الإهانة التي يمارسها عليه يوميا  صاحب المحطة، إنه يحاول أن يمحو مرارة سنة  بعشرة أيام بتمويل من مسبب هذه المرارة، هو انتقام  من نوع آخر..انتقام عقل لا قلب ,,انتقام محاسب ، يقول فيه :واحدة بواحدة .. و الدليل على ذلك هو  تحريه أن لا يُدخل من هذا المبلغ شيئا في بطنه ، و إنما  هو يشتري شيئا سرق منه ، يشتري  الشعور بالكرامة الذي سرقه منه صاحب المحطة. 
   و لكن ترى  هل يمكن لعشرة أيام من الكرامة  أن تمحو  سنة بكاملها من الإهانة؟

ليست هناك تعليقات: