قصة مقص
بقلم : عبد القادر صيد
لطالما طارده المقص ،لاحقه بفكيه الشرهتين،
تلهّف عليه ،لهث خلفه ، من قبل أن يرى نور الحياة و هو يتربص به ، و عند الصيحة
الأولى عاجله بقطع حبله السري، ثم تركه يسيرا ، وما لبث أن باغته ليختنه ،ثم تهادنا ليمضيا تعاقدا معا كل شهر يرتع في تيجان رأسه كما يشاء ، كلما لمع المقص أمام
عينيه أعلن بريقُه عن مرحلة جديدة ، ها هو ذا يرفض أن تمر هذه المناسبة بلا مقص ،
لابد أن يقص به بين عهدين ، عهد مضى كان
يرعى فيه هذا الشجرة ، و عهد حاضر صارت تعتمد فيه على نفسها..
نعم هي شجرة غرسها خارج المدينة
منذ عشر سنوات، كان يتعهّدها كل يوم ،يأتيها بدراجته
النارية ، حاملا معه الماء ليسقيها،و كطفلة صغيرة كانت عاجزة أن تحمي نفسها من
القطعان التي ترعى في تلك المنطقة حماها
بسياج متين ، و أنشأ بجانبها ردما من المرتفعات لينحرف ماء السيول عنها،و رغم ذلك
تعرضت للقطع من قبل قطعان السكارى، تربص بهم ليلا ، تركهم حتى ثملوا ثم انهال عليهم
بوابل من الحجارة،تركوا المكان ، ولم يفكروا في الرجوع إليه، و غرس أخرى و أخرى و
أخرى إلى أن أصبحت هي هي الشجرة .و أصبح هو صاحب الشجرة .
ها هي الآن ذي شجرة فارعة ، تتحمل العطش ، و تُعجز الإنسان
القوي أن ينزعها بعضلاته ، لا بد من تأريخ هذه المرحلة بقصة مقص ، لا بد أن يقص
الشريط لتدشين هذا المشروع العمري، ها هي مجموعة من رفقائه يصفقون، و يحتفلون بحياة الشجرة و بحياة غارسها
و متعهدها ، و ها هي ذي مجموعة من الطفوليين تتوقف ، تتساءل عن ضحايا حادث المرور:
ـ ليس هذا حادث
مرور ، و إنما تدشين شجرة ، هذا الشخص الذي تراه ، هو من غرسها و تعهدها إنه
شخص عظيم..
ـ الأمر لا يستحق
هذا الاجتماع ..
ـ ليس هذا اجتماعا و إنما تدشين..
ـ تدشين .. أنا
أستطيع أن أفعل مثله !!
ـ صحيح تستطيع ، و
لكن هل فعلت؟هل فكرت مجرد التفكير في أن تغرس شجرة و تتعهدها ، و تجعلها مشروعا لعشرة
سنوات ،و لا تتركها إلا بعد أن تستعصي على يد التخريب ؟
ـ أفهم من كلامك
أنه لن يحرسها بعد اليوم..
ـ نعم ،لقد كبرت ،
المفروض أنها من اليوم ستحرس نفسها..
ترك هذا الفضولي
الجماعة ، و هو يكلّم نفسه :
ـ أي بطولة في غرس
شجرة ؟! كلنا يستطيع أن يفعل ذلك ..
عندما جن الليل ، توقفت سيارة ، خرج منها شخص ،
حاملا معه فأسا ليتحول من فضولي إلى مخرب ،و قبل الضربة الأولى أمسك بيده شخصان ،
و نزعا منه الفأس ، حاول التملص منها و لكنهما أحكما وثاقه :
ـ اتركاني يا
مجرمين ..
ـ لا تصرخ ، لا
تخف لن نؤذيك ، لقد حدثنا حدسنا أنك سوف ترجع ليلا لتقطعها ، أنت فقط ستخبرنا
لماذا.
حاولا معه
ليخبرهما عن سبب محاولته قطع الشجرة ، و لكنه أبى أن يخبرهما بالسبب لأنه لم يكن
يجرؤ أن يجابه بجواب هذا السؤال حتى نفسه..
ما هي
إلا لحظات حتى جاءت سيارة أخرى ، و تبعتها أخريات، و نزل منها فضوليون كثيرون ، و
بدأ تشابك شديد ، و جد صاحب المقص نفسه موثقا بعدما أسلم صديقه رجليه للريح ، حاول الإفلات
منهم ، و عندما يئس ، صاح فيهم :
ـ هل أنتم عصابة ؟
و هل تعرفونني ؟
ـ و لا أحد يعرفك ، كما و لا أحد منا يعرف الآخر، و لكن كل واحد منا قصد هذا
المكان ليثبت أنك فاشل.
ـ كيف يثبت أني
فاشل؟
ـ بقطع هذه الشجرة
التي تفتخر بها.
ـ اقطعوها ، و
سأغرس شجرة أخرى و يكون لي إنجازان ..
ـ سنقطع الثانية أيضا..
ـ سيكون لكم تخريبان،
و سأغرس أخرى..
تقدم كبير
الفضوليين الذي لبس الآن قناع المخرب و تناول المقص الذي لم يكن بعيدا عنه ،و أشار
به إلى وسط الموثوق قائلا:
ـ إن غرست شجرة
أخرى ، فأنت تعلم ما سيحدث لك ..
في الصباح قرر أن يغرس شجرة أخرى في مكان آخر،
مع إعلانه مخاصمة المقص ، فلا تدشين و لا قص شريط ، حتى لا يتعرض إلى
...فالمقص ما زال يتلهف عليه ، و يلهث خلفه ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق