2014/03/02

"حميدة ولدت ولد " قصة بقلم: فؤاد قنديل



"حميدة ولدت ولد "
 فؤاد قنديل

         قلبت كل حارة وكل شارع وكل عشة وكل  فرن وكل جرن وكل ساقية بحثا عن ولدها الوحيد وهو لها الدنيا كلها .. تشممت وتسمعت وتحسست كل المخلوقات الحاضرة والغائبة فلم تعثر له على أثر..اضطرت أن تسأل البحر فأنكر .. تصورت أنه هبط إلى القاع بحثا عن اللؤلؤ المدفون في زجاجة كبيرة بحجم رأس الثور تحت المقعد الذهبي  الذي تجلس عليه الجنية . الخوف كل الخوف أن تكون الجنية قد أخفت حَمَد في شعرها الذي يفرش قاع البحر الكبير ..  هكذا تمشت نحو الماء الأزرق المالح الذي يتراقص ويتقلب بصورة مخادعة وخبيثة .. تدريجيا شرعت تهبط عازمة أن تسأل الجنية عن حَمد .. لابد أن حمد عندها .. خفق قلبها .. ماذا عليها أن تفعل إذا هي الأخري أنكرت ؟. 

       رغم أن زوجها كان أنانيا وجاهلا وبخيلا وفاقدا للإحساس ولصا  وذا لسان بذيء وحشّاشا وكل العبر فيه ، فقد كانت حميدة -  لدهشة من يعرفونها -  لا تود أن يصيبه أذى أبدا، ولو كانت امرأة غيرها لتمنت أن يطلع عليها النهار فتجده قد اختفى من الوجود إذ سوف تري  بالتأكيد أنه أسوأ من خلق الله على وجه الأرض . لكنها كانت حميدة ولم تكن امرأة أخرى ، وعندما زارت الحي العجيب الذي تعيش حميدة  بين مستنقعاته الخضراء العفنة الدكتورة أستاذة  علم الاجتماع وسألت نساءه الحافيات عن رأيهن في رجالهن ، قالت المسحوبة من لسانها حميدة قبل الجميع " ضل راجل يا ست الدكتورة ولا ضل حيطة "  عندئذ حط الهم على الزائرة  ولعنت الأمثال الشعبية التي تشجع النسوة على قبول ظلم الرجال واستبدادهم ، ولم تتح الفرصة للنساء كى يفهمن معنى قولها : يجب أن تزول دولة الرجال .

     كان محروس زوج حميدة عاطلا ولا فخر ، والأدق أن يقال إنه كان يعمل يوما وينام بالبيت عشرة ، وكل عدة أيام يتحين فرصة زيارة حميدة لأهلها فيقلب البيت رأسا على عقب بحثا عن غنيمة تكون قرون استشعاره الملهمة قد سرّبت إليه خبرها  ، وألقت في روعه سر مال هنا أو هناك ، أو عما يمكن أن يتحول إلى مال .. حواسه كلها وخاصة أنفه مبرمجة فقط على المال أو ما يساويه في الفائدة ولا يعنيه شيء آخر.. في مرة فك خياطة المرتبة ودفس أصابعه التي تشبه كثيرا -  وعند السرقة فقط -  أصابع الجراح .. لمّا  لم يعثر على شيء اضطر لإدخال ذراعه الطويلة حتى الإبط وإذا به يعثر على أسورة من ذهب ، وفي مرة ساقته أنفه إلى خزانة الأواني في المطبخ ليجد بداخلها كيسا أسود وبداخله قطعة قماش نسائى تضوي بالألوان مثل رقبة الحمام  .. أسرع بحملها بعيدا عن الأوعية والزيوت والنار ولم يبخل عليها بالبيع لمن يستحقها أو لا يستحقها وهو يصب اللعنات على الجميع وأولهم طبعا حميدة .

       كانت حميدة تدخر بصعوبة ثمن خاتم بواقع شلن كل يوم تخصمه من مصروف البيت ، وتخفيه بعيدا عن يد محروس فاقد الإحساس فقد يلزم  ليوم أسود تشتد فيه الحاجة . وفي كل الأحوال يتصرف محروس بالبيع ولو بنصف الثمن ويحمل النقود كي يبعثرها على المتلطعين والمتنطعين بالمقهى حتى يبدو في نظر الجميع شخصا كريما يستحق أن يخسر له الكل أدوار الطاولة والدومينو ولو ليلة الجود فقط .شعور يتمناه دائما ولا يكاد يطاله..  وفي غمرة انتشائه بالمديح والنصر لا يشغل باله إذا كانت زوجته قد تناولت عشاءها أم ستكمله بالنوم ، وربما -وهذا ما يحدث في أغلب الليالي  -  تنتظره وقد أعدت العدس أو الشكشوكة أو الجبن بالطماطم أو الطعمية وأحيانا المسقعة ، لكن البيت ومن فيه أتفه من أن يخطر بباله. ونادرا ما عرف رائحة اللحم وفي الغالب يكون أبوها هو الذي أحضره.

      في مرة علم أخوها نجيب  أن زوجها ضربها ضربا مبرحا فاستدرجه بعيدا عن الحي مدعيا أنه وجد له عملا عند أحد المقاولين ، فقد عمل محروس بعض الأيام في هدم المباني القديمة ، وأحيانا كان يعمل مساعد نقاش وفي الغالب لص .. بعد أن ابتعدا نسبيا عن العمران بدأ  الفأر حثيثا يلعب في " عب " محروس لأنه يعلم أن نجيب ملاكم وعندئذ همّ بالفرار لكن نجيب قبض بسرعة مذهلة على زمارة رقبته وقبل أن يفتتح حفلة الضرب التي لابد ستعلمه الأدب  أدرك المحروس أن النهاية  قادمة في قبضة  صهره الشهيرة فحاول أن يتخلص منها لكن الخلاص من الموت كان أيسر ..اندفع يشتم ويسب ويصرخ ويقول :

-         خليك ماشي وراء الكذابين .. العيال تلعب بك .. اسمعنى الأول وأنا اعترف لك بالحقيقة

كان نجيب كالجدار الصلد ..لا يسمع ولا يري ولا يحس .. كان قد احتشد بالحالة التي يمكن أن يكون الضرب فيها متعة  وعندها يختفي الأهل والأحباب وينسي أخته نفسها .. أوسعه ضربا  لعله يرتدع وينعدل ذيله المعوج ، لم يتركه إلا بعد أن صار حطاما لا يكاد يقدر على منع فمه وأنفه من لعق التراب  ، ولما رأت حميدة زوجها وليس فيه ذراع أو ساق سليمة سألته عمن فعل هذا .. أجابها بكلمات مهشمة :

-          ليس غريبا ..إنه أخوك ابن الكلب وحياة أمه لأقتله                                 أسرعت حميدة إلى أخيها وقالت له إنه من اليوم ليس أخاها وعليه ألا يدخل بيتها حتى لو ماتت .

استعطفها أخوها بعد شهر حتى عفت عنه وبكت على صدره واعترفت إنها لا تستطيع أن تستغني عنه مهما جرى .

   مرت شهور وسنين حتى اضطرت حميدة إلى الموافقة على فكرة الطلاق التي ألح نجيب على ضرورة تنفيذها لأن المحروس لا ينفع في شيء مطلقا وعلاقته بالرجال مثل علاقة  النملة بالبغل والضرب في الميت حرام.

      الغريب أن زوجها الذي يبدو فوق كل عيوبه عقيما وليس له في صنف النسا ، زارها قبل إتمام الطلاق بأيام وشاركها الفراش على أساس أنها نومة الوداع ، فوجئت حميدة بعد أقل من شهر أنها حامل .. فكرت أن تتراجع عن الطلاق حتى لا يُربي المولود بعيدا عن أبيه ، لكن أخاها وأباها طلبا منها أن تساعد نفسها وتساعد أهلها للتخلص من بنى آدم بهذا المستوى ، لأنه سيظل سببا في تعاستها وتعاسة أهلها .

تم الطلاق واختفى الزوج  من الصورة إلا قليلا.. كان يعلن للجميع أنه يحب حميدة وعلى استعداد لتقبيل قدميها حتى ترضى .. تحن حميدة كلما كبر بطنها وسرعان ما يندلع جنونه مثل سيجارة ألقيت في محطة بنزين فتندم لأنها فكرت في العودة إلى حياة المهانة والذل .

     وضعت حميدة ولدا  ..  لما رأته زغرد  قلبها وكادت تطير من الفرحة لهذه الهدية الربانية  التي لم تكن تحلم بها ..  فرحت كأنها أنجبت من قيصر روما أو كسرى الفرس  أو كلينتون الحليوة المعجباني .. اقترحت جارتها  وهى تداعبها أن تسميه عبد الصمد طبقا للأغنية الشعبية  .. حميدة ولدت ولد .. سمّته عبد الصمد .. فكرت حميدة ليلة بكاملها في اختيار اسم له ، وإن ظل عبد الصمد يراودها ويشاغلها حتى التقطت اسم  جد جدها ..حَمَد ، فليكن اسم ولدها حمد على اسم جد جدها .. رضي أبوها جدا بالاسم الذي لم يخطر ببالهم منذ زمن ، ولم يحمله ولد رغم عشرات الأحفاد .

 أيقنت أن الله كافأها على طول صبرها بهذا الوليد الذي كلما مرت الأيام وهو ينمو بسرعة وتتبدى آيات ذكائه التي بكل تأكيد لم يرثها عن أبيه ، كلما شعرت  أنه أصبح زوجها وأخوها وأنيسها وابنها وأملها وهو الدنيا كلها .. صار السعادة كلها وغذاء الروح والقلب .. لا تفارقه ثانية  ، ولا تسامح نفسها إذا وجدته يبكى ، وبسرعة تحاول أن تهدئ من روعه فتغنى له الأغاني ، وإن لم تستطع أن تتجاهل أو تتجنب الأغنية الشعبية التي ذكرتها بها الصديقة :

حميدة ولدت ولد .. سمّته لله حَمَد .. مشّاته ع المشّاية .. خطفت راسه الحداية .. حد يا حد ..  يا راس القرد .. عسكر فوق وعسكر تحت ..اخص عليك يا بتاع البخت .

    بعد عام استيقظت حميدة في يوم متأخرة وكانت الناموسية كحلي فلم تجد ولدها نور عينيها في حضنها كالعادة  .. هبّت من سريرها تبحث عنه تحت الدولاب وداخله. تحت السرير وفي الصندوق الكبير .. تحت المنضدة والكنبة .. في الصالة وفي المدخل .. صعدت إلى السطح تفتش في عشة الفراخ وفي كل مكان .. صرخت وولولت وجرت مكشوفة الرأس تدفع أبواب البيوت وتنادى وتسأل وتصرخ وتواصل البكاء . ساعدها شباب من الجيران كى تسأل في المستشفيات وأقسام الشرطة فلم تجد له أثرا.

    لم يكن أمامها إلا أن تبلغ الشرطة وتحرر محضرا باختفائه .. سألها الصول عشرات الأسئلة وحولها على الضابط .. من إجاباتها  مال الضابط ذو النجوم الثلاثة مبدئيا  إلى أن الجريمة تتجه بأصابعها إلى اتهام أشخاص عديدين ، قد يكون منهم زوجها السابق وقد يكون منهم رجل ذو لحية يسكن الحي طمع من قبل أن يتزوجها على زوجاته وصدته فلم ييأس..  اضطرت أن تقطع عرقا وتسيل دما فطردته أو ما يقرب من  ذلك .  وقد يكون منهم مسجل خطر كان قد اتهم من قبل كثيرا بسرقة الأطفال الذين هم في سن حَمَد أو أكبر قليلا لكنه كثيرا ما كان يخرج من كل القضايا كالشعرة من العجين .. تمنت حميدة على الله أن يَمن على الضابط بخمس نجوم دفعة واحدة إذا رد إليها حَمَد . اقتنعت أن الشاب  سوف يساعدها لأن وجهه ينطق بالمروءة .

     لمّا سألت الشرطة الجيران .. قال أحدهم أنه رأي في صباح اليوم ذاته الذي غاب فيه الولد اثنين من أهل الزوج السابق يمران بالشارع الذي تقيم به حميدة  . وقال ثان إنه رأى امرأة منقبة تخرج من بيت حميدة وبيدها لفة . لم تصل الشرطة إلى الطفل ولم تستدل على سارقه.

    وهكذا توفرت لحميدة كل أسباب الجنون ، لأن وليدها الذي في رأيها لا وليد مثله والذي هو بالنسبة لها الرجل والابن والأخ والأب والونيس والدنيا كلها قد اختطفته الحدأة  المجهولة التي لم تمسك بها الشرطة بعد ، والتي لم تعد مجرد كلمة في حكاية أو أغنية بل حقيقة مُرةعلقم  طعنت حميدة بجد في قلبها وسوّدت عيشتها .

   وهكذا تمر الشهور  وحال حميدة يسوء فلا بقى الزوج السابق ولا بقى الوليد الأمل ، وقد شغلها الغائب عن أحوالها وعن بيتها وطعامها وهندامها .. الدنيا كلها فوضى وبلا معنى  .. مضت على وجهها حافية تجوب الشوارع والأزقة .. تحدق في كل وجه حتى لو كان وجه عجوز فقد يكون حمد .. حمد الذي تمنته من الدنيا ذهب وتركها تضرب كفا بكف بينما صار هو مثل رمش عين طيرتها الريح .

     وهكذا تصورت  في لحظة - وكان العقل قد أصابه الكثير من التشتت -  أن حمد ذهب إلى البحر يسبح وراء السمك فانطلقت وراء هدفها الذي له ذيل سمكة   ، ولمّا اقتربت من البحر ولم تجده سألت البحر فأنكر .. وهكذا تصورت أنه هبط إلى القاع بحثا عن اللؤلؤ المدفون في زجاجة كبيرة تحت المقعد الذهبي  الذي تجلس عليه الجنية . والخوف كل الخوف أن تكون الجنية قد أخفت حَمَد في شعرها الذي يفرش قاع البحر الكبير ..  وهكذا تمشت نحو الماء الأزرق المالح الذي يتراقص ويتقلب بصورة مخادعة وخبيثة .. تدريجيا شرعت تهبط عازمة أن تسأل الجنية عن حَمد .. لابد أن حمد عندها .. خفق قلبها .. ماذا عليها أن تفعل إذا هي الأخري أنكرت؟

      في آخر لحظة سمعت الهتافات  والصرخات .. التفتت خلفها ورأت مشهدا لم تتخيله  .. كان عشرات  الآلاف يحملون حمد ويرفعونه إلى أعلى ويلوحون لها كي تخرج .. وقفت مذهولة وغير قادرة على أن تصدق ما تراه.



ليست هناك تعليقات: