بقلم: خيري عبدالعزيز
رواية "فرانكشتاين في بغداد" الحاصلة على جائزة البوكر في نسختها العربية لهذا العام 2014, هي رواية محملة بالكثير من التوابل؛ فهي اجتماعية, تتكئ على فرضية "ميتافيزيقية", يلفها طابع بوليسي محمل بالإثارة والتشويق. السرد فيها منساب كالنهر, يأخذ من المنبع ويجري إلى المصب, تتخلله أفرع دائرية تنتقل بأحداثه من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل أو العكس, مما يجعل الزمان والمكان في الرواية ديناميكيين, لا يثبتان على حال, ولا قانون يحدد حركتهما, ولكنهما يخدمان الحدث ويساهمان في تأجج عنصري التشويق والإثارة.
وقد جاءت الفرضية "الميتافيزيقية" لتتلاءم مع الحياة الغرائبية المتأججة بالصراع والدم والتي تعيشها العراق منذ ليلة سقوط بغداد عام 2003. وكأن ما يجسد حال بغداد والعراق في رواية كهذه, لابد وأن يكون شيء خارج نطاق العقل والمنطق, كما أن الصراع الدموي في بغداد والعراق هو أيضا خارج نطاق الاستيعاب والفهم. وجسد "السعداوي" الوضع الدموي في هذا "الفرانكشتاين" الذي شيده "هادي العتاك" من جثث الضحايا, بغية تسليمه للجهات المختصة شارحا وجهة نظرة في الإهمال الذي تلاقيه الجثث التي تخلفها التفجيرات المختلفة. هذا "الفرانكشتاين" الذي خدمته المصادفة
كثيرا, فيوهب الحياة عندما حدث تفجير جديد تلاشى فيه جسد الشاب الأمني "حسيب محمد جعفر" على مدخل الفندق الذي كان يؤمنه في مناوبة حراسته, وتهيم روح الشاب "حسيب محمد جعفر" تبحث عن الجسد الذي لم يعد له وجود, وتعثر مصادفة على جسد "الشسمة" وقد أسقطه الانفجار من سطح بيت "هادي العتاك", فلا تجد الروح بديلا من احتلال هذا الجسد المرقع من جثث ضحايا التفجيرات, عوضا عن جسد الشاب الأمني الذي اختفى وتلاشى بسبب قربه الشديد من الانفجار العنيف.
وتبث الحياة في "الشسمة". وتخدمه المصادفة ثانية, عندما تمنحه "إيليشوا" العجوز هوية واسم ابنها "دانيال" الذي فقدته في الحرب العراقية الإيرانية منذ عشرين عاما؛ ليتحول "الشسمة" التي صنعها "هادي العتاك" من أجزاء البشر المختلفة إلى بشر يسير على قدمين, له اسم وهوية "دانيال" وتحتله روح الشاب الأمني "حسيب". وليبدأ الصراع على أرض بغداد وعلى أسطحها وبين شوارعها وأزقتها, فكل العناصر التي تآلف منها "فرانكشتاين" أو "الشسمة" تطالبه بالقصاص من القتلة. كل الضحايا تبغي الثأر. "دانيال" الذي أخذ "الشسمة" اسمه يبغي القصاص من العجوز "زيدون" الذي وشى وزج به
في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل, فمات خائفا مرتجفا, في حين تسمرت أمه "إيليشوا" تنتظر عودته غير مكترثة بتبدل الزمان والمكان. وكذلك الشاب الأمني الذي تلاشى جسده من الانفجار يبغي القصاص من قاتله, وكل جزء مرتق من جسد "فرانكشتاين" يطالبه بذات الأمر, ليجد "الشسمة" نفسه ساقطا في مأزق بسبب المطالبات العديدة, وهو يتمنى أن ينتهي ويفرغ من مهمته ليذوب ويتلاشى, فالجزء الذي يقتص له يسقط عن بدنه, وهو إن حقق مهمته في الزمن المطلوب سقطت كل أجزاء بدنه, وغادرته الروح, وترك الحياة إلى الأبد. ولكنه أيضا إن لم يحقق القصاص ذابت وسقطت الأجزاء التي انتهت
فترتها. ولأن الروح ما زالت موجودة, والأجزاء الأخرى مازالت موجودة وتطالبه بالقصاص؛ فقد وجد نفسه في حاجة إلى قطع غيار جديدة عوضا عن الأجزاء البشرية التي ذابت.
هذه هي الفرضية الميتافيزيقية التي شيد عليها الكاتب روايته. ويستمر "الشسمة" على هذا المنوال, ولا تنتهي قائمة الثأر, التي تتجدد باستمرار, وتطالبه بأسماء أشخاص جدد عليه تصفيتهم وقتلهم.
ثم تأتي مرحلة جديدة في حياة الشسمة, فيلتبس الأمر عليه عندما يستخدم عن طريق الخطأ أجزاء بشرية لمجرمين دمويين وليس لضحايا, ويصيبه التشوش وتتكشف له فلسفة لم يكن ليراها بمفرده؛ أن الضحايا هم ضحايا بنسبة, وبنسبة أخرى هم مجرمين, وقد يكون ضحية الانفجار في أمر آخر مجرما, وكذلك الأمر بالنسبة للمجرمين فهم أيضا ضحايا لأشخاص وظروف دفعتهم لطريق الإجرام. ليتكشف للشسمة ويتصارح أخيرا مع نفسه؛ أنه يرغب بالحياة ذاتها بغض النظر عن طلبات أجزاءه بالانتقام. وتنتابه حالة قلق كلما فقد جزء من بدنه, ويسعى جاهدا لقتل كل من يعترض طريقه؛ أبرياء كانوا أو
مجرمين, وينتزع منهم الأجزاء الناقصة لاستكمال الحياة التي بات يعشقها بلا هدف بعينه, ضاربا بعرض الحائض كل القيم والمبادئ.
"الشسمة" هو الإرهاب والصراع الدموي, هو الجماعات المسلحة التي تدفعها وتحركها في البداية فكرة قد تبدو نبيلة من وجهة نظرها, ثم, وعندما تتلوث الأيدي بالدم وتتسع دائرة القتل ينس الجميع الهدف الذي قاموا من أجله, وتتشكل نوايا جديدة وأفكار جديدة وأهداف جديدة تبرر فقط الاستمرار والدم والعنف, فهذا طريق يبدو الرجوع منه مستحيلا وهذا ما أراد "السعداوي" قوله. وهذا هو حال بغداد والعراق الذي ساعد الجميع في إغراقه في الدموية والعنف؛ فصنعوا "شسمة" صار يطاردهم جميعا مع أنهم صانعيه, ولا يفرق بين مجرم وضحية, لأنه لم يعد يعنيه سوى الحياة ذاتها. إنه
الصراع الذي شارك الجميع فيه ويروح الجميع ضحيته.
رواية جميلة محملة بالفلسفة العميقة, كتبت بلغة مباشرة خلت من الالتواء والمحسنات, وسعت بجد إلى الهدف, لتشكل وتغزل ملحمة بغداد الكبرى أو مأساة العراق الكبرى. ف"محمود السوادي" الشاب الطموح الساعي إلى تحسين وضعه الاجتماعي, و"نوال الوزيري" التي تسعى إلى الشهرة بالفيلم الذي لا تدخر جهدا من أجل إخراجه, و"السعيدي" رجل الساعة الألعبان الذي يعلم كيف يلتف ويدور ويغزل شباكه من أجل مآربه, "وإيليشوا" العجوز المسكينة وتشبثها ببغداد لعل "دانيال" يعود, و"فرج الدلال" الذي يستثمر خوف الناس وفزعهم وهروبهم من بلد يخيم عليه شبح الموت؛ فيشتري منهم بيوتهم
بأبخس الأسعار وفي النهاية تصيبه قذيفة لا تقتله ولكنها تهدم الكثير من قناعاته, وغيرهم وغيرهم. حالات إنسانية متباينة, محملة بالأماني والطموحات والآمال, ولكن يجهضها ويقوض بنيانها حالة القتل والصراع والدم, وكأن الكاتب يريد أن يقول أينما حل الدم فلا مجال لأي شيء
رواية "فرانكشتاين في بغداد" الحاصلة على جائزة البوكر في نسختها العربية لهذا العام 2014, هي رواية محملة بالكثير من التوابل؛ فهي اجتماعية, تتكئ على فرضية "ميتافيزيقية", يلفها طابع بوليسي محمل بالإثارة والتشويق. السرد فيها منساب كالنهر, يأخذ من المنبع ويجري إلى المصب, تتخلله أفرع دائرية تنتقل بأحداثه من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل أو العكس, مما يجعل الزمان والمكان في الرواية ديناميكيين, لا يثبتان على حال, ولا قانون يحدد حركتهما, ولكنهما يخدمان الحدث ويساهمان في تأجج عنصري التشويق والإثارة.
وقد جاءت الفرضية "الميتافيزيقية" لتتلاءم مع الحياة الغرائبية المتأججة بالصراع والدم والتي تعيشها العراق منذ ليلة سقوط بغداد عام 2003. وكأن ما يجسد حال بغداد والعراق في رواية كهذه, لابد وأن يكون شيء خارج نطاق العقل والمنطق, كما أن الصراع الدموي في بغداد والعراق هو أيضا خارج نطاق الاستيعاب والفهم. وجسد "السعداوي" الوضع الدموي في هذا "الفرانكشتاين" الذي شيده "هادي العتاك" من جثث الضحايا, بغية تسليمه للجهات المختصة شارحا وجهة نظرة في الإهمال الذي تلاقيه الجثث التي تخلفها التفجيرات المختلفة. هذا "الفرانكشتاين" الذي خدمته المصادفة
كثيرا, فيوهب الحياة عندما حدث تفجير جديد تلاشى فيه جسد الشاب الأمني "حسيب محمد جعفر" على مدخل الفندق الذي كان يؤمنه في مناوبة حراسته, وتهيم روح الشاب "حسيب محمد جعفر" تبحث عن الجسد الذي لم يعد له وجود, وتعثر مصادفة على جسد "الشسمة" وقد أسقطه الانفجار من سطح بيت "هادي العتاك", فلا تجد الروح بديلا من احتلال هذا الجسد المرقع من جثث ضحايا التفجيرات, عوضا عن جسد الشاب الأمني الذي اختفى وتلاشى بسبب قربه الشديد من الانفجار العنيف.
وتبث الحياة في "الشسمة". وتخدمه المصادفة ثانية, عندما تمنحه "إيليشوا" العجوز هوية واسم ابنها "دانيال" الذي فقدته في الحرب العراقية الإيرانية منذ عشرين عاما؛ ليتحول "الشسمة" التي صنعها "هادي العتاك" من أجزاء البشر المختلفة إلى بشر يسير على قدمين, له اسم وهوية "دانيال" وتحتله روح الشاب الأمني "حسيب". وليبدأ الصراع على أرض بغداد وعلى أسطحها وبين شوارعها وأزقتها, فكل العناصر التي تآلف منها "فرانكشتاين" أو "الشسمة" تطالبه بالقصاص من القتلة. كل الضحايا تبغي الثأر. "دانيال" الذي أخذ "الشسمة" اسمه يبغي القصاص من العجوز "زيدون" الذي وشى وزج به
في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل, فمات خائفا مرتجفا, في حين تسمرت أمه "إيليشوا" تنتظر عودته غير مكترثة بتبدل الزمان والمكان. وكذلك الشاب الأمني الذي تلاشى جسده من الانفجار يبغي القصاص من قاتله, وكل جزء مرتق من جسد "فرانكشتاين" يطالبه بذات الأمر, ليجد "الشسمة" نفسه ساقطا في مأزق بسبب المطالبات العديدة, وهو يتمنى أن ينتهي ويفرغ من مهمته ليذوب ويتلاشى, فالجزء الذي يقتص له يسقط عن بدنه, وهو إن حقق مهمته في الزمن المطلوب سقطت كل أجزاء بدنه, وغادرته الروح, وترك الحياة إلى الأبد. ولكنه أيضا إن لم يحقق القصاص ذابت وسقطت الأجزاء التي انتهت
فترتها. ولأن الروح ما زالت موجودة, والأجزاء الأخرى مازالت موجودة وتطالبه بالقصاص؛ فقد وجد نفسه في حاجة إلى قطع غيار جديدة عوضا عن الأجزاء البشرية التي ذابت.
هذه هي الفرضية الميتافيزيقية التي شيد عليها الكاتب روايته. ويستمر "الشسمة" على هذا المنوال, ولا تنتهي قائمة الثأر, التي تتجدد باستمرار, وتطالبه بأسماء أشخاص جدد عليه تصفيتهم وقتلهم.
ثم تأتي مرحلة جديدة في حياة الشسمة, فيلتبس الأمر عليه عندما يستخدم عن طريق الخطأ أجزاء بشرية لمجرمين دمويين وليس لضحايا, ويصيبه التشوش وتتكشف له فلسفة لم يكن ليراها بمفرده؛ أن الضحايا هم ضحايا بنسبة, وبنسبة أخرى هم مجرمين, وقد يكون ضحية الانفجار في أمر آخر مجرما, وكذلك الأمر بالنسبة للمجرمين فهم أيضا ضحايا لأشخاص وظروف دفعتهم لطريق الإجرام. ليتكشف للشسمة ويتصارح أخيرا مع نفسه؛ أنه يرغب بالحياة ذاتها بغض النظر عن طلبات أجزاءه بالانتقام. وتنتابه حالة قلق كلما فقد جزء من بدنه, ويسعى جاهدا لقتل كل من يعترض طريقه؛ أبرياء كانوا أو
مجرمين, وينتزع منهم الأجزاء الناقصة لاستكمال الحياة التي بات يعشقها بلا هدف بعينه, ضاربا بعرض الحائض كل القيم والمبادئ.
"الشسمة" هو الإرهاب والصراع الدموي, هو الجماعات المسلحة التي تدفعها وتحركها في البداية فكرة قد تبدو نبيلة من وجهة نظرها, ثم, وعندما تتلوث الأيدي بالدم وتتسع دائرة القتل ينس الجميع الهدف الذي قاموا من أجله, وتتشكل نوايا جديدة وأفكار جديدة وأهداف جديدة تبرر فقط الاستمرار والدم والعنف, فهذا طريق يبدو الرجوع منه مستحيلا وهذا ما أراد "السعداوي" قوله. وهذا هو حال بغداد والعراق الذي ساعد الجميع في إغراقه في الدموية والعنف؛ فصنعوا "شسمة" صار يطاردهم جميعا مع أنهم صانعيه, ولا يفرق بين مجرم وضحية, لأنه لم يعد يعنيه سوى الحياة ذاتها. إنه
الصراع الذي شارك الجميع فيه ويروح الجميع ضحيته.
رواية جميلة محملة بالفلسفة العميقة, كتبت بلغة مباشرة خلت من الالتواء والمحسنات, وسعت بجد إلى الهدف, لتشكل وتغزل ملحمة بغداد الكبرى أو مأساة العراق الكبرى. ف"محمود السوادي" الشاب الطموح الساعي إلى تحسين وضعه الاجتماعي, و"نوال الوزيري" التي تسعى إلى الشهرة بالفيلم الذي لا تدخر جهدا من أجل إخراجه, و"السعيدي" رجل الساعة الألعبان الذي يعلم كيف يلتف ويدور ويغزل شباكه من أجل مآربه, "وإيليشوا" العجوز المسكينة وتشبثها ببغداد لعل "دانيال" يعود, و"فرج الدلال" الذي يستثمر خوف الناس وفزعهم وهروبهم من بلد يخيم عليه شبح الموت؛ فيشتري منهم بيوتهم
بأبخس الأسعار وفي النهاية تصيبه قذيفة لا تقتله ولكنها تهدم الكثير من قناعاته, وغيرهم وغيرهم. حالات إنسانية متباينة, محملة بالأماني والطموحات والآمال, ولكن يجهضها ويقوض بنيانها حالة القتل والصراع والدم, وكأن الكاتب يريد أن يقول أينما حل الدم فلا مجال لأي شيء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق