بقلم: عبد القادر كعبان
بشير مفتي واحد من أهم الأسماء الأدبية
الجزائرية البارزة اليوم من أمثال المبدع أمين الزاوي، عز الدين جلاوجي، الحبيب
السائح و سمير قسيمي و غيرهم، ولج عالم
الكتابة في نهاية الثمانينيات أين مازج
بين الرعب و الحلم في قصصه الأولى، ثم انتقل الى الكتابة الروائية في
العشرية السوداء التي كانت بمثابة حافز له و للكثير من الأسماء الجزائرية وهذا ما
عكسه عمله الروائي الأول "المراسيم و الجنائز" (1998)، ثم كتب رواية
"أرخبيل الذباب" (2000) لتستمر مغامرته الروائية الناجحة التي تخللت في
العنوانين التالية "شاهد العتمة" (2003)، "بخور السراب"
(2005)، "أشجار القيامة" (2007)، "خرائط لشهوة الليل" (2008)
و غيرها.
إن متعة التلقي الذي تعكسه رواية "خرائط
لشهوة الليل" يأخذ القارئ بتلابيب السرد و ينسج خيوط النضج الإبداعي الخلاق
ليتداخل فيه الشاعري بهموم الحياة اليومية. من يبدأ قراءة هذه الرواية سيلفت
انتباهه للوهة الأولى العنوان الذي اختاره الروائي بشير مفتي و الذي لا يعتبر
اختيارا عبثيا على الإطلاق خصوصا أن الرواية صدرت خلال فترة زمنية عايش من خلالها
الشعب الجزائري انقسامات أهلية شديدة تذكرنا بما حدث من انقسامات جغرافية سببها
الاستعمار الفرنسي. كما يشير الروائي أيضا الى طبيعة الشهوة البشرية المتأججة و
التي يحتل فيها الليل مكانة خاصة ليسرد الحكاية على لسان واقع شخصياتها.
من يتحدث عن الليل و شهواته يتحدث عن الحرية
و كسر قيود المجتمع و أي مجتمع يا ترى؟ طبعا المجتمع الجزائري الذي لا يزال يتخبط
في متاهة الصمت أمام مسألة الطابوهات و هذا الصمت الثقيل لا ينتج عنه سوى التمرد و
التمزق و الإنحلال الخلقي.
من خلال هذا العمل الروائي نقف لمشاهدة أحداث
واقعية تسردها البطلة "ليليا عياش" بضمير المتكلم لتحدثنا عن الخيانة
الزوجية المنطلقة من النواة الأساسية للمجتمع "الأسرة" وهي تقف أمام
خيانة أمها مديرة المدرسة لأبيها البحار و الذي توفي غرقا في محاولة منه لإنقاذ
غريق. الأم التي تعتبر رمزا للمثالية لإبنتها تمزق هذه الصورة في وجه البطلة ليليا
بعدما راودتها فكرة الزواج في فترة زمنية لا تتعدى بضعة أشهر من وفاة زوجها
لترتبط بمدرس يعمل في نفس المدرسة التي
تديرها و هذا ما دفع الإبنة لتختار طريق الإنتقام سلاحا لحياتها التي تصبح بين ليل
و نهار محفوفة بالمخاطر.
اختارت ليليا عتمة الليل بكوابيسه السوداء حيث عمدت الى نسج شباك
الغواية لزوج أمها الشاب و استطاعت بمشاعر الحقد و الانتقام من ايقاعه في شباكها،
حيث استدرجته الى الفراش و داهمتها والدتها فجأة في أحضانه مما تسبب في وفاة هذه
الأخيرة مصدومة على الفور.
ما يكتشفه القارئ منذ الصفحات الأولى للرواية
هو براعة بشير مفتي في استعماله لتكنيك تعرية بنية الداخل التي تجعل من حركة السرد
حركة دائرية مفتوحة على الخارج، على امكانية وجود الداخل كفعل سردي ممكن يضمن
تبادل شهوة الليل و الذات الساردة. فالمرأة يستعملها الروائي محركا للسرد و مكونا
للعقل السردي، حيث أن البطلة ترى أن العتمة التي في قلبها تقودها الى مسار غير
معين و كأنها فاقدة للإحساس بذاتها، و كأنها لا تتحكم في أي شيء حتى عقلها و قلبها
لتجد نفسها تدرس نهارا و تخرج ليلا لقضاء وقتها في الملاهي الليلية مع الرجال
لتشعر بلذة الحياة بلا قوانين تقف حجر عترة أمام حريتها أين تتعرف هناك الى "الكومندان مسعود" الذي فرض حمايته
عليها، ولكنه في الوقت نفسه وظفها مخبرة على زملائها الطلبة لتكتب تقارير عن
نشاطاتهم وتحركاتهم و كأنها عين على الواقع.
تحاول "ليليا عياش" كبطلة للرواية
الكشف عن الصرخات المكتومة للمرأة الجزائرية التي تقف أمام تناقضات مكنوناتها
النفسية و هذا من خلال تساءلها: لماذا راوغت صديق منيرة
وأسقطته في شباكي؟ سألت نفسها
هذا السؤال، ربما ما فعلته بصديقتها كان بدافع الانتقام من إنسانة تعيش حياة نفسية متزنة أو أنها لا تحسن التعامل مع الناس
إلا بلغة جسدها لتصل الى درجة الإثارة القصوى للذات الأنثوية.
العلاقة الملتبسة التي نشأت بين ليليا و"الكومندان
مسعود" الذي وظفها لأغراضه الخاصة لم تصل الى العلاقة الجسدية، ولكن ما فاجأها أكثر أنه عرض عليها فكرة الزواج
فقبلت به، وأسكنها في فيلا على شاطئ البحر، وكان لا يزورها الا في مرات متباعدة ثم
صار يقوم برحلات طويلة تمتد أشهرا دون أن تعرف الى أين تحديدا و كانت نهايته على
يدها حيث قتله بسكين المطبخ هو الآخر.
في الأخير، ما يلاحظ من خلال هذا العمل
الروائي هو هيمنة صوت البطلة ليليا على فضاء الرواية مقارنة مع بقية أصوات
الشخصيات كصوت منيرة وخطيبها عزيز السبع الذي كان أديبا له كتابات منشورة في الصحف
ويشتغل على كتابة باكورته الروائية و كذا الرسام علي خالد ابن العائلة الثرية الذي
أقامت معه فترة في مرسمه بأعالي منطقة حيدرة بالجزائر العاصمة و الذي رافقته في
رحلته الى فرنسا، و هذا العمل الروائي
يستحق أكثر من وقفة للتأمل في حياة "ليليا عياش" المحفوفة بالمتعة و
الإثارة و الفضول في آن واحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق