بقعة
الزيت
سطور في مدخل رواية " دولة العقرب "
لفؤاد قنديل
الجسارة اعتادت أن تتقاضى ثمنا باهظا من صاحبها في
العهود التي لا يكون للإنسان فيها أي ثمن
****
العروس المزينة بالبهجة والمجد والتاريخ
والحب والشعر والتي يرقص لها البحر والموسيقى والشباب والعشاق .. الإسكندرية المدينة العامرة بأعلام الصوفية
وأولياء الله الصالحين والعُباد والثوار والمارقين والحكائين والرحالة وكل من
يتمدد على شواطئ بحيرة المتوسط على مدى
يزيد على ألفي عام من الإسكندر حتى الشابين المهذبين الحالمين خالد سعيد وسيد بلال
الذين عبّدا الطريق بالغضب لثورة يناير
المصرية في 2011.
في الإسكندرية تنافست ثلة من الجنود بكل
إخلاص في الدفاع عن هيبة الدولة والقانون
عندما انهالوا ضربا على خالد سعيد في مقهى انترنت بحجة الإمساك به متلبسا
بتعاطي مخدر الحشيش .. حضر صاحب المقهي واعترض وطلب منهم مغادرة المقهي فهو مكان
للرزق كما لا يصح الاعتداء على شخص بريء بهذه الطريقة.. على مضض وبملامح متقززة
خرجوا وفي حوزتهم الشاب صاحب الوجه البريء إلى منزل مجاور حيث أوسعوه لكما حتى
تحطم فكه وتناثرت أسنانه وتدلت على جباههم وخدودهم المتشنجة وأعناقهم المتصلبة
عناقيد العرق مثل قنوات رفيعة من مياه باحثة عن مساربها وهي تتلوى هابطة من فوق
جبال عالية وصخرية .. كان ظنهم أنه دس
المخدر في شدقيه محاولا ابتلاعه. يجب أن
يعثروا عليه لينالوا رضا الضابط الذي أمرهم بإحضاره فثمة اشتباه في تعاطيه. أما سيد
بلال السلفي ذو اللحية الكثيفة فقد مال الضباط إلى الشك في أنه من فجّر كنيسة
القديسين فقبضوا عليه ودقوا عظامه حتى فارق الحياة .. من يتعرض لأى اشتباه يفقد
على الفور بشريته في نظر الشرطة. لا يدري أحد بالضبط السر في أن الغيظ ينهش قلوب
الجنود الذين لا تعنيهم القصة برمتها .. لكنهم يندفعون في الضرب والتمزيق والكسر
خاصة عندما لا يبدي المشكوك في أمره قدرا كافيا من الاحترام للجنود الملائكة الذين
يتولون حماية الوطن والأخلاق.
لم يعرف أحد لماذا اختفي رضا هلال الصحفي
الجسور الذي مضي لسنوات يكتب ويصرح ويتكلم في كل محفل ضد النظام الحجري المتماسك
وقد فاته أن الجسارة اعتادت أن تتقاضى ثمنا باهظا من صاحبها في العهود التي لا
يكون للإنسان فيها أي ثمن .. أين اختفي
وكيف تلاشي على النحو المريب ؟ .. لماذا تقطعت كل السبل التي كانت تحاول الوصول
إليه ؟ . كلما اجتهد أحد من أهله أو أصدقائه لبلوغ الحقيقة أقيم فجأة جدار عازل
يشع تهديدا وينفث نيران العقاب المنتظر!! . أما حالة صديقي المناضل عبد الحكيم
سلامة فقد اكتفوا بتحطيم عظامه جميعا
وطعنه نحو عشرين طعنة بعيدا عن قلبه ثم تخليصه من كل ملابسه وإشعال النار
فيها و تمزيق أوراقه وإطعامها للريح وإلقائه في صحراء مجهولة إلى أن اكتشفت الكلاب
جثته بعد أيام ، وأبلغت العابرين بجزء من فانلته الداخلية البيضاء المنقوشة ببقع
جافة من الدم مكتوم الصراخ .
بعد سنوات لم يعرف أحد من الذي اختطف ريم
وأين أخفاها ولماذا؟ .. لكننا جميعا وأنا بينهم بحكم الجيرة حيث نسكن في حي السيدة
زينب بالقاهرة لم نأل جهدا للبحث عنها ، وقد كنا نسبح في بحر من الظلمات بلا دليل
، حيث الموج الأسود طبقات فوق طبقات تفضي جميعها إلى المجهول . ريم وردة الحي دون
جدال . ننظر إليها جميعا بإعجاب لما تتمتع به من الجمال والعقل والشخصية والموهبة
. قبل أن تختفي قصدنا – أنا وهي و مجموعة من الأصدقاء - كل مقار مباحث أمن الدولة والسجون بحثا عن
زميلها ناجي الورداني . طرقنا كل الأبواب وأرقنا ماء الوجوه وأوشكنا على تقبيل
الأيادي دون أن نعثر له على أثر وكأنه
تبخر وتحلل منذ زمن طويل . كنت أتوقع أن تكون النتيجة قريبة مما انتهت إليه فمباحث
أمن الدولة في مصر غابة فوق الأرض وتحتها . مجموعة مغارات وسراديب ومذابح ومسالخ
غارقة في الضوء المظلم والنفوس المتعفنة التي تربت في بطون الشياطين . .. الأشجار النضرة تضربها بعنف رياح هوج غير
حافلة بتراتيل الملائكة ، ووعود السموات .
لا أحد ينكر أن في كل بيت بقعة زيت ذات سطح
ذهبي له بريق يتوزع في أنحاء كثيرة .. بقعة لا تستقر في مكان عيونها الحمراء
وأظافرها الطويلة . بقعة زلقة وناعمة وقادرة على التشكل والانسياب والابتلاع ، قد
تبقى في حدود المكان دون أن تغرق أحدا ، لكنها قد تتسع وتتمدد وتنفتح حتى تلتهم في
آبارها اللانهائية جبالا و أشخاصا أعزاء . لم يكن نبيل وحده أحد ضحاياها ولا
ناجي أو ريم ولا رضا هلال أو القبطان نجم
الدين ولا آلاف الشهداء . وعشرات الآلاف من الأحياء المسحوقين من أجل أن ينام
الطغاة ويحلمون بمزيد من السلطة والجبروت والملكوت .
تفنن الشياطين المرتدون ثياب البشر في تعذيب
ناجي في المعتقل ونقلوه بين سجون عديدة ، من بينها سجن العقرب الرهيب ، ربما
ليضللوا أهله أو يمسحوا بهم تراب الطرقات ويبللوا بعرق قلوبهم كل وسائل المواصلات
. الأهل يواصلون بلا يأس البحث والتنقيب
عن حبات القلوب لعلهم يستدلون بنور عيونهم وهتافات أرواحهم ودموع دعائهم إلى الله
على مصائر الأحباب التعسة غالبا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق