نكش السطور و العود و الحمار
بقلم : عبد القادر صيد
جلس الطفل على حافة
الساقية و رجلاه في و سطها، و كلما تدفقت المياه
إلى تلك السطور التي ينكشها أحس بغبطة و انتصار كأنه يصنع بحاره ، و حين ملّ نظر
إلى العود الملطخ بالطين ، و نفسه لا تطاوعه في رميه ، كأنه يرفض أن يتخلى عن مضغة من صلبه، لم يرمه و لكن وضعه
بجانبه ، ثم نظر إلى السماء يستطلع أمرا ، فشرعت تلهيه بلعبتها الأزلية ، تستعرض له دمياتها فتتشكل له أشكالا حسب الطلب ، حتى استرخى ، فرجع بظهره إلى
الخلف ،و استلقى على الأرض ليقابلها فيطلب
ما يريد .. ها إنه لا يشعر بالمتعة الكافية ، يحاول أن ينظر إلى السماء و هو شبه
مغمض العينين، تلتحم أشفاره لتختلط مع
سعفات النخيل ، فينفذ إليه النور كأنه
في كهف ، يحس بزحف كتائب المياه على رجليه
و هي تتمسح بجلده و تتحرش به ،لا يأبه لها ،بل يركز في متابعة معرض الصور المفضلة
لديه ..يتبخر الآن السأم من كل خلية في جسده فينسجم مع المشهد ، ويحس بروحانية تسمح له بالارتقاء إلى فوق ليرافق دمياته .
من فرط تناغمه مع لعبة الدُّمى لم ينتبه لدخول شيء غريب على المشهد قد اقتحم عليه عالمه ، شيء أسود
كأنه حذاء ممزق .. ينخطف فجاة ، وينتفض من مكانه، فإذا أمامه كائن يسمى الحمار..
ـ بسم الله الرحمن
الرحيم ..كيف تجرؤ أيها الحمار و تقطع عليّ خلوتي ..
ينظر إليه الحمار بجنب و بتحد كأنه يتجاهله ،
لم يدر الطفل إن كان الحمار ينظر إلى جهته أو ينظر إلى جهة أخرى..لكن عقله لم
يتباطأ في إمداده بفكرة ، كلمح البصر برز أمامه موقفه الأسبوع الفارط مع الكلب
الذي هاجمه ،حينها لم يخف منه بل تقدم إليه متظاهرا بمبادلته الهجوم مما أرغم الكلب
على التراجع تلقائيا،حدث نفسه الآن:
ـ ربما نفع مع الحمير
ما نفع مع الكلب ،فشأنهما سيان ، فالكلاب نحمّلها عبء أمننا و
الحمير نحمّلها عبء أجسادنا و أمتعتنا ، و نحن نستدل بألحان الكلاب على اللصوص ، و
نستدل بألحان الحمير على الفنانين ، تبا لهذه الحديقة التي لا تفاجئني فيها إلا هذه الأصناف ، أتلهف
ليوم يقاطعني عصفور أو فراشة!
تقدم الطفل خطوتين في حركة أرادها أن تكون سريعة و جريئة ليخيف الحمار،
لكن الحمار لم يعبأ به ،حثا في وجهه حفنات
من التراب ، لكن الحمار أدار وجهه غير متأثر بشيء من هذا ، صاح في وجهه طويلا ،لكنه
رأى الانشراح على وجهه ، أدرك المستوى الذي انحدر إليه، نظر حوله ليتأكد من أنه لا
أحد يوثق غباءه ، و حدث نفسه ثانية:
ـ لن أتركه ينال مني ، لن أسمح لكائن نكرة ليس
له علامة مسجلة في الإيذاء أن يهزمني..
فليس للحمار عضة
مشهورة كما الكلب ، و لا لسعة مرهوبة كما العقرب و الأفعى ، للأسف فإن أذاه غير مصنف
في الكتب ، ماذا أقول لأبي ؟ عضني حمار ، ستذهب عني كلمة عضني ، و تلتصق بي حتما و
إلى الأبد كلمة حمار.
نظر وراءه فوجد الساقية ، حدثته نفسه بالقفز عليها للهروب..
ـ لست حمارا لأهرب
من حمار،سأمتطيه ، و سيرى مني ما يسوءه .
قفز قفزة فارس واثق من نفسه ، لكن الحمار انتفض
مرة واحدة فأسقطه سقطة قوية في الساقية، لقد جهل الغرير المسكين أن سقطة الحمار
مسجّلة ،تألم و لكنه ما زال يافعا فلم ينكسر فيه شيء، لم يتفطن كيف وجد بين يديه ذلك العود الملطخ بالطين و
الذي كان ينكت به السطور، هاهو الحمار يهجم عليه فاتحا فمه ليعضه عضة الدهر كله، و
يترك عليه وسما لن ينساه ، فظيع أن تنتهي القصة بانتصار الحمار على الطفل الحالم
،لم يكن ليتحمل هكذا نتيجة،استجمع قوته ، وضم
أصابع يده يقوة على العود ،وما كاد الحمار يقترب منه حتى غرز العود في عينه بسرعة و بقوة مطلقا صرخة
ارتبكت منها دمياته التي لم ترى منه لأول مرة هذا الوجه الجديد، و نهق الحمار نهيقا يحمل في طياته كل أصوله الحمارية، و رجع بدمائه من حيث أتى .
أدرك الطفل منذ هذه الحادثة مخاطر
متابعة دميات السماء ، لكنه تعلم الوثوق في عوده، فبقي محافظا عليه و لم يتخل عن نكش
السطور بجانب الساقية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق