مقتطف من رواية اتفاقية الساعة
بقلم: د.سوسن أمين
أقدار ..
أقولها من باب التسرية
والتخفيف عن من تأذى ولاقى الأهوال وعاد ليلقي بظلال
النكسة
علينا كغمامة سوداء تزيدنا همّاً فوق الهموم وإظلاما فوق ما نغرق فيه من ظلام وتعيد علينا المشهد الحزين مئات المرات .
- (صارخا بحدة) ومن سواه .. لتعرف كم كنت مخطئاً ..الزعيم
الملهم .. ها هو الجيش دمر ورجاله سيقوا إلى المحرقة فمن يدفع
الثمن.
سارداً مئات المآسي.. من مات ومن عاد حطاماً ..
أصدقاء وزملاء .. أرواح زهقت بالآلاف
ومفقودون هنا وهناك وتدمير أسلحة
بالملايين .. وهزيمة تدرس
للأجيال وضياع سمعة خير أجناد الأرض..لماذا لأن المصير بيد معدومي
الخبرة.
- أنا معك.. فلقد امتلك
ناصية الخطاب السياسي وترك العسكري بالكامل ..لكن ألا يكون الصالح
العام أستدعى هذا ..
- إطلاقا.. المسألة محاباة
أهل الثقة على حساب أهل الدراية..التماسا للولاء .. الأمر كان يتناقل على
ألسنة الضباط لكن من كان يستطيع إيصال الأمر إليه.. لمصلحة من
إبعاد الكفاءات العسكرية.. لمصلحة من تجريد الجيش من قياداته الكبرى..أكان
يخاف
أن يظهر له شخصيه تناطحه الأمر.. لكن كيف.. وهو من يومه الزعيم الأول والأوحد على
الأمة..تخيل قواعد الصواريخ
معطلة يوم خمسة يونيو لأن القائد العام في السماء.. هل هناك استهتار أكثر
من هذا.
- أرجوك كفاك ..ستنهار .
لاشك أفقدتنا الهزيمة
الاتزان .. و قلبت موازين الأشياء ..كان لابدَّ أني أنا من ينهار
وأمثالي
ممن ناصروه بفكرهم وأقلامهم وصدقوه حتى
النخاع ..لكن ها أنا أجلس هادئاً رزيناً وهو مثار يكاد يقطر دما وعلى وشك
الاحتضار.. من كان لا يطيق عليه انتقاداً
أصبح فجأة له القاضي والجلاد
ويريدها مقاصل في كل مكان ..لكن هذا ظلم
ومحض الافتراء إن مر هاجس الخيانة على فكره ولو للحظات فالزعيم فقط خانه التوفيق فهل ننسى له كل الإنجازات
.. ليأتي صوته المتحشرج كالخارج من إعصار ليسحبني معه لبحر من
الشرود والمتاهات العميقة.
-
لقد ضعنا
يا جلال
.
يخفى وجه بين
يديه
وأنا مذهول من حاله وملتاع.. كم يعاني وأي انقلاب..ليرفع يديه عن عينيه فإذا هما نهرين من دماء .. يحاول إخفاء بكائه لكن هيهات.. يسرع
في طريقه للباب معلنا عدم مقدرته على
البقاء فقد خارت قواه من تضارب الانفعالات.
أوصيه أن يحترس لنفسه
ويتوخى الحذر..فيوصيني أن أنسى الرجل وألا أتعلل له بالقدر.
-
(أسأله
بحسرة )..أتراهم ؟
- (بنفس الحسرة).. تفصلنا القنال .
أغلق خلفة الباب وأنا في غاية الحنق والاعتلال.. لا أعرف ماذا أريد هل أدق رأسي بالحائط
أم أقفز من الشباك لإنهاء لحظة فيها الموت خير من ألف
حياة .
ë ë ë
تغيرت الدنيا من حولنا في
أيام ..وفد
علينا أناس جدد من كل مكان.. من تركوا منازلهم
في بلدان القناة وأتوا مهاجرين
ومهجَّرين إلى القاهرة الأم.. جيهان وأبوها الذي ترك عملة كمرشد في هيئة القناة
وأمها التي تتمثل فيها كل سمات المدن الساحلية والصفات العصرية بضراوة..التحرر والجرأة
وارتفاع الصوت .. كانت بسمرة وجهها وجسدها الذي بالرغم
من امتلائه في غاية النشاط والحركة كالدينمو
بعكس زوجها الذي كان كترس بطيء في ماكينة معطلة . كان ببشرته الناصعة البياض
وعيونه الزرقاء وصمته أقرب إلى تمثال
الثلج منه إلى رجل تجري فيه دماء حارة..
أخذت جيهان وأختها منار منه كل شئ بعكس أخيهم حاتم الذي كان نسخة من أمة طبق
الأصل. تركوا بيتهم ببورسعيد بعد إغلاق القناة وأتوا للاحتماء من الدمار والقذف
الذي أصاب المدينة في العمق.. استئجارهم لشقة بالدور الثاني جعلهم ملاصقين لشقة
الأستاذ إبراهيم الذي أستضاف هو الآخر أخته وابنتها .. جاءت من
السويس لتلحقها
بالمرحلة الثانوية وفرارا بها من بلد
هجرها ساكنوها وأظلمت على من فيها تاركين وراءهم
الجد الذي أصر على البقاء.
حين دعتني درة للتعرف عليهم أجبتها على
الفور .. فما بيننا من محبة تستدعى هذا .. ترى استشهاد
أبى عليها ديناً .. جمعنا اليتم صغارا من الأم والأب فأصبحنا رفيقتا درب واحد أسمه
الصبر.. ما من مرة اجتمعنا فيها إلا
و ناقشنا قضية الوطن السليب وقهر شعبه بالقوة.. وفقد الأحبة. كم من مرة يستحضر
الإنسان لحظات من أعماق الماضي أثرت في
تفكيره وتكوينه الوجداني علهَّ باستدعائها يعيد للحياة من عالم آخر شخوصاً لو كانت عاشت
لتغيرت الدنيا. عاشت
مثلى فريسة الخوف والفزع.. احتضان كارمن لها ومعاملتها كابنة لم يحميها من
عذابها والهواجس التي لفتها والتصقت بها كجلدها لأن كارمن نفسها كانت فريسة فزعها
من أخيها ميشيل وأسرتها .. توعدهم الدائم
لها بالأذى صهرها في بوتقة من الترقب والهلع. فما كان منهما إلا أن اقتسمتا
رعبهما سويا فزادت الطين بلة .
ë ë ë
قطع الرنين صمت الجدران
وخرس لساني الذي ألجمني منذ أيام.. معتقل بالرغم مني داخل ذاتي ليزيد الصوت الآتي من تيهي وشتاتي..
- الكل رحل يا جلال
..بيروت.. قبرص ..اليونان..أي مكان غير هنا..الشعر والمسرح خلاص..من يستطيع أن
يكتب وإن كتبنا ماذا نقول وإن قلنا هل سيتركوننا.. الكل غادر .
- الكل غَادَر أم غَادِر ؟
- أهذا وقت التذاكي واللعب
بالألفاظ.. أنا راحل .. أنت حر.. ما كان عليَّ إلا البلاغ.
أنهى حديثي معه بزفرة أبلغ من الكلام ..
نعم يا نذير الخذلان.. نعم
السفينة الغارقة أول من يقفز منها الفئران.. عقمت البلد التي لها مثلكم أبناء يتنكرون لها ويغادرونها وقت الأزمات ..
كما غادرت الشمس سماء القاهرة وهجر القمر ليالينا وأظلمت الدنيا من حولنا وبتنا مؤرقين حيارى على شوك من حسرة
الندم و ذل الامتهان.. فما بالك بأهل
القرى والنجوع ..من أضاعوا السنين في كهف الآمال الزائفة و الأحلام .. من لم يشهد هذه الأيام لم يعرف الحزن في حياته..اكتست وجوه البشر بلون
غريب .. ما بين الطين والقطران.. لون لم نستطع أن نصفه أو نسميهً ..
لكن الأكيد
أن له علاقة بالعار.. إن كان للعار ألوان.
لتضيق بي الدنيا وأضيق بها
وبنفسي وبالجميع وأتقوقع وأصاب باكتئاب عنيف..زهد في الحياة وعدم رغبة في المواصلة
وسؤال يتخبط في عقلي من عدم الاتزان لا يكف ولا يهدأ ولا يثبت على حال.. كيف أهل
سيناء والقدس والجولان بعد صباح الاحتلال.. سؤال سيوصلني للجنون وفقد الحياة ..
وما من مجيب غير دقات قلبي التي فقدت الانتظام
وشهيتي التي ضاعت
مع ما
ضاع وعصبي الحائر بيني وبين الأوضاع..
وارتفاع ضغطي البائس وهبوط وزنى اليائس
وأخيراً وليس أخيراً ظهور ما ورثته مع المال وكان يخفيه الاستقرار فإذا به يسطع
ويرتع ويضعني تحت إمرته ويقول ..أركع.. وبالرغم من اسمه الجميل.. فقد كان فعله كله
التدمير ..لكل أعضائي ..من شرايين و أعصاب
وعينين وإذا بي أصبح لداء السكري مرعى
والعافية ذكرى .
ë ë ë
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق