2014/08/18

تغيير بطل الفيلم قصة بقلم : عبد القادر صيد

تغيير بطل الفيلم 
بقلم : عبد القادر صيد
    ما حفّ الحاجة الجازية  هذا السر في شيخوختها إلا لخلوّها من أي سر في شبابها ، فقد عاشت عزباء  في تجمع  غير بعيد عن المدينة  يتكوّن من عشرين بيتا يميّزون بين أنفاس بعضهم البعض، منذ أن وعى كبارهم و ذاكرتهم تستحضرها عجوزا نقية كريمة.. تجاوزت الآن المائة ، تسرع في مشيتها غير معترفة بالسن و المرتفعات ، لا لحم تحمله  على عظامها ليثقلها هي مجرد عروق خضراء ناتئة من وشم الزمن على جسدها الهزيل و هي أودية الألم على خريطة الرضا  و الترحيب بكل ما تخبئه الأيام ، و قد نفد  ما  تخبئه لها الأيام من مفاجآت منذ  سنين و لم يبق إلا  انتظار المفاجئة الكبرى التي لا مفاجئة  فيها .
   دفنت الجازية كل أقاربها تحت التراب و لكنها لم تدفن معهم عواطفها ، فهي  ما زالت  تفرق منها على أسرتها الثانية المكونة من دجاجات ، و معزات، تنادي كل واحدة منها باسمها ،تحتفظ بما تجود به هذه الكائنات لاستهلاكها  اليومي من البيض و الحليب          و ترسل بالباقي منها و من عواطفها إلى جيرانها الذين أصبحت تجتنب معاشرتهم حتى لا تفجع فيهم بخيانة أو برحيل.
   ها هي الآن ككل يوم تستيقظ باكرا ،لا أحد يسمع خطواتها و هي تتنقل في كوخها للصلاة ، تتناول فنجانا من القهوة ، تتفقد دجاجاتها و معزاتها ، ثم تحرق البخور الذي يدخل إلى بيوت جيرانها بدون استئذان حاملا معه روحها الطيبة الطاهرة لتوقظهم و تبلغهم السلام ،ثم تجلس أمام الباب لتكون شاهدة على انسحاب الظلام  تدريجيا و لتشاهد معه  انسحاب آخر الكلاب الأجنبية من الحي  تاركا  دور البطولة في نفس المسرح لبني الإنسان :
ـ تمهلوا أيها الكلاب قليلا لتعلموا الإنسان كيف يتعايش مع أخيه الإنسان ..
  هكذا كان لسانها يردد كل يوم دون أن يكون قلبها قاصدا الشتيمة لجيرانها أو لأي كائن آخر..يبدأ الآن بعض الأطفال بالدخول إلى منزلها  بهدوء و صمت ليأخذوا نصيبهم من الحليب  و البيض كعادتهم ، بعضهم قد لقّنه أهله أن يلقي عليها السلام بصورة آلية ، كانت  نشوتها بالصامتين أكثر من المسلّمين ،لقد تعلمت أن الصامتين يحبونها إذا كبروا أما الآخرون فمعظمهم  يتعالى عليها ، هذا ما رأته في حياتها من خلال آبائهم ، و رغم ذلك فهي ترحب بهم جميعا، و تناديهم جميعا بأسماء الدلال ، حتى و هم كبار .. يكبرون  و لا تكبر معها أسماؤهم ..
   بقيت كذلك إلى أن غلبها النوم كعادتها ، و ظل كل مار عليها يلقي عليها السلام و هو لا ينتظر منها الرد ،فهي  كعادتها ترد بصوت  خافت  لا يسمع ، فلا يعرف إذا كانت نائمة أو مستيقظة ..
      بينما هي كذلك إذ توقفت سيارة فخمة أمام منزلها ، نزل منها رجل أنيق ،تعرّف عليه أهل الحي بسرعة ،إنه عبد الرؤوف ، رجل موسر يعيش في أوربا منذ زمن ، يسلّم على بعض الكبار.. و العجوز لا تشعر بما يحدث حولها ، فهي سابحة في نومها على بساط خفيف كعادتها  في مثل هكذا حر منذ سنوات:
ـ جئت مع قناة أجنبية لنقوم بتصوير فيلم عن الحاجة الجازية  ،فهي أعمر واحدة في الوطن و ضمن آخر أربعة  معمرين في العالم لا يزالون على قيد الحياة ..
  حينما سمعوا كلامه نظر بعضهم  إلى بعض نظرة تأنيب و عيونهم تقول :
ـ كيف لم نتفطن لهذا و نحن لا نغفل يوميا أن نرسل أبناءنا كل صباح لجلب الحليب  و البيض؟!
   اقترب عبد الرؤوف من الجازية ، و حدثها ،فلم تجبه ، كرّر عليها السلام  دون جدوى ، حرّكها ، فلم يجد لها ردة فعل ..
ـ الله أكبر، الحاجة ميتة أمامكم ، و لا أحد ينتبه لذلك ، إنا لله و إنا إليه راجعون في ضمائركم الميتة .
  حملها بين يديه و هي لا تزن بضعة أرطال ، و الدمع بين خديه ، و أدخلها إلى كوخها ، وكلم المستشفى ، و ضعها فوق سريرها ، وبدأ يجيل نظره في هذا  المكان الذي تشرق عليه الشمس بأشعة متوضئة ، رجعت به الذاكرة  عندما كان صغيرا يدخل كل صباح دون أن يلقي عليها السلام ليأخذ  نصيب أسرته من الحليب و البيض ، استحضر ابتسامتها كلما رأته عابس الوجه  غاضبا من أبويه اللذين أيقظاه باكرا ..كانت تمزح معه و تمسك أنفه قائلة :
ـ ترى هذا الأنف إلى أين سيوصلك؟
  مجموعة من الذكريات الغالية التي انمحت من الذاكرة تطفو فجأة لتتزاحم على ذاكرته ، فيمتلأ صدره ، إلى أن يضيق به الحال ،فيجهش بالبكاء:
ـ ماذا أصوّر الآن؟ نصل دائما متأخرين.. قدر العظماء أن لا نعرف عظمتهم إلا بعد أن يرحلوا عنا ! هل نبدأ الفيلم من لحظة موتها ؟ هل ستسامحنا إذا صورناها الآن ؟ أعينوني بالمشورة يا جماعة .. هل يليق بي أن أصورها ميتة  أم لا ؟ سيصبح عنوان الفيلم (رحيل آخر معمرة في الوطن)، كم أنا  حزين أن يكون عملي هو الإعلان عن نفي حالة بدل إثباتها !!
  عصفت برأسه زوبعة  من الأفكار، بعدها  قرر أن يصور فيلما عن جحود أهل الحي لفضل الجازية ، و هو بذلك دون أن يقصد يحرم الجازية من فلم مخصص لها و لكرمها  و طيبتها ،  تحرم من دور البطولة في موتها بعد أن أدته عشرات من السنين في حياتها.
   صار جيرانها  فجأة أبطالا فصحاء ، يتكلمون أمام الشاشة متأسفين عن فقدانهم لها ،ذرفوا الدموع ، و أطلقوا الآهات ..لقد أصبحوا رسميا بين عشية و ضحاها أبطال فيلم (وفاة آخر المعمرات).

هناك تعليق واحد:

kora today يقول...

قصة رائعة جدا جدا
أسلوب الراوي يشد الإنتباه