الساعة الذهبية
ولد عبد الله عبد الطيف (الجزائر)
وضع حقيبة اليد على كتفه الأيمن وطوح شعره المنسدل على أذنيه إلى الخلف و مشى بخطوات واثقة ثابتة بين الأبنية الفخمة المتراصة على أطراف الطريق , كان شابا سائحا يتأمل هندسة البنايات بإعجاب و شغف و رأى الطابع المغربي متمثلا في وجهاتها المتميزة بالنقوش و الفسيفساء ,مر بمحاذاة فنادق فخمة ترفرف أعلام مختلف الأقطار عند ناصيتها و نظر إلى الساعة في يده وكانت العقارب تشير إلى الساعة العاشرة صباحا.خطى بضع أمتار ليجد نفسه في ساحة كبيرة تتقاطع فيها عدة طرق رئيسية,و وقف برهة من الزمن ليقرر أي السبل سيسلك, ثم رأى نفسه بعد دقائق في أحد الأحياء العريقة ذات الطابع الكولونيالي . و في أثناء سيره بين تلك الأبنية القديمة اصطدم بشخص أمامه فانتبه على الفور والتفت أمامه و قال:
- المعذرة سيدي .
-كان رجلا يناهز الخمسين من العمر أسمر البشرة يشوب شعره بياض أضفى عليه هيبة الكهولة و كان يضع نظارات طبية تدل هيئته على الوقار و الرزانة, و قبل أن يهم الشاب بالانصراف أوقفه الرجل بقوله:
- دقيقة من فضلك .
- نعم تفضل .
-كان التوتر والقلق باديان على ذلك الرجل لما اقترب منه و راح يقول بصوت أودعه كل رزانته و هدوءه ببراعة فائقة:
-آسف لمقاطعتك و لكني بحاجة لبعض النقود و أنا في عجلة من أمري, ثم أدخل يده في جيبه و أخرج منه ساعة ذهبية ووجهها نحو الفتى لتكون قريبة من نظره ثم استطرد يقول:
-أنا أعمل في مجال النفط وجئت لزيارة هذا البلد في إطار العمل و لكن سوء حظي كان السبب في ضياع حقيبتي في بهو أحد الفنادق و لم يبق لي مال لأعود به إلى الديار و قد أوشكت إقامتي على الإنتهاء لذلك أنا أعرض هذه الساعة الدهبية للبيع .
ونظر إلى الفتى في جد و هو يتفرس في ملامحه ليستطلع رأيه. فلم يهتد الشاب إلى جواب صريح و اندهش من كلام ذلك الرجل الغريب و ألقى في روعه شيئا من التعاطف و لكنه حالما رأى الساعة الذهبية شطح به الخيال بعيدا و تناما طمعه في اقتناص هذه الفرصة الذهبية التي لا تعوض,ثم انبسطت أساريره ة و ندت عنه شبه ابتسامة ونظر إليه و في عينيه بريق أمل وقال في تساؤل : هل أستطيع أن ألقي نظرة عليها ؟ فتفحصها بين يديه باهتمام ورقص قلبه طربا وشعر بدنو الفوز المبين و لكن الرجل بدا مضطربا و ظهرت عليه أمارات التعجل ثم عاد يقول في ثقة تامة :
-لست مجنونا لأبيع هذه الساعة بهذه الطريقة و لكن الظروف أبت إلا أن تكون هكذا و لابد من ما لابد منه و إن لم تكن مهتما فاتركني أجد أحدا يشتريها فإن الوقت ليس في صالحي.ثم تحركت شفتا الفتى في اضطراب باد واهتمام متزايد و قال:
-كم ثمنها ؟ و فجأة طرأ تغير واضح على ملامح ذلك الرجل الغريب و قال في اقتضاب :
-إن سعرها مرتفع في الأسواق ولكن ظروفي القاهرة أوعزت إلي أن أبيعها بثمن بخس لأعود بسرعة إلى الديار فلم يبق إلا بضع ساعات على ذلك و سأبيعها لك بثلاثة آلاف درهم فقط.
-ران على الشاب موجة طمع عارمة وأراد أن يغتنم موقف الرجل الضعيف ليساومه في ثمنها لعله يأخذها بأقل من ذلك فتنهد بتحسر مصطنع و قال في افتعال :
-ليت كانت الدراهم عندي كافية لشرائها و لكن اليوم ليس حظي ثم ساوم الفتى الرجل على ثمنها و بينما هم في ذلك مر رجل بهما تناهى إلى مسمعه صوت الفتى و هو يساوم و الساعة الذهبية في يد الرجل الغريب ,فلفت ذلك انتباهه وتنامى فضوله كلما اقترب منهما ,و كان رجلا بدينا قد نيف على الأربعين متوسط القامة,تظهر على ملابسه عنايته بمظهره و تألقه ,صوب نظره نحو الساعة الذهبية و قال :
-هل هي للبيع ؟ فهز البائع رأسه إيجابا ثم عاد يقول متسائلا: وكم ثمنها ؟و لما علم من الأمر ما كان ظهرت البغتة على الرجل البدين و توسله راجيا إياه أن ينتظره ريثما يذهب ليعود بالنقود لإقتنائها ثم ذهب مهرولا في الطريق إلى أن توارى وراء الأبنية و شاهد السائح الشاب كل ذلك على مرأى من عينيه و أوجس خيفة من أن تضيع منه هذه الفرصة التي لا تعوض. فأزمع على دفع الثمن بدون تردد وتم الإتفاق.
-مشى على الطوار الأيمن للطريق و ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة تنم عن السعادة و الرضا وتعاظمت فرحته لما اقترب من محل بائع الذهب و الحلي فزاد إحساسه بالنصر و مشى في خطو وئيد و لما انتهى عند المحل دلف إلى الداخل و عرض الساعة على البائع و حالما رآها رمق الشاب بنظرة شك و تساؤل ثم قال :
-إن هذه الساعة عادية فهي من الحديد بطلاء ذهبي و سعرها لا يتجاوز مئتين درهم . فبهت الشاب لهذا الكلام واتسعت عيناه من الدهشة غير مصدق لما آل إليه من احتيال, وخرج من ذلك المحل لا يلوى على شيء واضطرم وجهه احمرارا و غاصت تلك الإبتسامة العريضة في أساريره المتجمدة .
حث خطاه في المكان لعله يرى المحتال مرة أخرى و لكنه باء بالفشل بعد بحث مضني وشعر بالتعب و الإرهاق . و شعر بخيبة أمل تسري في عروقه فتجمد الدم فيها و عاد بمخيلته إلى الوراء يستحضر الأحداث فتغيرت سحنته و تحسر و لعن ذلك البدين و تذكر تمثيله و مساعدته في تصديق الخدعة باحتراف فتوقف الشاب عن السير مندهشا لما حصل معه في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر ثم تنهد من أعماق قلبه و تابع مسيره وهو يعض على نواجذه.
هناك تعليق واحد:
جميلة قصة الساعة هي قصة واقعية أحداثها جرت في المغرب الدار البيضاء
إرسال تعليق