"القناص" لخيري عبدالعزيز.. أحد القصص الفائزة بجائزة كتاب اليوم

القناص

خيري عبدالعزيز

    دلف بجسده الممشوق إلى العمارة الفارهة.. الخطوات مستقيمة والنظر للأمام.. كل خلاياه في أوج يقظتها.. أصاخ السمع دونما توقف. آتاه شخير البواب منتظما.. ارتقى السلم, انطوى سريعا تحت قدميه, في لحظات كان بالطابق الأخير.. محترفا كان؛ فلم يستخدم أيا من المصعدين الرابضين بالأسفل منعا للجلبة, ولم تصدر عنه أدنى هفوة أثناء صعوده الأدوار العشر بقفزاته الرشيقة..

   على أعتاب باب الشقة الشرقية؛ رمى بأذنيه مليا. جاست عيناه يتأكد أن لا أحد يتابعه؛ فيجد النوم طائرا خرافيا, يهيمن على المكان. شقق ثلاث عامرة, مجاورة للشقة الخالية من أصحابها. بالأمس توجهوا ليصطافوا بالساحل الشمالي.. لم يصمد الباب طويلا تحت مهارة يديه, فلان وانفرج على مصراعيه..

   اخترقه الاحتراف كجرثومة منذ الصغر, لم يكن يدرك أن لهوه البريء هو تدريب مسبق لصيرورة حياته, وقت أن كان يسارق بواب عمارة مشابهة ليمارس لعبة الصعود والهبوط بالمصعد.. استهوته فكرة أنه لا مع أهل الأرض ولا مع أهل السماء.. بندول مبتهج, مفعم بالسعادة والأمل, يتطاوح في الهواء.. كان يذهب في ساعة كتلك, حيث اعتاد البواب النوبي أن يخرج لقضاء حوائج السكان, كان خادما متعدد الاستخدامات, أسودا كالليل..

   والعمارة رابضة على أعتاب حيه الشعبي الموغل في الفقر.. سيد يتقدم حفنة قذرة من العبيد, أشباه بيوت متناثرة على الأطراف, متكدسة في المنتصف.. ما كان يطبب نفسه قليلا, فيما يقف مشدوها أمامها, يقارن بين العقار الشامخ والأعشاش القذرة يطن عليها الذباب وتحوم من حولها الكلاب الضالة؛ أنه ثمة من هو أحسن منه حالا في هذا العالم؛ يقصد البواب.. طيف ابتسامة تزيح مرارة رابضة, وتلمع للخاطر.. يهز رأسه في محاولة للتخلص من أطياف الذكرى, يتجه صوب النافذة الشرقية بالصالة الفسيحة.. من الخصاص الخشبي, يستطلع زاوية الرؤية, لمعة بالرضا تحتل لوهلة عينيه الشبيهتين بعيون السمك, كل شيء كما قدره تماما, الزاوية عبقرية, وقنص الصيد لا محالة فيه.. من حقيبته السوداء الصغيرة, يخرج أجزاء بندقية قنص.. شرع في تركيبها في سرعة ومهارة..

    بعدما انتهى تلقفه الشفق الوليد..

    مع الشفق والغسق كان المشهد ينطق بالنشاز. عقله الصغير خاطبه, أنه طالما اجتمع الجمال والقبح في مكان, فإن في الأمر مغزى.. أخبره أباه, الذي كان يشتغل فتوة للحي, أن صاحب العمارة كان صديقه في وقت ما, يقطن معهم في ذات الحي, ببيت أشد قذارة من بيتهم.. اتسعت عيناه البريئتان من هول ما سمع. دمدم بصوت مبهور خفيض, ما زال صداه يتردد في ذاكرته:

   "حقا يا أبي.."

   استطرد أباه, فيما يشيح بوجهه:

   "ذات يوم هبطت عليه ثروة لا يعلم مصدرها إلا الله.."

   ومع أن عينا الأب كانتا متصلة بحديث, ود لو يسمعه, بيد أنه صمت. ولما شب الغلام أدرك أنه ليس أشد من أن ينقلب حال أحد من جلدتك, وأنت قابع كما أنت تطارد الكلاب الضالة وتعف الذباب.. أن تتسمر خلفية رثة لثراء فاحش يتصدر المشهد.. تتغير الوجوه وتتبدل, وأنت كما أنت مجرد "كومبارس" فقير بائس لا يملك الكفاف..

    ولم يشأ الرجل أن يذهب, ظل ماثلا أمامهم, يشرئب عليهم من برجه المهيب, يشهد ليل مساء على مدى حقارتهم وبؤسهم..

   فسر له أحد عجائز الحي الأمر بطريقة أكثر فلسفة. كان دودة كتب, شديد البؤس, شديد الفقر, لم يُكتب له أن يرى النور, فظل قابعا في حجرته يراقب ويتأمل. قال:

   "يا بني؛ الرجل يريد أن يشعر بعمق الاختلاف, هو بين أمثاله من الأثرياء الجدد لن يشعر بجديد.. بيننا هو طائر يحلق في السماء.."

    تاهت نظراته في العدم للحظات, تلمست في أوبتها صفوف كتبه العتيقة.. أردف:

    "هناك من البشر من تنبع سعادته من بؤس الآخرين.."

    أثناء خروجه ذات يوم مندفعا, بعدما فرغ من لهوه بالمصعد, اصطدم بالصديق القديم على درج عمارته الفارهة.. الرجل يضاهي العقار تعاليا وغطرسة.. ابتسم له في بلاهة خجولة, فقابله بتجهم, وشذرات من شرر اتقدت به عيناه.. اقشعر بدنه الصغير, وفر وكأن شياطين الأرض تلاحقه.. في المساء تلقى البواب الجنوبي صفعة عنيفة, ووابلا من الزجر والتعنيف, وكاد يطرد.. في الأيام التالية تربص النوبي به, وعندما فتح باب المصعد للمغادرة, وجده أمامه, وقد كان يظنه في السوق يمارس طقوس عبوديته الصباحية.. صفعه البواب, وركله, وطرده شر طردة.. من بين دموعه التي انسابت, وهو متكور على الدرج الرخامي, رأى النشوة والزهو, يعصفان بالنوبي, فيما يرتفع به المصعد.. كره بوابي العمارات, وبعدما كبر وفهم حقيقة المؤامرة؛ تحولت كراهيته لصنف آخر من البشر. البلد ممتلئة بمن يستحقون الكراهية.. محدثي النعمة بلا سبب معروف, كم يتلذذ من تآمرهم على بعضهم البعض, وهو الأداة في يد من يدفع أكثر.. أباه كان شريفا, كان فتوة, وكان رجلا.. هو الوحيد الذي وقف في وجه الرجل, عندما أراد أن يستولي على منازل فقراء الحي في الطرف المقابل لبرجه الأول؛ ليشيد مكانها برجه الثاني.. الرجل يريد أن يُحكم الخناق على العبيد ويحتجزهم في المنتصف.. هو الإحساس بالتلذذ من دونية الآخرين لا شك, كما وصفه العجوز دودة الكتب.. الرجل أصابه المال بالسعار, نفسيته تحتاج إلى طبيب نفسي, ولم يكن لفتوة بسيط كأبيه أن يتفهمها, وهو يقف خاليا عاري الصدر؛ عدى "نبوته" رفيق الدرب, أمام "الجرافة" العملاقة.. في المساء أصر الأب عليه بالمبيت عند خالته.. في الصباح وجده ذبيحا في فراشه, وحيدا مع نبوته.. لم توجه التهمة لأحد. تسمر من كان يدافع عنهم صامتين, وهم يعلمون عن بكرة أبيهم أبعاد المؤامرة. عندما شب قليلا فهم هو الآخر. أول عملية قام بها كانت بالمجان, كانت من أجل تصفية حساباته القديمة, طلقة جاءت في المنتصف, تماما بين العينين.. النوبي نجا منه, كان الموت قد اختطفه مبكرا..

   القتل الأول أصعب القتل, ولكنه يصيب بالسُعار, كما المال تماما, الباكورة الأولى لحمم بركان الغضب.. الثقب الدقيق في منتصف الجبهة لم يكن ليغيب عن ذهنه, اقتحمه مثل شمس أبدية لا تعرف الغروب, والدماء التي تدفقت, نهر بربري متوحش في فيضان مستمر.. والثقوب تتراص, وأنهار الدم تتوحد, والدائرة تتسع بلا مخرج, وجيبه الذي يكتنز بالمال في كل مرة ينفذ فيها مهمة, يسبب له سعارا إضافيا..

    شيد هو الآخر برجا على أعتاب الحي, في ذات المكان الذي دافع عنه أبوه يوما. يومها كانت السماء قريبة, والشفقة في قلبه أبعد ما يكون. مكث ينظر إليهم وينظرون إليه, ولم يتجرأ أحدهم أن يقف في وجه "الجرافة" حادة الأنياب هذه المرة..

    هو الانتقام؟!..

    ربما.. كما أنه يريد أن يتشفى فيهم عن قرب؛ فهم هم من وقفوا يوم النحر, لم تنبس منهم شفة.. وشيء من بقايا ضمير ظل يؤرقه, وهو الذي كان يجهز نبوته الصغير ليقف بجوار أبيه يدافع عنهم..

    وخاطر ظل يراوده, بعدما تلوثت يداه بالدم, وفي النوم يأتيه كابوس بشع؛ فينتفض فزعا, ويتمتم مثل عرافة أسطورية تستشرف الغيب, فيما يضع سبابته بمنتصف جبهته ويطلق بصوته جاف النبرات طلقة وهمية:

    "من قتل يقتل ولو بعد حين.."

    انتفض, جاست عيناه من خصاص النافذة؛ يستطلع حال الصيد, وجد الشرفة ما زالت خاوية.. هو على وشك الخروج, طوال أسبوع لم يحد دقيقة, دائما في تمام السابعة..

   الشفق الوليد تتسع رقعته, يبشر بانبلاج الشمس, يأخذه رغما عنه, يتيه للحظات بين أروقة السماء, صفاء المشهد يزعجه؛ فليس هذا وقتا مناسبا!!.. وهل يعرف الصفاء قلبا في حالة انتقام لا نهائي؟!!..

   هرب إلى ساعته. العقربان يشيران إلى تمام السابعة. يخرج الرجل حاملا قدح القهوة الصباحي.. تبرق عينا الصياد فيه, يتلمس بندقيته, يسند كعبها إلى كتفه, يضبط المنظار على منتصف الجبهة, يهُم باعتصار الزناد.. الهدف يتحرك بلا سبب يعلمه. عدسة المنظار عالقة في فراغ الشرفة. أخيرا يجد هدفا بديلا؛ طفلا يحتل العدسة في هذا التوقيت الحرج.. عاود التصويب على الجبهة, ينكفئ الطفل على أبيه يحتضنه, ويلثم جبهته.. تماما في المنتصف..

   وضع البندقية جانبا.. غامت عيناه بالدموع.. اختنق بها.. انهمرت كما سيل جارف.. أطاحت في طريقها بكل سدود المقاومة.. كان يبكي أبيه الذي لم يبكه يوما.. تمتم:

-      "كم أفتقدك يا أبي..".