بقلم: د. محمد مبارك
البندارى
في الآونة الأخيرة تصدى المجتمع لمجموعة من الأفلام ؛ ووقف لها بالمرصاد عبر
قنواته المختلفة ؛ لأنّ مثل هذه الأفلام خير دليل على الانحطاط الأخلاقى الذى وصل إليه الفنّ المصرى ، والغريب أن
الرقابة الفنية ليس لها مهمة شاقة إلا مراقبة الكتب ومنعها ، وأما الأشرطة
التى تحمل كلماتها كل كلمات الانحطاط والاستخفاف بالذوق العام مثل " بحبك يا
حمار " و " هز يا وز " ، ومثل
هذه الأفلام التى تتكئ على صورة المرأة وإبراز مفاتنها ، تجيزها وترخّص لتسويقها بدعوى " حرية
الإبداع " .
لقد أصبحت النذالة والخسة والانحطاط الأخلاقى والإساءة
للمؤسسات الدينية هى ثروة الفن المصرى ، وموهبة بعض الفنانين ، بل هى شعارات كتبت
على أفلامهم وأعمالهم .
ثمّت أَن يكون الإنسان فاضِحاً لهذا الانحطاطِ الأخلاقىّ ولهذه النَّذالة
والخسّة ليس معجزة بل المعجزة في الاندهاش ، أن يكون ذلك الإنسَان صَانع الخسة
والنذالة والإسفاف الأخلاقى يعيش في وهمِ
الإبداع ويدافع بكل ما أوتى عن الباطل ، ولا يرى الفواحش إلا إبداعاً ، ولا يستسيغُ
غير هذه الخسَّة والنَّذالة ، في حين أن المجتمع يرى ذلك انحطاطاً أخلاقيّاً ، وقد
شكَّل الآباء والأجداد في المجتمع المصرىّ أنواع العبقرية في الأخلاقِ والمثلِ
والالتزامِ بالعاداتِ والتقاليدِ والأَدب
المحترم في قولِ الحق .
حقًّا إنهم الخالدون في قاعِ الرذيلة ... والخسّة هى أخلاقهم ، ومن الحسن أنّ المجتمع بدء
يكشف أوراقهم وشخصياتهم التى تسعى لتحقيق مصالحها ومنافعها الشخصية عن طريق
الرذيلة والنذالة والخسة ...
رغم أن المفروض أن يتميز الفنّان برهافة الحسّ ، والحسَاسية
المفرطة ؛ لأنها تدل على صدق انفعاله ، ومن كانت هذه خليقته فليس " برجوازيا
" سطحىّ التفكير ، رَدئ الإبداع ، ميَّت
الحسّ ؛ وإنّما هو فنان بمعنى الكلمة .
والفنّ قمة التفوق والعبقرية ، فإذا جاء الحقّ " عمل
العقل " ، والخير " ما ينبغى أن
يكون " بوجهٍ فنى فذلك قمة الفن في المنطق والأخلاق ، فإذا أضفنا إلى ذلك
جماليات الخيال ، واللغة والعاطفة ، فقد جمعنا القيم الثلاث : الحقّ ، والخير ، والجمال ، وذلك
قمة العبقرية ، وإظهار ذلك من خلال تقنيات الصورة الإشهارية "التلفاز والسينما
" .
ومن المفترض أن يكون مرهف الحس " أى الفنان "
متمتعاً أكثر من غيره بآيات الجمال ، ومتع الحياة .
وأما هذه الفئة من
أشباه الرجال ، وأشباه المثقفين فليسوا بفنانين ، بل مفسدين يريدون أن يخرسوا كل من يكشف فسادهم المهنى
والأخلاقى ، فهم لا يؤمنون إلا بفكرة واحدة هى : " نشر الرذيلة " ( فعل
الغوغائية ) .. في كل عمل مرئى أو مسموع
يفعلون ذلك بهدف نشر صورهم وكلامهم في الصحافة ، والحصول على أرباح طائة من وراء
عامل الجذب والمثير " اللاأخلاقى " لشريحة كبيرة في المجتمع
" شريحة الشباب " .
الويل لهم من المجتمع المصرى ، الذى سوف يسود التاريخ
صفحاتهم السيئة ، وسيقف المثقفون لهم بالمرصاد ، ليعيدوا الحق لنصابه ويحموا المجتمع من أوهامهم
وخيالاتهم الواهنة ، ولن يصمت العلماء ، ولن يغفل المجتمع كله عنهم .
وهذا الجيل من
الشباب يجب حمايته من نفسه ، ثم حمايته من تحديات المرحلة الراهنة ، ثم حمايته من
الانجراف وراء هذا الانحطاط ...,. ماذا يعنى الالفيلم الملئ بالبذاءات اللفظية
والمرئية البكاء على فيلم ملئ بالبذاءات وانحطاط
الصورة الإشهارية ؟
إنّ السخرية المتعمدة في الإعلام المرئى من العلماء
والمثقفين عن طريق بعض ما يتصل بهم كملبسهم ، أوسميّة كتبهم ، ليست وليدة اليوم ، فقد عرضت في ستينيات القرن
الماضى مسرحيات كثيرة كانت السخرية فيها منصبّة على رجل مثقف يلبس زيا غريبا ، ووقف بعض العلماء لهذا الهراء حتى غاب المشهد من
على خشبة المسرح ، وظلّه باق في عقول بعض الناس من المستغربين والمفسدين والمخربين
.
أليست هى دليل على التراجع الإبداعى الذى تعيشه الأمّة
، ودليل – أيضا – على انحطاط ذوق الشارع المصرى الذى يُقبل على هذه الأفلام ، وفى
هذا دليل ضمنىّ على قبوله لهذا الانحطاط ؟
ماذا جرى للإبداع في مصر ؟
حين يقبل الشباب على
هذا الاسفاف " المرئى والمسموع "
، أين عقلاء وكبار رجال ونساء الإبداع الحقيقى حتى يصمتوا عن هذا الانحطاط
، الذى يسئ لنا جميعا ، لا أخفيكم سرا أننى عندما أسافر إلى البلدان العربية أشعر
بالخجل عندما يذاع مثل هذه الأفلام في القنوات ؛لأنهم ينظرون إلينا نظرة ريبة وشك
، وأقول في نفسى ربما معذرتهم أنهم يشاهدون هذه الأفلام السيئة .
وفى حقيقة
الأمر لو سكتنا على هذا الهراء لظهر الأسوء ، وترحمنا على : بحبك يا حمار ... وكمن
ننه ، والدح دح بو .... إلخ ، وعلى الأفلام التى تظهر الزانى وشارب الخمر في صورة
العاشق المسكين الذى يتعاطف معه المجتمع ، وعلى الرعب المخيف الذى يدمر الأبناء
...والذى يجسد تدهور الأوضاع العربية ويا أمان الخائفين .
لا أعرف كيف غفل أو تغافل أو تغابى المنتج والمخرج عن
هذه البذاءات بدعوى أن هذا واقع المجتمع ،
وهذه تقنيات " الإبداع " ، إن النص الإيمانى يحتوى على تشريع منظم
ومتكامل في الفكر الاجتماعى والدينى ، فمثل هذه الآراء تدفع بعض الشباب بنزعة شيطانية أكثر من النزوع الأخلاقى ،
فتتحول سلطة الإبداع إلى جريمة توقع بالمجتمع ، فعندما يقتنع بعض الشباب بهذه
المشاهد ، فيسعون إلى تحقيقها وتطبيقها على الواقع ، وهذا ما رفع سقف الانحطاط
الأخلاقى في المجتمع ومعدل الجريمة .
إن أعظم أداة لتحطيم الأمة خلخلت فكرها وانتكاس منطقها ، فهل القضية هى أن تقول الرقابة : لا ... أو نعم ... لهذه الأعمال ؟
لا ... طبعا.. . لأننا نريد من البداية ألا يصنع مثل هذا ،
ولذا فإننا نتسائل كيف وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المؤسف ؟ ولا بد أن نصغى
باهتمام كبير لأى صوت مرتفع أو منخفض يلعلع ويجلجل في المجتمع ، ولا سيما لو كان
مصدره الأزهر الشريف .
حتى لا يسمع ذلك الصوت غيره من الأصوات المتشنجة ، ولا بد
وأن نجدد السؤال مرة أخرى : ماذا حدث لكل هذا ؟ لا بد وأن يعلم الجميع أن هذا
الصوت الذى خرج من الأزهر منخفضا ثم ارتفع
يدل على أن شيئا ما خطأ قد حدث ، وهو بالطبع ضد طبائع الأمور ، وضد الطبيعة
الإنسانية ، حتى لا يستيقظ المجتمع بعده
على الانهيار الأخلاقى ، وهو الحصن الحصين لهذا المجتمع ، وبانهياره ينهار المجتمع
.
نعم : لا بد أن يبرر كل صوت وجوده ، وارتفاع الصوت يعنى
الشكوى وطلب التغير ، والثوابت لا تتغير في قيمنا ومبادئنا الإسلامية ، ويجب فجأة
أن تكون هناك معركة أو قضية معلقة يجب البت فيها ، " قضية الإبداع وضوابطه
" ... لأنه قد يكون الفلم وحشا صنعه
المؤلف ، وعليه ألا يتصور أنه يصنع وحشا يهدد به الخصوم ، ولا ينقضّ عليه
في يوم من الأيام ، فقد يكون المبدع مقاوما للرذيلةِ ، وحدث له بعض الأخطاء عند تفسير الحوادث ، فيقوّم من أهل
الفكر والدراية بالمجتمع بأن يزيلوا تلك الألغام لحماية من وضعوها أولا ، ومجتمعهم ثانيا ؛ لئلا يسهو أحدهم فيضع قدمه على لغم يودى بحياته ،
وما أكثر الذين أودى العنف الفكرى بحياتهم ... فضلا عن العذاب الأليم الذى ينتظرهم
في الآخرة " إنَّ الذينَ يُحبونَ أنْ تشيعَ الفَاحشةُ فِي الذين آمنُوا لهم
عذابٌ أليمٌ في الدُّنيا والآخرة والله يعلمُ وأنتم لاَ تَعلمُون " ( النور /
19) .
وفى النهاية نقرر أن مزيّة ثقافتنا أنها ملتزمة ، ولا يعنى
ذلك الانطواء وترديد تراثِ الماضى ، وغلق الأبواب على الجديد ، وإنما الالتزام
الذى أعنيه ، أن ثقافتنا تحكمها ثوابت ، ليست عائقا لهاومعطلة ، وإنما هى حماية من
الانزلاق وراء تيارات ضررها أكثر من نفعها .
والله يسترنا فوق
الأرض ، وتحت الأرض ، ويوم العرض وساعة العرض ، وأثناء العرض .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق